العنوان هنا
دراسات 15 ديسمبر ، 2013

القومية الغربية والقومية الشرقية: هل ثمّة فارقٌ مهمّ؟

الكلمات المفتاحية

بِنِدِكت أندِرْسن

​وُلد عام 1936 في كونمنغ، الصين، لأب إنكليزي-إيرلندي وأم إنكليزية. وفي عام 1941 انتقلت العائلة إلى ولاية كاليفورنيا. وفي 1957، نال أندرسون إجازة في الآداب الكلاسيكية من جامعة كيمبرج، ثم حصل على درجة الدكتوراه من جامعة كورنيل، حيث عمل بإشراف جورج كاهن على دراسة إندونيسيا الحديثة، قبل أن يغدو أستاذاً فخرياً للدراسات الدولية، والدراسات الآسيوية في جامعة كورنيل. وبندكت أندرسن هو شقيق المؤرّخ والمفكّر بيري أندرسن. وقد اشتهر بكتابه الجماعات المُتَخَيَّلَة، الذي نُشر لأول مرة في عام 1983، ثم طُبع طبعات عديدة وتُرجم إلى كثير من اللغات، ويصدر قريباً في طبعة منقحة ومزيدة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بتقديم من عزمي بشارة وترجمة ثائر ديب.

ترجمة: ثائر ديب

إنّها لمن النِّعَم أننا لم نعد نسمع كثيرًا عن القيم الآسيوية، تلك "القيم" التي كانت بلاغتها من الصفاقة حدّ التحوّل إلى عبارات ملطّفة يطلقها قادة بعض الدول تبريرًا للحكم السلطوي والفساد ومحاباة الأقارب. وعلى أيّ حال، فإن الأزمة المالية في سنة 1997  كانت قد وجّهت ضربة قاسية إلى زعم هؤلاء أنهم وجدوا طريقًا سريعًا إلى النماء والازدهار الاقتصاديين الدائمين. لكن أمر الفكرة التي مفادها وجود شكل آسيوي مميّز من القومية لا يقتصر على أنها لا تزال منتشرة بيننا على نطاق واسع، بل يتعدّى ذلك إلى أن جذورها تعود إلى أكثر من قرن من الزمان[1]؛ ذلك أن أصولها الأبعد تكمن على نحو واضح تمامًا في ما أبدته الإمبريالية الأوروبية العنصرية من إصرار سيئ الصيت على أن "الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا". بيد أن عددًا من القوميين، في أجزاء مختلفة من آسيا وفي وقت مبكر من القرن العشرين، راح يستخدم هذا الإصرار على قسمة عنصرية غير قابلة للعلاج، بغية حشد المقاومة الشعبية ضد سيطرة كانت حينئذ غريبة تمامًا. فهل لمثل هذه القسمة الجذرية ما يبررها حقًا، أكان على الصعيد النظري أم على الصعيد التجريبي؟

لا أعتقد، من جهتي، أن الفروق الأهمّ بين القوميات - في الماضي، أو اليوم، أو في المستقبل القريب- تنبع من الانقسام إلى شرق وغرب. وأقدم القوميات في آسيا – كالهند والفليبين واليابان- هي أقدم من كثير من القوميات الموجودة في أوروبا وأراضي أوروبا وراء البحار، مثل كورسيكا واسكتلندا ونيوزيلندا وإستونيا وأستراليا وأوسكادي، وهلم جرًا. وتبدو القومية الفليبينية، في أصولها - ولأسباب واضحة- شديدة الشبه بقومية كوبا وقوميات أميركا اللاتينية القارية؛ وتبدي قومية ميجي أوجه شبه واضح بقوميات أواخر القرن التاسع عشر الرسمية التي نجدها في تركيا العثمانية وروسيا القيصرية وبريطانيا العظمى الإمبراطورية؛ وتشبه القومية الهندية في شكلها ما يجده المرء في إيرلندا ومصر. وينبغي أن نضيف أيضًا أن ما يعدّه الناس الشرق والغرب قد اختلف بصورة جوهرية على مرّ الزمن. ولقد شاعت الإشارة إلى تركيا العثمانية في اللغة الإنكليزية، لأكثر من قرن، باسم رجل أوروبا المريض، على الرغم من توجّه سكانها الديني الإسلامي، ولاتزال تركيا اليوم تسعى جاهدة للدخول في الجماعة الأوروبية. وفي أوروبا، التي اعتادت النظر إلى نفسها على أنها مسيحية - ناسيةً ألبانيا المسلمة- تتنامى أعداد المسلمين بسرعة يومًا بعد يوم. ولطالما عُدَّت روسيا قوة آسيوية، ولايزال في أوروبا كثير من البشر الذين يفكّرون على هذه النحو. ويمكن أن نضيف أن في اليابان نفسها بعض من يعتبرون أنفسهم نوعًا من البِّيض. ثمَّ أين يبدأ الشرق وأين ينتهي؟ تقع مصر في أفريقيا، غير أنها لطالما كانت جزءًا من الشرق الأدنى إلى أن باتت الآن، مع توقّف استخدام مصطلح الشرق الأدنى، جزءًا من الشرق الأوسط. أمّا بابوا غينيا الجديدة، فتقع في الشرق الأقصى بالنسبة إلى أوروبا، شأنها شأن اليابان، لكنها لا تنظر إلى نفسها على هذا النحو. وتحاول دولة تيمور الشرقية الجديدة الصغيرة الشجاعة أن تقرر ما إذا هي جزء من جنوب شرق آسيا، أو جزء من أوقيانوسيا التي يمكن النظر إليها من زوايا نظر معينة – مثل ليما ولوس أنجلوس- على إنها الغرب الأقصى.

وقد زادت من إرباك هذه المشكلات هجراتُ السكّان الجماعية عبر حدود أوروبا وآسيا التي افْتُرِضَ إنها ثابتة. ومنذ افتتاح موانئ المعاهدات[2] في الصين سنة 1842، بدأ ملايين البشر من المملكة السماوية يعبرون البحار - إلى جنوب شرق آسيا وأستراليا وكاليفورنيا- ولاحقًا، إلى أرجاء الدنيا. وأخذت الإمبريالية الهنود إلى أفريقيا وجنوب شرق آسيا وأوقيانوسيا والكاريبي؛ وأخذت الجاويين إلى أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا وأوقيانوسيا؛ وأخذت الايرلنديين إلى أستراليا. وذهب اليابانيون إلى البرازيل، والفليبينيون إلى إسبانيا، وهلم جرًا. وعجّلت الحرب الباردة وتداعياتها من هذا التدفق، الذي اشتمل الآن على الكوريين والفيتناميين واللاوسيين والتايلانديين والماليزيين والتاميل، وغيرهم. من هنا الكنائس في كوريا والصين واليابان؛ والمساجد في مانشستر ومرسيليا وواشنطن العاصمة؛ ومعابد البوذية والهندوسية والسيخ في لوس أنجلوس وتورونتو ولندن ودكار. ويشير كلُّ ما في الاتصالات المعاصرة إلى أن هذه التدفقات سوف تتواصل وربما تتسارع: حتى اليابان التي سبق أن كانت مغلقة، لديها من المقيمين الأجانب الآن ما يفوق ما كان لديها في أي وقت مضى من تاريخها، وتوضح معطياتها السكانية أن المزيد من المهاجرين أمر أساس إذا ما أريد لنموّها وازدهارها أن يتواصلا.

ما ستسفر عنه هذه الهجرات - ما تنتجه من هويات وما ستنتجه منها- مسائل بالغة التعقيد، ولاتزال بلا إجابات إلى حدّ بعيد. ولعلّ يروقكم أن أُقحم حكاية شخصية مقتضبة بشأن هذا الموضوع.

 منذ حوالى أربع سنوات، درّست حلقة بحثية تتعلق بالقومية لطلاب الدراسات العليا في جامعة ييل، وطلبتُ في البداية من كلّ طالب أن يذكر هويته القومية، ولو كانت مجرد هوية مؤقتة. كان في الصفّ ثلاثة طلاب بدوا لي "صينيين" من ملامح وجوههم ولون بشراتهم. غير أن إجاباتهم فاجأتني كما فاجأت الجميع. ذلك أن الأول، الذي يتقن تمامًا التحدث بلكنة الساحل الغربي الأميركي، أكّد جازمًا إنه "صيني"، على الرغم من تبيّننا إنه ولد في أميركا ولم يَرَ الصين قطّ. أمّا الثاني فقال بهدوء إنه "يحاول أن يكون تايوانيًا". لقد تحدّر من عائلة من الكومنتانغ[3] كانت قد انتقلت الى تايوان مع تشيانغ كاي شيك سنة 1949، وولد في تايوان، وتحددت هويته هناك: لذلك، هو ليس "صينيًا". وقال الثالث بغضب، "أنا سنغافوري، اللعنة. لقد تعبت من الأميركيين الذين يحسبونني صينيًا، لستُ صينيًا!" هكذا، اتضح أن الصيني الوحيد هو الأميركي.

 

*هذه الورقة منشورة في العدد السادس من دورية "تبيّن" (خريف 2013، الصفحات 121-130)، وهي مجلة فصليّة محكّمة متخصّصة في الدراسات الفكريّة والثقافيّة، يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

** تجدون في موقع دورية "تبيّن" جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.

 [1] Text of an address delivered in Taipei, April 2000.

[2] موانئ المعاهدات، treaty ports، هو الاسم الذي أُطلق على المدن المرافئ في الصين واليابان وتايوان وكوريا التي فُتِحَت أمام التجارة الحرة بموجب معاهدات ظالمة.

[3] الكومنتانغ، أو الحزب القومي الشعبي الصيني، تأسس في بيجين في 15 آب/ أغسطس 1912 تحت شعار أمة واحدة وبأهداف قومية ديمقراطية اشتراكية تجسد الوحدة الصينية والتحرر من الاستعمار والإمبريالية وإقامة النظام الاشتراكي. وقد توصل الى حكم جمهورية الصين في سنة 1928.