العنوان هنا
دراسات 17 يناير ، 2011

إيران والعرب: في ظلال التاريخ والدين

الكلمات المفتاحية

محجوب الزويري

أستاذ تاريخ إيران والشرق الأوسط المعاصر في جامعة قطر. عمل الدكتور الزويري خبيرًا متخصصًا في قضايا إيران والشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، كما عمل رئيسًا لوحدة الدراسات الإيرانية في نفس المركز .وقد حصل على درجة الدكتوراه في تاريخ إيران الحديث من جامعة طهران في أيار (مايو) 2002. ومنذ آذار (مارس) 2003، عمل زميلًا باحثًا ومن ثمّ مديرًا لمركز الدراسات الإيرانية في معهد الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية في جامعة درم/ بريطانيا. توسّع الدكتور الزويري في الكتابة عن إيران وقضايا الشرق الأوسط باللغات العربية والإنجليزية والفارسية. كما ساهم بمقالات عديدة في المجلات الأكاديمية الدولية. يتقن الدكتور الزويري اللغتين الإنجليزية والفارسية بالإضافة إلى اللغة العربية.


 تلعب الجغرافيا دورا أساسيا في تكوين وعي الأمم عن بعضها، ويتعزز دور الجغرافيا عندما تشتبك التجربة التاريخية لأكثر من أمة في مشتركات تحكم الفضاء الثقافي، والسياسي، والديني لتلك المجتمعات. إيران والعرب ليسوا مستثنين من تلك القاعدة، فالبيئة الجغرافية التي وضعت شبه الجزيرة العربية "بلاد فارس أو إيران"، تلك البقعة الجغرافية التي انحدر العرب منها إلى بقاع مختلفة لعبت دورا أساسا في التصنيف، فهي بلاد للعرب كما أن هناك بلاد الفرس.

 لكن الجغرافيا -البعد المكاني- على أهميته الكبرى لا يشكل في الحقيقة إلا حاضنا للتاريخ الذي تصنعه الأمم والشعوب، من هنا فإن هذه الورقة تحاول أن تنظر إلى الفعل التاريخي الذي تطور من قبل أمتين على جغرافيا متلاصقة تتزايد أهميتها يوما بعد يوم، ولا يلوح في الأفق أي مؤشر على أنها ستفقد تلك الأهمية أو البريق على المدى المنظور.

عرف العرب بلاد فارس قديما كما عرف الفرس بلاد العرب كذلك، ولعل الجدارية الموجودة في مدينة "شيراز الإيرانية" وتحديدا في تخن "جمشيد" والتي تظهر عربا على جمالهم وبزيهم يقدمون الهدايا إلى الإمبراطور الاخميني، هذه الجدارية التي تعود إلى تاريخ السلالة "الاخمينية الإيرانية" 550-335 ق.م إشارة على نفوذ إيران في بلاد العرب، والعرب الذين تعنيهم الجدارية: هم من العراق وشبه الجزيرة العربية. هذه الإشارة مضافة إلى الإشارات المكتوبة في المصادر التاريخية أن هناك وعيا عند كل من العرب والفرس بوصفهما قومين أو أمتين، وأن هذا الوعي فرضه النطاق الجغرافي الذي يعيشون فيه.

 هذه الإشارة مع إشارات أخرى تظهر أن تعريف إيران للعرب يكاد يبقى محصورا في شبه الجزيرة العربية، وأجزاء من العراق، وأن هذا المفهوم بقي مسيطرا حتى القرن السادس عشر الميلادي. ولعل التطورات التي حدثت خلال الحكم الساساني والذي انتهي على أيدي المسلمين القادمين من الجزيرة العربية والحجاز فيه تأكيد على هذا المفهوم المحصور للعرب في أذهان الإيرانيين.

 خلال هذه الفترة المبكرة في التواصل العربي الإيراني كان التفوق الإيراني يفرض طبيعة التقييم الذي سيرافق الموقف الإيراني لفترة ربما تتجاوز الأربعة قرون. فالعلاقة التحالفية بين المناذرة والساسانيين التي لم تكن تخلو من سيطرة للساسانيين وهى الأمر الذي انتهى بمجيء العرب المسلين إلى إيران.

قدوم العرب إلى بلاد فارس أضاف عاملا جديدا في تشكيل وعي الطرفين العرب والفرس عن بعضهما البعض، ذلك العالم كان الدين. فالإسلام بالنسبة إلى قطاع واسع من الفرس انها احد عوامل بناء الهوية القومية لإيران ألا وهو الزرادشتية. هذا لا ينفي بقاءها حتى في ظل الدولة العربية الإسلامية، ولكن كون ذلك حدث من أمة كان الفرس يعتقدون بأفضليتهم عليها، فقد زاد من تعزيز الوعي السلبي حول العرب.

مرحلة الوعي السلبي تلك يصفها احد ابرز المؤرخين الإيرانيين وهو "عبد الحسين زرين كوب" في كتاب يعد عنوانه تلخيصا بارزا حول الوجود الفارسي في القرنين الهجريين الأوليين، فهو يسمي تلك المرحلة قرنان من السكوت (دو قرن سكوت). ولعل هذه القراءة تعكس تقييم المؤرخين الإيرانيين لما يسمونه بالإقصاء في الفترة الأموية وحتى بداية عصر هارون الرشيد 170ه/ 788م. السكوت الفارسي هذا ينتهي في إطار دول الخلافة الإسلامية لتبدأ مرحلة جديدة تختلف في ملامحها ونتائجها عمَا سبق من مراحل.

جرى التعارف على المرحلة الجديدة التي بدأت مع هارون الرشيد مرحلة الشعوبية، بمعنى إنتهاء مقولة أفضلية العرب، وهي في ذلك الوقت تعني شيئا واحدا أن هناك قوم آخرون هم الفرس، لأنه حتى ذلك التاريخ لم يكن انضوى تحت راية الدولة العربية الإسلامية إلا العرب والفرس، أما الأتراك فقد انضموا مع بداية فترة الخليفة العباسي المعتصم 217ه/ 833م.

 في مرحلة الرشيد تطورت ظاهرتان في العلاقة بين إيران والعرب: الأول هي الفتنة الثانية هي حرب الأمين والمأمون والتي تحزب كل طرف منها أو على الأقل هكذا عكست المصادر، فالأمين التف حوله العرب والفقهاء في بغداد، والمأمون التف حوله غير العرب والكُتاب وكان محتميا في خراسان. تمكن المأمون من السيطرة على بغداد وقتل الأمين مهَد الطريق لتطور الظاهرة الثانية وهي الصراع بين الفقهاء والكُتاب، حيث أن الفقهاء يمثلون التيار العربي في حين الكُتاب أو الإداريون يمثلون التيار غير العربي وهنا نقصد بهم العجم أو الفرس و الإيرانيين.

في ظل تلك الأجواء كان الصراع بين الشيعة العلوية وبين البيت العباسي، ثم ما لبث أن تحول البيت العباسي أو الدولة العباسية إلى مفهوم أهل السنة والجماعة، وهو بالمعنى السياسي يعني نظرة الدولة العباسية. الملفت للانتباه في تلك الفترة أن الدولة العباسية استطاعت أن تستوعب الكُتاب وما كانوا يمثلونه من تيار فارسي وان تستوعب الفقهاء الذين كانوا يمثلون المدرسة العربية.

 هذا الاستيعاب الظاهري نجح حين كان الخلفاء أقوياء، لأنه عندما ضعف الخلفاء بدأت معالم الانقسام وهو ما يتعارف عليه بظهور الدول المستقلة في شرق الخلافة العباسية ومنها في إيران كالدولة السامانية. ذلك التغيير الذي انهي اللغة الفارسية البهلوية القديمة وأصبح الحرف العربي هو السيد في اللغة الفارسية وظل كذلك حتى يومنا هذا.

إن الاختراق الذي حققه العرب والثقافة العربية خلال تلك القرون كان دافعا قويا للإيرانيين للبحث عن هويتهم لينهوا قرنين من السكوت، فكان ذلك من خلال تركيز الإيرانيين على إظهار تفوقهم في الإدارة والترجمة والبرتوكول إضافة إلى علم الفلسفة والمنطق الذي أثار عليهم الفقهاء العرب في العصر العباسي. ومع انتهاء فترة العصر العباسي الأول مع مجيء الخليفة المتوكل يصبح الفرس أو العجم شأنهم شأن شعوب أخرى في الحضارة العربية الإسلامية ومنها الأتراك، ومع سقوط بغداد الأول 1258م ومن ثم تأسيس الدولة الايلخانية في معظم ما يعرف اليوم ببلاد إيران بدأت بلاد العجم ساعية للابتعاد التدريجي عن الدولة العربية الإسلامية ( دولة الخلافة)، وهو الأمر الذي تحقق كليا بعد حوالي قرنين ونصف حيث تأسست الدولة الصفوية في إيران في العام 1507م.

تأسيس الدولة الصفوية في إيران وضع إيران خارج الخارطة السنية للعالم الإسلامي، وهو الأمر الذي أسس لعلاقة جديدة بين العرب وبين إيران لا زالت متأثرة حتى الساعة. وهنا يجب التذكير ان العرب لم تكن لهم دولتهم منذ سقوط بغداد فقط حكموا من قبل المماليك ومن العثمانيين، ولذلك فإن العلاقة بينهم وبين الفرس كانت تتم من خلال العلاقات بين الدولة الصفوية وبين الدولتين. وبقي هذا الأمر حتى انهيار الدولة العثمانية وظهور الدول العربية بالشكل الذي نراه اليوم.

لم يغب العرب عن تطورات إيران في كل القرون التي أعقبت تأسيس الدولة الصفوية، فعلماء الشيعة العرب من جبل عامل ومن البحرين ومن الأحساء هم في الحقيقة من نشروا المذهب الشيعي الإثني عشري تحت حماية ملوك الصفوية، كما أنهم صاغوا الأدب السياسي والتاريخي للشيعة الإثنى عشرية بالشكل الذي نراه اليوم، هذا بالطبع لا ينسينا دور العراق من خلال النجف وكربلاء بصفتهما مركزين علميين ودينيين هامين للشيعة الإثنى عشرية. إن التحول المذهبي في إيران دفع باتجاه تشكيل هوية جديدة ومركبة على أساس قومي ومذهبي مختلفة عن المحيط العربي السني، الأمر الذي صاغ شكل العلاقة بين البلدين، فلو بقيت إيران كما هي تركيا اليوم لبقيت الاختلافات، لكن بالتأكيد لن يكون العامل المذهبي حاسما كما هو الحال في أمر العلاقة بين إيران والعرب.

 إن من المهم في هذا السياق انه على الرغم من ان القبائل التركمانية هي التي أسست الدولة الصفوية، ولم يكونوا فرسا بالمعنى القومي، لكنهم كانوا عاشوا واستوطنوا لسنوات طويلة في غرب إيران قبل أن يحكموا سيطرتهم عليها تحت مظلة الدولة الشيعية الصفوية.

تلك كانت علامات في مسيرة العلاقة بين إيران والعرب ساهمت في تشكيل وعي كل طرف عن الآخر، هذا الوعي هو الوعاء المعرفي الذي نلجأ إليه تطوعا أو مجبرين لصياغة تقييمنا حول تلك العلاقة ، إن تلك العلامات يصعب تجاوزها إذا ما أردنا تحليل ما آلت إليه تلك العلاقات حيث لم تسطع السنوات الطويلة من التاريخ أن تأتي عليها أو تخفيها. أخيرا إن الذاكرة الجمعية التي صنعتها تلك العلامات لم تنته بعد، فالتطورات التي تمر فيها مسيرة العلاقة بين الأمتين كثيرا ما تستند إلى تلك العلامات وتبني عليها بحيث بات من الصعب بل من المستحيل تجاوز كل ذلك الإرث.