تعقيبا على مقالة الدكتور عزمي بشارة:
نحو إعلان "اكتمال" معجم الدوحة التاريخيّ للغة العربيّة
ثمة حسرة تخللت سطور المقالة التي كتبها الدكتور عزمي بشارة عن "اكتمال"
معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. وظهرت هذه الحسرة صريحةً في الفقرة الأخيرة من المقالة: "تمرّ أمتنا بظروف عصيبة غير مسبوقة في صعوبتها [...] للضرر الكبير على المستويين المعنويّ القيميّ الأخلاقيّ، والحضاريّ؛ فالدول تتفرج على عملية إبادة جارية [...]"[1]. وقد تداول هذه الفقرة كثيرون، في تفاعل جمعيّ دالّ على اتفاق بشأن الضرر العميق الضارب فينا، وخراب الحال المديد الذي نعيشه.
كانت اللهجة أكثر تفاؤلًا قبل سبع سنوات، في المقالة التي كتبها بشارة بمناسبة إطلاق بوابة المعجم، في كانون الأول/ ديسمبر 2018، حين اعتبر، محقًّا، أنّ إطلاق صفة "تاريخي" على تلك اللحظة "مساهمة في إعادة الاعتبار لهذا الوصف"، من بعد ابتذاله مدّةً طويلة، في الخطاب العربي العام المليء بمحاولات خلط "أوهام الأهمية" بالأهمية، بحسب تعبيره في مقالته التي ورد فيها: "أقول هذا بسعادة واعتزاز يقدرهما من يعرف التواضع إزاء حجم المسؤولية وثقلها"[2].
لكن تلك السعادة احتجبت في مقالته "نحو إعلان ’اكتمال‘"؛ لقد خفت كثيرًا أملُ النهوض والتنوير، والتهلل للتغيير الممكن والتطوّر، كما توارى الحديث عن "شخصية الأمة"، و"تاريخها"، و"الانطلاق نحو المستقبل"، واللغة التي "تنبض بحياة الناس وواقعهم المتغيّر"، و"الإيمان بإمكانية تحويل الأحلام النبيلة إلى أهداف واقعية، ثم برامج عمل".
أما ما ظل حاضرًا في المقالة الجديدة، فهو تلك القناعة المبدئية التي مفادها أنّ الرديء والمبتذل ليسَا من بين الخيارات على أيّ حال، وكذلك التحايل وتجاهل المسافات بين الواقع الصعب والمستقبل المأمول أيضًا. فـ "الأمة حيّة على الرغم من كلّ شيء"، ويصرّ بشارة على أنه يوجد بيننا رجال ونساء ما يزالون يحرصون على أداء أعمالهم "بإتقان وبدافع المسؤولية والضمير".
هكذا جاء الإعلان عن "اكتمال" المعجم، وكأنه إعلان عن حدّ فاصلٍ بين الحسرة والأسف على ما آلت إليه الأمور، وبين الاستسلام لليأس أو التسليم بأنّ القدرة على استشراف أيّ بداية لمستقبل أفضل وأكثر عدلًا وكرامة، تكاد تنعدم.
لكن بعض ما يعنيني في الإعلان عن هذا المنجز الضخم، في التعبير عن معجم تاريخي للعربية، مرتبطٌ بتلك الأسئلة التي ينبغي طرحها من أجل تعرُّف منزلةِ المعجم في الحاضر العربي المعاصر حقًّا؛ ليس بين المتخصصين والمعنيين الذين سمعوا عن المشروع واشتغلوا به أو عكفوا على "تصيّد" ما فيه من أخطاء وأوجه القصور، بل على المستوى العامّ المتمثّل في الطلبة، والمدرّسين، والصحافيين، والقارئ العادي، وأبي المتقاعد، وصديقي الأجنبي المهتم بالدرس اللغوي العربي، وأبنائي في المستقبل. ما المنعطف الذي يتحوّل فيه المعجم التاريخي فعلًا إلى رافعٍ حضاري وثقافي في مجتمعاتنا؟
لعل الفكرة التي أودّ إثارتها في هذا السياق تتضح مقارنةً بإحدى الظواهر التي تثير الغبطة في قاموس أكسفورد التاريخي؛ فعندما تأسس مجمع اللغة العربية في القاهرة عام 1932، وقد اضطلع بموجب المادة الثانية من مرسوم إنشائه بـ "وضع معجم تاريخي للغة العربية"، كان العمل جاريًا في بريطانيا على إصدار الطبعة الجديدة من "قاموس اللغة الإنكليزية الجديد القائم على المبادئ التاريخية المعتمد أساسًا على المواد التي جمعها المجمع اللغوي البريطاني". وفي عام 1933، أُلغيت هذه التسمية الطويلة العجيبة، وصار القاموس الإنكليزي رسميًا هو قاموس أكسفورد، وصار هذا القاموس رسميًا هو قاموس أكسفورد الإنكليزي، وهو المعجم التاريخي الكبير للإنكليزية، المطبوع حينئذ في 12 مجلدًا، مع ملحق واحد.
تتابعت الملاحق بعد ذلك، ونَمَا المعجم، ثم خرج في طبعته الثانية الشهيرة عام 1989، في 20 مجلدًا في طبعة كبيرة "كاملة"، وقد بلغ عدد صفحاتها زهاء 22 ألف صفحة. وقبل ذلك بعام، 1988، توفرت النسخة الإلكترونية من قاموس أكسفورد، وبعد 11 عامًا، في مطلع القرن الحادي والعشرين، أصبح القاموس متاحًا على شبكة الإنترنت، وقد اشتمل على نحو 600 ألف مدخل معجمي، بملايين الاقتباسات (أكثر من 305 ملايين اقتباس).
استغرق هذا العمل المثابر عقودًا برمّتها. وصدرت الطبعة الأولى بعد مرور 70 عامًا على تنفيذ الفكرة وجمع المواد، في منتصف القرن التاسع عشر. أما الطبعة المذهلة الثانية (التي سأقتنيها يومًا ما)، فقد نُشرت بعد 132 عامًا من العمل المضني والدؤوب الذي بذلته أجيال من كبار الباحثين واللغويين.
احتاج معجم الدوحة 13 عامًا (فقط) لإطلاق نسخة تضم 300 ألف مدخل معجمي، اعتمادًا على مدوّنات معجمية مُحَوسبة ضخمة، وهو متوفر مجانًا للجميع.
في متن مقالة بشارة، ثمة ملاحظة أساسية لافتة للانتباه: "أجزم أننا سوف نكتشف أخطاءً، أو نبلَّغ عنها، فنصححها". ثم يقول في سياق الحديث عن التحديات: "لن تكتمل هذه العملية الشاقّة والمعقّدة من دون ملاحظات القرّاء وتنبيه النبهاء منهم لما يكون قد فات المحرّرين".
ثمة أخطاء فعلًا. أنا، مثلًا، مستخدم يوميّ عادي (غير متخصص) لـ معجم الدوحة، ولـ المعجم التاريخيّ للّغة العربيّة (عن مجمع اللّغة العربيّة بالشارقة)، وتشغلني بعض المشكلات فيهما؛ في الواجهة وتجربة المستخدم، وفي المواد التي أطالعها وأبحث عنها، وفي بعض التعريفات الغريبة، والتصاريف أو حتى الحركات غير المنضبطة، أو في عدم الإحاطة بمدخلات معيّنة أو بالنطاق الأوسع لمعانيها المختلفة. وهي أمورٌ أستفهم بشأن العويص منها بعض الزملاء والأساتذة، وأحاول الإبلاغ عنها أحيانًا حينما يكون ذلك ممكنًا؛ بعد التأكّد من أن شكّي - أو "شكواي" - في محلّه. لكنني أتساءل أحيانًا: ماذا لو كان الاهتمام بالمعجم أكبر وأعمّ وأنشط؟ ماذا لو تفحّصه الصحافيون، وساءلوا مادّته، أو جرّب استخدامه الأساتذة والمعلمون في الجامعات والمدارس؟ ماذا لو تواصل القائمون على المعجم مع المستخدمين، وانعقدت الندوات والجلسات العامة في المكتبات والمجامع اللغوية لمناقشة تطبيقاته في مجالات مختلفة؟ ماذا لو تمكّن الناس من وصولٍ أكبر وتواصلٍ أكثر حيويةً مع المحررين والباحثين فيه؟
في قاموس أكسفورد سنّةٌ لغوية اجتماعية قديمة قِدَم القاموس نفسه، اعتمدت مناشدة المجتمع نفسه على الانخراط في صناعة المعجم، عبر القراءة تحديدًا؛ بحسب ما توفر من الكتب والمراجع، والمساعدة في "وضع اليد" على كلماتٍ، أو معانٍ لكلماتٍ، غير مسجّلة في المعجم، وتوثيق الشاهد وفقًا للأصول وإرساله بالبريد إلى العاملين فيه. حصل ذلك في بدايات العمل على فكرة القاموس خلال منتصف القرن التاسع عشر، وهي الاستراتيجية التي جعلت القائمين الأوائل على المشروع يدركون أنّه لا يمكن لملحق، أو حتى مجموعة من الملاحق، الإحاطة بكل تلك "الفوائت" من المدخلات والمعاني غير المدوّنة، بل إنّ ذلك هو ما أضفى الشرعيّة للعمل على "القاموس الجديد للغة الإنكليزية"، إلى آخر تتمّة الاسم الذي ذكرناه من قبلُ.
في عام 1859، ارتحل نبأ هذا القاموس الجديد عبر الأطلسي إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث انطلقت مناشدة جديدة. لم يتحمس الأميركيون كثيرًا لأسباب عديدة. لكن بدأت، منذ ذلك الحين، تتشكّل حالة من "الاجتماع" حول القاموس واللغة والكلمات. ثم انتعشت هذه الحالة أكثر فأكثر في نهاية سبعينيات القرن العشرين، حينما جرى الاتفاق مع مطبعة جامعة أكسفورد، واختِير جيمس موري محررًا مسؤولًا في هذا الشأن. بادر موري إلى توجيه مناشدة إلى عامّة الناطقين بالإنكليزية والقارئين لها، من أجل "قراءة الكتب وجمع الشواهد" لمصلحة "القاموس الجديد للغة الإنكليزية".
كان موري وزملاؤه في حاجة مساعدة حقيقية، ولا سيما فيما يتعلق بمطبوعات القرن الثامن عشر، في بريطانيا العظمى والولايات المتحدة والمستعمرات. ولأنّ الأساتذة الأميركيين لم يتعاونوا بالقدر المأمول مع المجمع البريطاني، فإنه لم يجد بُدًّا من اللجوء إلى عامة القرّاء، للمساهمة في سدّ العجز الحاصل في استكشاف المادة اللغوية في كتب ذلك القرن وأعماله الأدبية، وكان ذلك جهدًا بشريًّا بحتًا، وكانت المراجع التي ضمّنها موري في المناشدة مع قائمة طويلة من أعمالٍ وكتب أخرى ابتداءً من القرن الخامس عشر.
لم تنقطع تلك الالتماسات اللغوية للعامة والتواصل مع الجمهور، بل تطوّرت الممارسة وآلياتها المتبعة وصارت أكثر دقّة وتحديدًا، فانتقلت من طَورٍ يُطلب من الناس فيه القراءة في مجموعات محددة من الكتب والمراجع، إلى طور تُطلب فيه شواهد على مجموعات من المدخلات المعجميّة غير مرتبطة بشواهد؛ مثلما حصل مرّة في عام 1879، حينما طلب موري العون بشأن قوائم من "المطلوبات اللغوية" (نحو 60 كلمة)، ورجا عمومَ القرّاء أن يبحثوا عن شواهد متعلقة بها.
ولم ينقطع الاعتماد على مجتمع القرّاء حتى بعد صدور القاموس الكبير أول مرة عام 1928 (بعد 13 عامًا من وفاة موري)، وذلك حينما لجأت إدارة تحريره إلى فكرة "الملحق" لتدوين التغيرات التي لحقت مادّة اللغة أو إضافة ما فات من كلمات أو معانٍ أُهملت في المجلدات التي سبق العمل عليها وتحضيرها. وهذه المواد والشواهد الدالّة عليها مما سيُضاف في الملحق، هي في جزئها الأعظم من إسهامات "عديد القرّاء، الذين يدين لهم بالفضل محرر هذا القاموس، وكل مستخدم له"[3].
وظلت تلك الالتماسات الموجَّهة إلى العامة تتوالد بلا انقطاع، حتى صارت سمةً تميّز قاموس أكسفورد، بل إنّ هذه الظاهرة ظلت تتطور، وظلّ مداها يتسع، مع تطوّر اللغة والتطورات الهائلة في المجتمع والتحولات التي فيه على الصعيد التقني تحديدًا، وفي السياسة والفن والأدب والسينما، وغير ذلك أيضًا. ففي خمسينيات القرن العشرين مثلًا، بدأت تلك الالتماسات تُوجَّه إلى جماعات من المتخصصين في فنون ومجالات معيّنة، بما في ذلك الالتماس الذي نُشر في مجلة الجمعية الملكية لعلوم الطيران، وغيرها، وهو أمرٌ استمرّ حتى صدور الطبعة الثانية المحدَّثة من القاموس، في آذار/ مارس 1989، وقد توسعت وضُمّنت فيها الملاحق الأربعة التي جمعت بفضل مساهمات القرّاء وعملِ المحرّرين طوال ستة عقود من صدور النسخة الأولى عام 1928.[4]
في تلك السنوات من القرن العشرين، كان للصحافة دورٌ مهمٌّ في نقل تلك المخاطبات بين محرري القاموس والعامّة، فنشرت الإعلانات عن "المفقودات اللغوية" في صحيفة ذي تايمز اللندنية، وهو ما ساعد على تحصيل شواهد أقدم على العديد من الكلمات والمفردات ومدلولاتها المتجددة والنص على كل ما له علاقة من الشواهد الحيّة، ثم صارت الصحف نفسها من أهمّ مصادر القاموس وأكثرها ثراءً، لا سيما في نسخته الرقمية الحالية.
حافظ سدنة القاموس من بعد ذلك على تلك السُنّة (أرجو أن لا أبدو متكلّفًا في هذه الكلمة، لكنني أستخدمها بمعناها الأقدم المسجّل في معجم الدوحة، أي "السيرة")، وظلت المناشدات تصل العامّة عبر "نشرة بريدية" خاصّة هذه المرّة. وفي عام 1999، نشر المحرر الجديد جون سيمبسون نشرة من نحو ما نشره سلفه موري قبله بـ 120 عامًا، لكنّه أسماها "لغتكم في حاجة إليكم"، رغمَ أن تلكم النشرة كانت قد خاطبت قرّاء الإنكليزية في العالم كلّه![5]
وفي عام 2005، تعاون المعجم مع هيئة الإذاعة البريطانية، في عملية البحث عن شواهد مبكرة لخمسين كلمة وعبارة، ثم عرضت النتائج في سلسلة متلفزة في العام التالي، وقد أثارت اهتمامًا وفضولًا واسعين[6]. صار المعجم ظاهرة عامّة يعرفها الجميع ويسمعون بها، وتوسّع النظر في الشواهد وملاحقتها والتنافس في التنقيب عنها، حتى شمل ذلك الإعلانات الدعائية والمذكرات واليوميات الشخصيّة وسجلّات الزيارات (بالنسبة إلى المتاحف وغيرها)، بل حتى دفاتر الملاحظات في أقسام الشرطة والسجون أو سجلات الحرفيين وقصاصاتهم.
بقي المعجم متمسّكًا بهذا التقليد ومستفيدًا منه، وتعامل معه المحررون الذين توالوا على إدارة قاموس أكسفورد وكأنه لازمة محتومةٌ، حتى مع التطورات الحاسوبية التي دخلت الصنعة المعجمية. ففي عام 2014، نُشر التماس بمناسبة الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى، كان عنوانه هذه المرّة: "قاموس أكسفورد في حاجة إليكم!"[7]. أمّا الغاية من الالتماس، فهي التنقيب عن أيّ شواهد أبكر في تاريخ الاستخدام لقائمة من الكلمات والعبارات التي اتصلت بالحرب العالمية الأولى، أو تولّدت خلالها. نفهم من ذلك الالتماس، أيضًا، أنّ المدونة الحاسوبية المتوفرة ليست بالضرورة هي الجواب الحاسم لتحديد التاريخ الأدق لاستخدامات كلمة ما؛ فربما ظهرت الكلمة فعلًا في مادة صحافية مؤرّخة، لكنها قد تكون ظهرت قبل ذلك في موضع آخر، في مسودّة بحثٍ غير منشور ظل بين الأوراق في منزل ما، أو في مذكرات أحد الجنود، وهي مواضع يستحيل على المدونة الحاسوبية الإحاطة بها جميعها. لذا، لا بدّ من أن نسأل الناس، وأن نطرق أبوابهم إنْ لزم الأمر. أمّا الغاية الأخرى من ذلك الإصرار الدؤوب على صَوغ تلك الالتماسات، فهي تأكيد أنّ للقاموس أهلًا وأصحابًا؛ هم عامّة الناس والمستخدمون (ثمة كتاب عنوانه: أهل القاموس يوثِّق حكايات مرتّبة ترتيبًا ألفبائيًّا عن متطوعين قدّموا إسهامات جليلة لـ قاموس أكسفورد وتفاعلوا بجدية بالغة مع تلك المناشدات التي نشط موري في نشرها خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر).
أودّ الاستطراد قليلًا في هذا السياق لتوضيح أمرٍ ذي صلة بهذه المسألة: بلغ الاهتمام العام بـ قاموس أكسفورد التاريخي في الصحافة مبلغًا عجيبًا، لا أحسب أن قاموسًا آخر أصابه (وهذا ادعاء يحتاج إلى بعض التحقق والبحث، لكنه صحيح في حالتنا العربية على الأقل). ومن ذلك، مثلًا، أنّ الصحف الإنكليزية تزهو فيما بينها وتتنافس بعدد الشواهد التي يشتمل عليها هذا القاموس. وعلى سبيل المثال، نشرت ذي تايمز، في عام 2010، مقالة عنوانها: " ذي تايمز أكبر مصدر لـ ’قاموس أكسفورد‘". وجاء في مطلع هذه المقالة: "لو كنت تشكّ في الأمر فيما مضى، فإن المعجميين قد أكدّوه الآن: ليس للإنكليزية مصدر أكثر غنًى من الصحيفة التي تقرؤها الآن"[8].
أما ذي ديلي تليغراف، فنشرت - في مناسبة إطلاق النسخة الرقمية من القاموس نفسها - مادة "زاهية" أيضًا، لكن ذلك قد كان عن إنجاز "أقل تواضعًا". في النسخة المطبوعة، كما نقلت ذي غارديان، جاء هذا العنوان: "الكلمات التي معجمتها ’ذي ديلي تليغراف‘"[9]؛ أي تلك الكلمات التي وجدت مواضع من أعمدة الصحيفة إلى أعمدة قاموس أكسفورد، فخلّدت فيه. إنّ كلمة “Eco-friendly” مثلًا، ظهرت أول مرّة في الصحيفة، عام 1989، فأخذها القاموس ودوّنها مع الشاهد، وكذا كلمة شهيرة “Underdog” التي يعود أوّل استخدام مدوّن لها في ذي تليغراف عام 1887.
تظل ذي تايمز، اللندنية، حتى اليوم، في رأس قائمة أوّل ألفِ مصدرٍ ومرجع لـ قاموس أكسفورد؛ بحسب عدد الشواهد، وذلك بـ 43348 شاهدًا مستفادًا منها حتى آب/ أغسطس 2020[10]. وقد حصل هذا الأمر على الرغم من معارضة سدنة القاموس الأوائل الاعتماد على الصحف، وعلى كلام كتّابها "الذي يُشترى ببنسات بخسة" بحسب تعليق مندوبين من جامعة أكسفورد في مداولاتهم المتعلقة بالمشروع عام 1877، وقد نقل موري في أوراقه هذا التعليق عنهم، وعبّر عن موقف رافض له: "تلك من أسخف الانتقادات التي أُثيرت بشأن القاموس حتى الآن". وقال موري، الذي أكّد بعد ذلك أهمية الصحافة بوصفها شاهدًا على حياة اللغة وحيويّتها: "للغوي ومؤرخ اللغة دور لا يفوق قيمة الشواهد الصحافية أي مصدر آخر، ذلك أنها الدليل على كيفية نموّ اللغة"، ولم يُولِ تلك الدعاوى التي ترى في الصحافة "كارثة على اللغة" كثيرَ اهتمامٍ"[11].
تعززت مقبولية هذا الموقف المعجمي المتصالح مع الصحافة بعد موري، لكنّه بلغ حدوده القصوى في أعمال الطبعة الثالثة من القاموس (التي لم تطبع، وربما لن تُطبع)، أي في منتصف تسعينيات القرن العشرين، ثم مع قاموس أكسفورد في حقبته الرقمية المفتوحة (باشتراك سنوي يبلغ 100 دولار) مع مطلع القرن الحادي والعشرين، على نحو يعكس ما استقرّ عليه العُرف المعجمي ذلك الأمر المتمثّل في أنّ مهمة القاموس التاريخي للغة هو سَرْد الوجهة التاريخية لكل كلمة وعَرْض تطوّرها الخاص بها، بحسب استخدمها أهلها لها في مختلف العصور.
ذلك النشاط اللغوي المشتبك مع المجتمع جعل من قاموس أكسفورد قاموسًا حيًّا يعرفه الناس، ويعرفون قصصه، ويتداولون حكاياته وأساطيره، وجعل منه مشروعًا ألهم العديد من الأعمال الأدبية الناجحة والأفلام الروائية. والأهم من ذلك، أو ما اهتممت أنا شخصيًا بملاحظته تحديدًا، هو تلك الحالة من الانشغال الصحافيّ بالمعجم وروّاده. وليس هذا الأمر مقتصرًا على قاموس أكسفورد وحده، بل إنه يمتد إلى معاجم أخرى، مثل معجمويبسترز في طبعته الثانية الكاملة، ثم في طبعته الثالثة التي ظلّت تثير كثيرًا من الجدل والحكايات، وهو وضعٌ يعبّر عن كيفية تحوُّل عملٍ أكاديمي وتقني معقّد إلى ظاهرة شعبيّة يحوم حولها كل هذا الاهتمام والحماسة.
لا يمكن، بأيّ حالٍ، أن نُخفي الفرح والاستبشار بمعجم تاريخي للغتنا، مثل معجم الدوحة، غير أن الملاحظات السردية، المذكورة آنفًا، ترسم صورة عامّة لأمثلة حقيقية - أجدها مذهلة - عن طرائق تَلقِّي العمل المعجمي والتعامل معه في المجتمع وفي الصحافة (باللغة الإنكليزية)، وهي أمثلة نحتاج إلى جهدٍ حقيقي من أجل بلوغها؛ حتى يُكسر الحاجز التواصلي الذي يبدو مسدودًا في وجه مشروع معجمي تاريخي كبير على غرار هذا المعجم، وخلق مناخٍ من الحديث العام عنه، والمطالبة الصادقة بتطويعه وتطويره واستكشاف تلك الطاقة الكامنة فيه وفي لغتنا؛ ليكون، يومًا ما، هو "قاموسنا" العربي حقًّا.
[1] عزمي بشارة، "نحو إعلان ’اكتمال‘ معجم الدوحة التاريخيّ للغة العربيّة"، مقالات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2/9/2025، شوهد في 7/9/2025، في: https://acr.ps/1L9GP20
[2] عزمي بشارة، "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية.. الهدية الثمينة للأمة"، العربي الجديد، 13/12/2018، شوهد في 7/9/2025، في: https://acr.ps/1L9GPKa
[3] “The Supplement to the Oxford English Dictionary,” TheOxford English Dictionary, accessed on 9/7/2025, at: https://acr.ps/1L9GPKD
[4] “‘Your Dictionary Needs You’: A Brief History of the OED’s Appeals to the Public,” Oxford English Dictionary, accessed on 7/9/205, at: https://acr.ps/1L9GPTs
[5] Ibid.
[6] “Balderdash and Piffle - Series 1 Episode 6 - 'The B Words',” YouTube, 6/2/2006, accessed on 7/9/2025, at: https://acr.ps/1L9GQ20
[7] Stuart Gillespie, “The Oxford English Dictionary Needs You!” OED, 3/3/2014, accessed on 7/9/2025, at: https://acr.ps/1L9GQ1S
[8] “You Read it Here First: The Times is Biggest Source for OED,” The Times, 30/11/2010, accessed on 7/9/2025, at: https://acr.ps/1L9GPtf
[9] Jason Deans, “Word Power: the Times Claims Lead in OED Influence,” The Guardian, 30/11/2010, accessed on 7/9/2025, at: https://acr.ps/1L9GP5Y
[10] “Top Sources in OED3,” OED, accessed on 7/9/2025, at: https://acr.ps/1L9GQ1T
[11] “Objections to Newspaper Quotations in OED1; Contrasting Views of Lexicographers,” OED, accessed on 7/9/2025, at: https://acr.ps/1L9GP3q