العنوان هنا
دراسات 17 يناير ، 2011

العلاقة العراقية-الإيرانية

الكلمات المفتاحية

مازن الرمضاني

استاذ العلاقات الدولية السابق، والعضو في الأكاديمية العراقية للعلوم، مؤسس وأول عميد لكلية العلوم السياسة في جامعة ما بين النهرين - بغداد. استاذ دراسات المستقبل والصراع الدولي والتفكير الاستراتيجي، عضو المجمع العلمي العراقي واحد علماء العراق. غزير الإنتاج له أكثر من مائة بحث وخمسة كتب (ابرزها كتاب السياسة الخارجية) ومئتي مقالة علمية.

حاضرالماضي ومستقبل الحاضر

غني عن القول أن محصلة التفاعلات الدولية, سواءُ على صعيد النظام الدولي أو الأنظمة الإقليمية الفرعية، تتحدد وفق نوعية العلاقات التي يتم تبادلها من قبل القوى الأكثر تأثيرا في حركة هذه النظم بنوعيها.

وبهذا الصدد لنتذكر مثلا، أن طبيعة العلاقة الأمريكية- السوفيتية، في زمن الحرب الباردة، 1947-1991، قد أفضت إلى أن يكون العالم مسرحا لها. كذلك كان للعلاقة العراقية-الإيرانية في كافة مراحلها التاريخية تأثيرا لم يؤد إلى أن تكون مضامين واتجاهات كل مرحلة منها انعكاسا لطبيعتها فحسب، وإنما إلى أن تضحى أيضا أحد أبرز المدخلات المؤثرة، سلبا أوإيجابا، في التفاعلات الإقليمية، خصوصا والدولية عموما. ولنتذكر هنا مثلا أثر الحرب العراقية -الإيرانية 1980-1988 في السياسات الخارجية العربية وسواها.

ولأهمية هذه العلاقة تنبع جدوى دراستها سيما وإنها تعد من بين تلك العلاقات الدولية الأكثر تشابكا وتعقيدا. وعليه سنعمد البحث في الموضوع عبر الإجابة عن ثلاث تساؤلات:- كيف كانت هذه العلاقة؟ وكيف أضحت؟ وكيف يحتمل أن تكون مستقبلا؟ وهذا سبيلا للبرهنة على فرضية مفادها :- إن تماثل أو تضارب المصالح بين العراق وإيران يحددان طبيعة علاقتهما السائدة في مرحلة زمانية معينة واتساقا مع ما تقدم سيتم توزيع هيكلية البحث على ثلاث فقرات متتابعة.

أولا: ماضي الحاضر

يفيد ماضي العلاقة العراقية-الإيرانية منذ اعتراف الحكومة الإيرانية بالحكومة العراقية في عام 1929 ولغاية عام 2003، أن طبيعتها وخصائصها قد اختلفت باختلاف واقع المراحل التاريخية المتعاقبة التي مرت بها هذه العلاقة. بيد أن هذا التباين لاينفي أنها قد تميزت في العموم باستمرار اقترانها بخاصية الصراع بين الدولتين. على أن استمرارية هذه الخاصية لاتنفي مع ذلك أن العلاقة الثنائية قد اقترنت أيضا في أحيان بالتعاون استجابة لتأثير ثمة ظرف محدد بيد أن هذا التعاون كان مؤقتا وينتهي بانتهاء الدافع له.

تعد خاصية الصراع في العلاقة العراقية -الإيرانية خصوصا منذ عام 1958 محصلة لتأثير مجموعة متغيرات متفاعلة نبعت من معطيات الواقع العراقي، وكذلك الإيراني. فعلى الرغم من تفوق قدرة الفعل الإيرانية على مثيلتها العراقية، إلا إن إيران "الشاه" استمرت تدرك العراق عائقا أساسيا أمام تحقيق مشروعها الإمبراطوري في عموم الخليج العربي. ومن هنا كان احتوائه وتحجيم تأثير دوره الإقليمي غاية أساسية عمل شاه إيران جاهدا وبكافة الوسائل من أجل تحقيقها.

ولم يؤد تغيير النظام السياسي الإيراني عام 1979 واتخاذها الإسلام قاعدة لسياسة عامة عليا دون ديمومة تلك الغاية. فالدعوة إلى تصدير الثورة كهدف وأداة انطوت على رؤية مفادها أن نجاحها يتطلب إخضاع العراق أولا كشرط أساس. وبالمقابل أدرك العراق أن ضمان أمنه الوطني والقومي يقتضي تبني سياسة تحتوي الأهداف الإيرانية حياله وحيال دول الخليج العربي.

إن إدراك كل من الدولتين أن إحداهما تشكل تهديدا للأخرى أدى إلى تصعيد علاقتهما الثنائية إلى مستوى حرب كانت شاملة وباهظة التكاليف استمرت ثماني سنوات 1980-1988 وانتهت دون أن تستطيع إيران إسقاط النظام السياسي العلماني في العراق، وبالتالي تغيير الواقع السائد فيه لصالحها.

 وبالمقابل تفيد الأهداف التي حققها العراق لذاته كاستعادة سيادته على كامل شط العرب وتحجيم القوة الإيرانية، إنها وان تمت بكلفة اقتصادية باهظة بيد أنها لم تكن كالإيرانية ترمي إلى إسقاط النظام السياسي الإيراني. فتأثير غبن الجغرافيا والواقع السكاني والاجتماعي للعراق في عموم حركته الخارجية ما كان يسمح بذلك.

إن وفاة الخميني عام 1989 أدى إلى أن تشهد السياسة الخارجية الإيرانية إعادة هيكلة أساسية أفضت إلى تغليب المصالح القومية على شعارات الإيديولوجية الدينية، وبالتالي الابتعاد النسبي عن شعارتصدير الثورة، وما صاحبها من خطاب مناهض للنظم السياسية في عموم الخليج العربي لصالح خطاب أخر تميز في العموم بخصائص الاعتدال والمرونة والواقعية.

 ومما ساعد على ذلك تولي إصلاحيون( هاشمي رافسنجاني ومحمد خاتمي بالتتابع) قيادة الدولة الإيرانية وإدارة شؤونها خلال الأعوام 1989-2005, وفق نوعية إدراكهم لكيفية تحقيق المصالح العليا لإيران.

إن هذا التحول انعكس إيجابا على مجمل علاقات إيران الإقليمية والدولية، وبضمنها العلاقة العراقية-الإيرانية خلال الأعوام 1990-2003. فهذه العلاقة اقترنت بأنماط من التعاون ساعد عليها أن العراق بعد عام 1990 لم يشكل تهديدا جادا لإيران. فالحصار الذي فرض على العراق كان مؤثرا ومع ذلك استمرت هذه العلاقة الثنائية متأزمة.

ومرد ذلك أن التعاون بين العراق وإيران لم يستطع إلغاء مخرجات تجربة تاريخية طويلة تميزت بواقع عدم الثقة والخشية المتبادلة بين الدولتين والتضاد الحاد في مصالحهما. فكل منهما استمر يرى في الأخر ضمنا أو صراحة السبب الرئيس وراء ديمومة مشاكله، والمصدر الأساس لتهديده والعدو المفترض الذي ينبغي الاستعداد له عسكريا لاحتمالية اندلاع حرب جديدة معه.

ومن هنا لم يحل تعاونهما دون تزامنه مع تبني كل منهما لسياسة إدارة الصراع بالوكالة مثلا. فهذه تجسدت في استمرار احتفاظ كل من العراق وإيران بقوى معارضة ومعادية للأخر داخل أراضيه واستثمار عملياتها عبر الحدود للضغط السياسي المتبادل. وقد أعدت نوعية وكثافة هذه العمليات بمثابة المؤشر لقياس مدى تحسن أو تدهور العلاقة بين الدولتين آنذاك.

وضمن إطار علاقة الصراع والتعاون بين العراق وإيران لم تتوانى الأخيرة عن توظيف استمرار تدهور العلاقة العراقية -الأمريكية سبيلا لرفد تحسين علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية بعنصر مضاف وتوظيف محصلة ذلك لدعم أهداف سياستها الخارجية حيال العراق خصوصا ودول الخليج العربيعموما.

لذا عندما صار واضحا بعد احتلال الولايات المتحدة الأمريكية لأفغانستان في عام 2001 أن الولايات المتحدة تسير باتجاه الحرب مع العراق كان على إيران الخيار بين ثلاثة بدائل :- فإما التعاون مع السياسة الأمريكية، وإما مناهضتها، وإما البقاء على الحياد. وانطلاقا من اعتبارات الربح:- الإطاحة بالنظام السياسي في العراق وتوسيع النفوذ الإقليمي، وكذلك انطلاقا من اعتبارات الخسارة:- الاقتراب العسكري الأمريكي من حدود إيران، ورفد تطويقها بعنصر مضاف، عمدت إيران إلى الأخذ بسياسة مزدوجة قوامها الحياد في الظاهر والتعاون مع السياسة الأمريكية في الباطن.

ولتعزيز هذه السياسة لجأت إيران مثلا إلى تفعيل دعمها لقوى المعارضة العراقية وتوظيفها داخل العراق كجهد مساند مضاف. ومن هنا يضحى واضحا قول "محمد على ابطحي" نائب الرئيس الإيراني السابق "محمد خاتمي" أن بلاده : (قدمت الكثير من العون إلى الأمريكان في حربهم ضد أفغانستان والعراق) ومؤكدا أنه: ( ... لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة.) وكذلك نفهم قول رئيس الجمهورية الإيرانية الحالي محمد احمدي نجاد: (أن العراق وأفغانستان اللتان كانتا تمثلان تهديدا مباشرا لإيران جعلهم الله في سلة إيران.)

إن هذه السياسة الإيرانية المزدوجة التي تم اعتمادها حيال أفغانستان أولا، والعراق لاحقا، تفيد أن السياسة الخارجية الإيرانية عندما يتعين عليها الخيار بين مبادئ الإيديولوجية الدينية والمصالح القومية العليا فإنها تختار المصالح القومية العليا بدون تردد.
إن احتلال العراق في عام 2003 وبالتالي إلغاء دور دولة عربية كانت في العموم تقود سياسة الممانعة حيال الطموحات القومية لإيران في أن تكون الدولة القائدة في الخليج العربي والمشرق العربي ككل، أفضى الى انتهاء مرحلة تاريخية جعلت خصائصها البنيوية (الصراع) من العلاقة العراقية-الإيرانية انعكاسا لها، وبدء مرحلة أخرى جديدة يفيد واقعها اقترانها بسمات قوامها استمرارية الماضي وتغييرات الحاضر.

ثانيا: حاضر المستقبل

لقد أفضت مخرجات غزو واحتلال العراق إلى أن تعمد إيران إلى تطوير رؤية واضحة نسبيا لمصالحها الإستراتيجية في العراق، والى بناء قاعدة متينة ومتعددة الركائز اقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، وأمنيا، وسياسيا، أتاحت لها أن تكون في وضع استراتيجي سهل عليها التأثير المباشر وغير المباشر في الواقع العراقي خدمة لتلك المصالح.

ومما ساعد على ممارسة هذا التأثير ثمة معطيات داخلية عراقية جعلت إيران تبدو وكأنها قوة احتلال غير معلن . ومن بين هذه المعطيات:

1. دفع عجز الدولة (الجديدة) في العراق عن أداء وظائفها إيران إلى إدراك إن هذا العجز قد ينطوي على احتمال اندفاع الولايات المتحدة الأمريكية إلى تشكيل حكومة عراقية فاعلة تكون موالية لها ومعادية لإيران في الوقت ذاته، وأن تضحى بمثابة حجر الزاوية في هجوم عسكري أمريكي عليها. ولهذا ذهبت إيران إلى الحيلولة دون مثل هذه الحكومة، من خلال تغذية القوى التابعة لها بالإمكانات التي تتيح لها الوصول إلى قمة الهرم السياسي في العراق والبقاء مهيمنة عليها ويضمن ذلك جعل القوى الوطنية العراقية المناهضة لسياساتها خارج إطار دائرة صنع القرار .

2. لقد تميز الواقع العراقي خلال السنوات السابقة بالفوضى وعدم الاستقرار الداخلي جراء حل مؤسسات الدولة بأمر من الحاكم المدني الأمريكي "بول بريمر" والذي نجم عنه انعدام الأمن وانتشار الفساد المالي، والإداري، والسياسي. وقد وجدت إيران في استمرار هذه الحالة مدخلا مهما يتيح لها فرصة مضافة لإشغال قوات الاحتلال بمزيد من المشاكل خدمة لمصالحها. ومن هنا كان توظيفها المكثف للأدوات الخفية (مثل النشاط المخابراتي والعسكري، وتشجيع عمليات الفساد والإفساد) في جنوب العراق ووسطه سبيلا ليس فقط لدعم تفاقم هذا الوضع عموديا وأفقيا وإنما كذلك توظيفه لإغراض المساومة مع قوات الاحتلال.

3. لقد أدى الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله إلى جعل الوجود العسكري الأمريكي على مقربة من الحدود الإيرانية الغربية حقيقة. إن إدراك إيران لافتقارها للعمق الاستراتيجي جعل موضوع الأمن هاجسا ملحا بالنسبة لها. فإيران ترى أن عراقا تقوده الولايات المتحدة وحلفائها في الداخل يشكل تهديدا لأمنها القومي، ومن هنا أريد بالنفوذ الإيراني الواسع في العراق أن يكون سبيلا لاحتواء هاجسها من احتمال سحب التجربة الأمريكية في أفغانستان والعراق (استخدام القوة العسكرية لإسقاط النظم السياسية) عليها. ولذا يعمد الإيرانيون بين حين وآخر لإغراض المساومة إلى تذكير صناع القرار الأمريكي أن إيران هي الطرف الأقوى تأثيرا في العراق.

4. إن التداخل المذهبي بين العراق وإيران، منح الأخيرة فرصة لتسيس المذهب وبالتالي رعاية حلفائها ودعم دورهم السياسي سبيلا لاستخدامهم لتحقيق غاية مركبة أولها: أن لايكون العراق ساحة لأي مصدر تهديد لها، فإيران تدرك أن عراقا يحكمه حلفائها سيكون مرتكزا مهما في ضمان أمنها. وثانيها: استمرار توظيفهم كأداة أساسية لسياستها في العراق. فآلية السيطرة عبر الحلفاء أو الوكلاء أدت إلى أن يصبح العراق عمقا إستراتيجيا كانت إيران تفتقر له، وبوابة لامتداد نفوذها باتجاه الخليج العربي والبحر المتوسط.

إن التأثير الذي تتمتع به إيران في العراق متفاعلا مع المعطيات أعلاه وسواها، أدى إلى تعزيز العلاقة الثنائية على شتى الصعد، وعلى نحو يشير إلى أن الخط البياني لهذه العلاقة يتجه وعلى العكس من مرحلة ما قبل عام 2003 إلى الاقتران بخاصية التعاون شبه الشامل ولكن دون أن يكون متكافئا. فمخرجاته جاءت لصالح إيران وكأن به أريد مساعدتها على فض مشاكلها. إن الربح الذي تحققه إيران لذاتها جراء طبيعة وجودها في العراق مقارنة بالخسائر الناجمة عنه، ينطوي على دعم فريد لمركزها التفاوضي مع الآخرين.

إن واقع العلاقة العراقية-الإيرانية بعد عام 2003 في جعل إيران تبدو وكأنها هي التي تصنع عمليا السياستين الداخلية والخارجية للعراق، لايعني غياب الرفض لتدخلها في العراق وهو التدخل الذي يعد (...غير مسبوق منذ تأسيس الدولة العراقية) في عام 1921. فهذا الرفض تعبر عنه ثمة دعوات تكرر الحاجة إلى بناء علاقة واضحة وصريحة بين الطرفين تقوم على مبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون العراق الداخلية وفض الخلافات بالطرق السلمية.

كما ان هذا الواقع لايعني أيضا عدم اقترانه بملفات كثيرة عالقة تثير سجالا وتوترا كامنا جراء تأثير مدخلات يعد بعضها امتدادا تاريخيا وبعضها الأخر ناجما عن طبيعة البيئة الإقليمية والدولية الراهنة للعلاقة العراقية -الإيرانية. إن هذه المدخلات في حالة تفاقم تأثيرها تجعل من هذه العلاقة مرشحة للتحول من سمتها الراهنة: التعاون شبه الشامل إلى سمتها السابقة: الصراع.

ثالثا : مستقبل الحاضر :- المشاهد

غني عن القول أن الغزو والاحتلال الأمريكي كان منعطفا حاسما في تأريخ العراق المعاصر. فالعراق انتقل من دولة مستقلة ومستقرة وعربية الاتجاه والتوجه ومؤثرة خارجيا، إلى دولة فاقدة السيادة عمليا، لايعترف دستورها بانتماء العراق إلى أمته العربية، وفاشلة داخليا، وضعيفة الدور والتأثير خارجيا. كذلك غني عن القول أن للانسحاب الأمريكي من العراق في نهاية عام 2011 ـ إن تم حقا ـ بعات يمكن أن يستوي تأثيرها وتلك اللحظة التاريخية الحاسمة التي تؤسس لمستقبل عراقي قد يقترن بأحد المشاهد الآتية:استمرار الواقع الراهن، التغيير الايجابي، التقسيم.

فأما عن المشهد الأول فهو يفترض استمرار معطيات الواقع الراهن: دولة فاشلة في الداخل وضعيفة الدور والتأثير في الخارج. وأما عن المشهد الثاني فهو يفترض إضطراد نمو الفاعلية الداخلية للعراق ومن ثم فاعليته الخارجية، هذا جراء دور قيادة قوية ذات مشروع وطني ذو مضمون حضاري وديمقراطي وعربي الاتجاه والتوجه.

 وأما عن المشهد الثالث فهو يفترض واقع عراقي يتسم بانتفاء الفاعلية الداخلية ومجتمع منقسم على ذاته وبمخرجات تفيد باتجاه الدولة العراقية الى التفكك والتقسيم إلى دويلات طائفية وعرقية ضعيفة ومتحاربة على الأرض والموارد داخليا , وتابعة لدول الجوار خارجيا.

وفي ضوء مضامين هذه المشاهد يرجح أن إيران ستتصرف حيال كل منها كالأتي:- فحيال المشهد الأول (الاستمرارية) ستعمد إيران أولا إلى تكريس مكاسبها المتحققة وترسيخ نفوذها وتعظيم تأثيرها مستفيدة أساسا من تلك القوى العراقية، الدينية، والسياسية، التي لها مصالح مشتركة ووطيدة معها، فضلا عن توظيف مؤسساتها الرسمية، وغير الرسمية العاملة في العراق منذ عام 2003. إضافة الى الاستفادة من آلية عمل النظام السياسي العراقي، الذي ساهمت هي أيضا في ترسيخه.

 وثانيا ستعمل إيران على ضبط تطور علاقات العراق مع الدول العربية وغيرها وفق طبيعة علاقة هذه الدول مع إيران تأمينا لديمومة تبعية العراق لها. وثالثا فإيران ستحاول تجنب أي صراع مع الولايات المتحدة قد يفضي إلى خسارة مكاسبها المتحققة في العراق. أن نجاح إيران في توظيف معطيات هذا المشهد لصالحها سينعكس على طبيعة علاقتها مع العراق وعلى نحو سيجعل منها عمليا علاقة تبعية بامتياز.

أما حيال المشهد الثاني (التغيير الايجابي) فإيران سوف لن تنظر بعين الارتياح لمعطياته الايجابية، سيما وأنه ينطوي على فرصة تاريخية لإعادة بناء العراق على نحو جديد يفضي إلى أن يكون مستقرا داخليا وفاعلا ومؤثرا خارجيا.

 ولأن ماضي العلاقة العراقية -الإيرانية يفيد أن إيران استمرت تعاني من عقدة تاريخية حيال العراق، وان هذه العقدة تتفاعل مع رؤية ثقافية إيرانية تؤجج "الأنا"، يفترض هذا المشهد أن عودة العراق إلى حالة الفاعلية سيدفع بإيران إلى أن تتبنى حياله سياسة تجمع بين الصراع والتعاون في آن واحد، هذا جراء انطلاقهما بالضرورة من مصالح متعارضة ومتماثلة، الأمر الذي سيجعل من العلاقة العراقية -الإيرانية علاقة تتأسس على علاقة قوامها التكافؤ النسبي الذي لاتتميز به هذه العلاقة حاليا.

وحيال المشهد الثالث (التقسيم) فهو يفترض أن إيران لن تعمل للحيلولة دونه. فعلى الرغم من أن هذا المشهد ينطوي ضمنا على تشجيع القوميات التي تتكون منها دولة إيران، على المطالبة بالانفصال وهو الأمر الذي ستعمد إيران إلى مقاومته، إلا أن هذا المشهد مع ذلك يحقق لإيران ربحا إستراتيجيا شاملا (اقتصاديا وسياسيا).

فتكوين "دويلة" (على أسس طائفية)في جنوب العراق لن يفضي إلى أن تكون تابعة إلى إيران فحسب وإنما يتيح كذلك لها فرصة مثلى لتحقيق هدف قديم يتمثل في أن تكون إيران إحدى دول الجوار الجغرافي لكل من المملكة العربية السعودية ودولة الكويت، بما يعنيه هذا الجوار من دلالات متعددة. فضلا عن استثمار هذه "الدويلة" كجسر بري يسهل على إيران التعرض للمصالح الغربية والأمريكية في الخليج العربي في حالة التصادم.

وانطلاقا من هذا المشهد الذي يفترض أن الدولة العراقية قد تحولت إلى مجموعة دويلات، فإنه يفضي تبعا لذلك إلى انتفاء وجود علاقة عراقية - إيرانية وإنما علاقات "دويلات" ذات مسميات متعددة مع إيران .

وفي ضوء هذه المشاهد نرجح أن مستقبل العراق في المدى المتوسط سيقترن بمشهد يجمع بين الاستمرارية والتغيير. هذا لان معطيات مشهد الاستمرارية لايمكن تخطيها بين ليلة وضحاها، ولا عملية التغيير كذلك يمكن تحقيقها في الفترة ذاتها. وعليه نرى أن العلاقة العراقية - الإيرانية ستجمع بين خصائص التعاون والصراع، هذا لان حتى علاقات التبعية لاتتأسس على تماثل مطلق لمصالح أطرافها، وإنما بالضرورة على تماثلها في أحيان وتباينها في أحيان أخرى.