العنوان هنا
مراجعات 13 أكتوبر ، 2011

"توراة الملك" وقتل الفلسطينيّين

الكلمات المفتاحية

محمود محارب

باحث مشارك في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أستاذ جامعي فلسطيني له العديد من الكتب والأبحاث المتعلّقة بالصهيونية وإسرائيل، والقضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي. حصل على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية من "الجامعة العبرية" في القدس. وفي عام 1986 حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من قسم العلوم السياسية في جامعة ريدينغ في إنكلترا. ومنذ عام 1987 حتى عام 1990، عمل مديرًا لمركز الأبحاث التابع لجمعية الدراسات العربية في القدس المحتلة. 



العنوان: توراة الملك

المؤلف: الحاخام يتسحاق شبيرا والحاخام يوسي ايليتسور

دار النشر: المعهد التّوراتيّ -يشيفات لا زال يوسف حيا

السنة: 2009

عدد الصفحات: 230


أثار إحراق منظّمة يهوديّة إسرائيليّة سرّية مسجدا في بلدة "طوبا زنغرية" في الجليل الأعلى داخل الخطّ الأخضر في الثّالث من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2011، أسئلة ملحّة عن دوافع حرق المسجد، و الجهة التي تقف وراء هذه الجريمة. وقد تركت المنظّمة السّرّية اليهوديّة الإرهابيّة التي حرقت المسجد بصماتها في مسرح الجريمة، تماما كما فعلت عندما حرقت أكثر من خمسة مساجدَ في الضّفّة الفلسطينيّة المحتلّة في الفترة الأخيرة. فقد كتبت هذه المنظّمة اليهوديّة الإرهابيّة على جدران المساجد التي أحرقتها عبارة "تاج محير" باللّغة العبريّة، والتي تعني "جباية الثّمن". وتشير معظم أصابع الاتّهام في هذه الجريمة إلى مجموعات تنتمي إلى دفيئات العنصريّة والتّطرّف المتمثّلة في المستوطنات اليهوديّة الإسرائيليّة في الضّفّة الفلسطينيّة المحتلّة، وخاصّة إلى مدارسها الدّينيّة اليهوديّة (اليشيفوت) المنتشرة في هذه المستوطنات، وإلى امتداداتها في داخل الخطّ الأخضر. ومن أجل الاطّلاع على خلفيّات هذه الجرائم المشينة وعلى الأرضيّة الفكريّة - الدّينيّة - السّياسيّة التي ترتكز عليها، والتي يتبنّاها ويبشّر بها عددٌ كبير جدّا من المستوطنين في الضّفّة الفلسطينيّة المحتلّة، وكذلك عدد متزايد من الإسرائيليّين في داخل الخطّ الأخضر، من المفيد قراءة كتاب "توراة الملك" الذي ألّفه الحاخام يتسحاق شبيرا، رئيس المدرسة الدّينيّة اليهوديّة التي يطلق عليها اسم "يشيفات ما زال يوسف حيا"، القائمة في مستوطنة "يتسهار" الواقعة في جنوب مدينة نابلس في الضّفّة الفلسطينيّة المحتلّة. وشاركه تأليف الكتاب الحاخام يوسي ايليتسور الذي يعلّم في المدرسة الدّينيّة المذكورة نفسها. وممّا تجب الإشارة إليه أنّ هذا الكتاب هو "غيض من فيْض" أفكار التّطرّف والعنصريّة والعداء للإنسانيّة التي تبثّها المدارس الدّينيّة اليهوديّة في مستوطنات الضّفّة الفلسطينيّة المحتلّة، وتلقّنها لطلاّبها الذين تعبّئهم وتربّيهم وتثقّفهم عليها، علاوة على ما يقوم به حاخامات المستوطنين من بثّ سموم الكراهية والعنصريّة والعداء للفلسطينيّين بين أتباعهم في داخل المستوطنات و"اليشيفوت" أو خارجها.     

يهدف كتاب "توراة الملك" إلى تحديد موقف التّوراة والشّريعة اليهوديّة من "الأغيار" (الغوييم بالعبريّة) الذي ينبغي للدّولة اليهوديّة واليهود التزامه والسّير وفقه. ويصنّف هذا الكتاب البشر إلى مراتبَ متعدّدة. وينطلق، بحسب هذا التّصنيف، من أنّ اليهود يتبوّؤون المرتبة العليا، وأنّهم أفضل- بما لا يقاس- من مختلف أصناف البشر الأخرى. و يعتبر أنّ اليهود هم وحدهم الآدميّون الحقيقيّون، في حين أنّ "الأغيار" هم في مرتبةٍ أدنى، وتقترب مرتبتهم كثيراً من منزلة البهائم. لذلك ينبغي للدّولة اليهوديّة واليهود اتّخاذ مواقف التّمييز ضدّهم -في أحسن الأحوال- أو السّماح بقتلهم، أو ينبغي قتلهم في معظم الأحيان، ولا سيّما في أوقات الحرب.


"توراة الملك"... دليل لقتل الفلسطينيّين   

يعالج المؤلّفان، بعمق وإسهاب، مسألةً هيمنت على الكتاب من ألِفه إلى يائه، وهي متى يُسمح لليهود بقتل "الأغيار" (الغوييم)؟ ومتى ينبغي لليهود قتلهم؟ وكي لا يحدث أيّ لبس أو غموض في هويّة "الأغيار"، ولتوضيح أنّ المقصود من "الأغيار" هم العرب الفلسطينيّون أساسا؛ أكّد الحاخام يتسحاق غينزبورغ، الذي يحظى بمكانةٍ دينيّة مرموقة في التّيّار الدّينيّ اليهوديّ في إسرائيل، في مقدّمة كتاب "توراة الملك"، أنّ القضايا التي يعالجها هذا الكتاب "ترتبط ارتباطا وثيقا بالوضع في أرض إسرائيل، التي ينبغي لنا استرجاعها من أعدائنا". واستطرد بالقول إنّ كتاب "توراة الملك" يأتي من أجل تحقيق هذا الهدف، ولتعزيز معنويّات شعب إسرائيل وجنوده، وليوضّح رأي التّوراة والشّريعة اليهوديّة بعمق وشموليّة في القضايا المهمّة المتعلّقة بهذا الأمر. وأكّد المؤلّفان في هذا الكتاب أنّ "في الحرب على مصير أرض - إسرائيل ينبغي قتْل الأغيار. فالأغيار الذين يطالبون بهذه البلاد لأنفسهم، يسلبونها منّا، وهي إرث لنا من آبائنا". ويشكّل هذا الكتاب فعلا "دليلا للحائرين" وللمتردّدين ولمن يريد فتوى دينيّة يهوديّة في متى "يُسمح" بقتل العرب الفلسطينيّين ومتى "ينبغي" ذلك وفق الشّريعة اليهوديّة؛ علاوة على كونه يشكّل دعما "معنويّا" و "دينيّا" لكثيرين من المستوطنين والإسرائيليّين المقتنعين بمضامين هذا الكتاب قبل قراءته.

كتب المؤلّفان الكتاب بلغة عبريّة قديمة مشابهة للكتابات الدّينيّة اليهوديّة في العصور القديمة، وقاما بتعزيز آرائهما الواردة في الكتاب، ولا سيّما تلك الدّاعية إلى قتل الأغيار، (أيْ الفلسطينيّين) بنصوص من الشّريعة اليهوديّة وبالاستشهاد والاقتباس بكثرة من كبار الحاخامات اليهود عبر العصور المختلفة، وجعلا ذلك خلف كلّ رأي أبدياه في الكتاب، ما أضفى عليه هالة دينيّة تؤثّر في قسم كبير من اليهود، خاصّة المتديّنين منهم. واستند المؤلّفان في كتابهما إلى المصادر الدّينيّة المهمّة في الشّريعة اليهوديّة. فعلاوة على التّوراة المكتوبة التي اقتبسا منها قليلاً، استندا إلى التّوراة الشّفهيّة التي جُمعت في القرن الثّاني للميلاد في كتاب "المشناه"، وإلى اجتهادات الحاخامات اليهود التي جاءت بعد "المشناه" والتي جُمعت بدورها في "التّلمود"، أكان ذلك التّلمود الذي جُمع في بابل في القرن الخامس الميلادي وأطلق عليه "التّلمود البابلي"، أو التّلمود الذي جُمع في فلسطين في القرن الرّابع الميلادي وأُطلق عليه "التّلمود اليروشلمي". كما استند كتاب "توراة الملك" إلى كتاب "مشنيه توراه" الذي جمعه الحاخام موسى بن ميمون (رمبام) وصنّفه وعقّب عليه وأضاف إليه شروحاً ، في القرن الثّاني عشر ميلادي، وإلى كتابات الحاخام موشي بن نحمان (رمبان) في القرن الثّالث عشر، وإلى كتاب الحاخام يوسف كارو "شولحان عاروخ" (المائدة الجاهزة) الذي صدر في القرن السّادس عشر، وكذلك إلى كتابات وفتاوى كبار حاخامات القرن العشرين الذين احتلّوا مكانة مرموقة في التّيّار الدّينيّ الصّهيونيّ مثل الحاخام كوك.

على الرّغم من استناد كتاب "توراة الملك" بشكل موسَّع إلى أهمّ المصادر في الشّريعة اليهوديّة، إلاّ أنّه عرض واستعمل النّصوص والفتاوى والتّفسيرات الأكثر تطرّفاً في الشّريعة اليهوديّة التي تسمح بقتل "الأغيار" أو تحبّذه أو تدعو إليه أو توجبه، وتجاهل القيم الإنسانيّة والإيجابيّة في الشّريعة اليهوديّة، الأمر الذي زاد من خطورة هذا الكتاب، إذ يدعو كتاب "توراة الملك" بوضوح إلى إبادة الشّعب العربيّ الفلسطينيّ ويحرِّض على ذلك بشكل سافر .


فصول الكتاب

يتألّف كتاب "توراة الملك" الذي صدر في سنة 2009 عن "المعهد التّوراتيّ في يشيفات لا زال يوسف حيا"، من مقدّمة وستّة فصول وخلاصة توزّعت على230 صفحة. ويعتزم "المعهد التّوراتي" إصدار الجزء الثّاني من الكتاب بعدما يفرغ المؤلّفان من إنجازه، والذي سيعالج مجموعة من الموضوعات مثل موقف "توراة الملك" من "الأقلّيات في الدّولة اليهوديّة".

أكّد الفصل الأوّل أنّ فريضة "لا تقتل" الواردة في الشّريعة اليهوديّة، تحرّم قتل اليهوديّ لليهوديّ، ولكنّها لا تنطبق إطلاقا على اليهوديّ الذي يقتل واحدا أو أكثر من الأغيار. وأشار الكتاب إلى أنّ من حقّ اليهوديّ في حالات كثيرة قتل "الأغيار"، وأكّد أنّه في حالاتٍ أخرى كثيرة ينبغي لليهوديّ قتل الأغيار.

جاء الفصل الثّاني من الكتاب تحت عنوان : "قتل غير اليهوديّ الذي يخالف الفرائض السّبع"، وأكّد المؤلّفان أنّ غير اليهوديّ الذي يخالف واحدة من الفرائض السّبع المفروضة على "أبناء نوح" يجب قتله. فالله وفْق ما ذهب إليه المؤلّفان، طلب من جميع البشر قبول توراته، واستجاب إلى هذا الطّلب "أبناء إسرائيل" فقط، في حين رفض جميع البشر الآخرين الاستجابة لطلب الله. لذلك، ميّز الله "أبناء إسرائيل" عن جميع البشر الآخرين ومنحهم مكانة خاصّة جدّا ومرموقة للغاية وقرَّبهم منه، وحطّ في الوقت نفسه من منزلة "الأغيار" الذين يطلق عليهم المؤلّفان "أبناء نوح". ويحتلّ "أبناء نوح" (الذين يصنّفهم الكتاب في عدّة مراتب) منزلة متدنّية في سلّم تصنيف كتاب "توراة الملك" للبشر. وعلى "أبناء نوح" التزام الفرائض السّبع التي فرضها الله عليهم من خلال "أبناء إسرائيل". ويحقّ لأيّ يهوديّ قتل أيّ شخص من "أبناء نوح" إذا خالف واحدة من الفرائض السّبع. وأكّد المؤلّفان أنّ قيام اليهوديّ بتنفيذ هذا القتْل لا يحتاج إلى محكمة وشهود إثبات، بل يكفي أن يرى أيّ شخص يهوديّ  أو يعرف أنّ غير اليهودي يخالف واحدة من الفرائض السّبع، فيحقّ له قتله.

ويقارن الفصلان الثّالث والرّابع بين اليهود و"الأغيار" ومدى تمسّك كلّ منهما بمعتقداته، وموقف اليهود و"الأغيار" من القتل، ويستخلص المؤلّفان أنّ اليهود يُسمح لهم بقتل الآخرين أكثر ممّا يسمح للأغيار بقتل أناس من الأغيار الآخرين.


القتل سيّد الأحكام

أكّد المؤلّفان في الفصل الخامس الذي جاء تحت عنوان: "قتل الأغيار في الحرب"، أنّه لا ينبغي قتل المقاتلين الذين يشاركون في الحرب ضدّ إسرائيل وحدهم، بل يجب قتل أيّ مواطن، في المنطقة أو الدّولة المعادية، يشجّع المقاتلين أو يعبّر عن رضاه عن أعمالهم. أمّا أولئك المواطنون في الدّولة أو المنطقة المعادية، الذين لا يشجّعون دولتهم في أعمال الحرب بأيّ شكل من الأشكال "فيسمح" بقتلهم. و يقولان إنّ الشّريعة اليهوديّة تشكّ في أنّهم يرغبون، في أوقات السّلم، في سفك دماء اليهود. ويتعاظم هذا الشّكّ في أنّهم يرغبون في سفك دماء اليهود في حالة الحرب، ما يسمح بقتل هؤلاء الأغيار المدنيّين الأبرياء الذين لا يشاركون إطلاقا في مجريات الحرب. ويعطي المؤلّفان أسبابا أخرى تسمح بقتل المدنيّين الأبرياء، فيذكران أنّ "قسمًا كبيرًا من الخبث والشّرّ الموجود في داخل هؤلاء المدنيّين الأغيار" ينبع من مخالفاتهم للفرائض السّبع، ومن هنا، "لنا شأن في تنفيذ الحكم بحقّهم وقتلهم بسبب مخالفاتهم هذه"، ولذلك، "قرّر حكماؤنا العظماء أنّ أفضل الأغيار في فترة الحرب "هو الميّت"، إذ لا يوجد مجالٌ لإصلاحهم لأنّ خطرهم وخبثهم عظيمان. أمّا في شأن الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين يوم واحد وسنّ الرّشد، والذين بطبيعة الحال لا يخالفون الفرائض السّبع لعدم إدراكهم لها أو سماعهم عنها، فبالإمكان قتلهم "بسبب الخطر المستقبليّ الذي يشكّلونه إذا سمح لهم بالعيش ليكبروا فيصبحون أشراراً مثل أهلهم". ويضيف المؤلّفان: "بطبيعة الحال يُسمح بقتل الأطفال، والمدنيّين الآخرين كذلك، الذين يحتمي بهم "الأشرار"، فيجب قتل "الأشرار"، حتّى وإنْ أدّى ذلك إلى قتل الأطفال والمدنيّين".


استهداف المدنيّين الأبرياء

يعالج المؤلّفان في الفصل السّادس الذي جاء تحت عنوان: "استهداف الأبرياء"، قتل الأبرياء في "الدّولة الصّالحة"، أيْ في إسرائيل، ويقولان إنّ هذه "الدّولة الصّالحة" كانت  في القِدم ترغم رجالها الأبرياء على الخروج إلى الحرب، ما يعرّض حياتهم لخطر الموت. ليس هذا فحسب، بل إنّ الدّولة كانت تكلّف حرّاسا ليقفوا خلف الجنود المقاتلين يقتلون كلّ من يهرب منهم. ويضيف المؤلّفان أنّ الملك، إذا لم يكن في إمكانه إلحاق الأذى بمواطنيه المقاتلين من أجل المشاركة في الحرب وإرغامهم على الإقدام والاستعداد للموت، فإنّ مملكته لا تستطيع الصّمود أمام الأشرار الذين لا يتردّدون في ممارسة القتل من أجل تحقيق الانتصار. ويستخلص المؤلّفان أنّه إذا كان مسموحا للملك قتل رجاله المقاتلين الأبرياء لإرغامهم على القتال، فإنّ من حقّه ومن المسموح به استهداف الأبرياء التّابعين لمملكة الأشرار وقتلهم.

يؤكّد المؤلّفان حقّ إسرائيل في استهداف مواطني الدّولة المعادية وقتلهم مهْما بلغت أعمارهم ومهْما بلغ عددهم، حتّى لو كانوا قد وُلدوا لتوّهم، أو كانوا من كبار السّنّ وعلى حافة الموت؛ أَكانوا ذكورا أم إناثا، أَشاركوا في القتال والجهد الحربيّ أم لم يشاركوا إطلاقا، فيحقّ لإسرائيل استهدافهم وقتلهم جميعا. ويستند المؤلّفان في موقفهما هذا، إلى ما ورد في الشّريعة اليهوديّة وتفسيرات حاخامات اليهود عبر العصور. ويستعمل المؤلّفان جميع أحكام الشّريعة اليهوديّة التي تتيح قتل الأغيار، مثل الحكم في من يطارد اليهود ويضطهدهم (دين رودف)، وفي مَن يشِي باليهود (دين موسر)، وذلك كلّه لتبرير قيام إسرائيل بقتل الفلسطينيّين. ويعود المؤلّفان ويؤكّدان أنّه ينبغي قتل الفلسطينيّين لأنّهم يخالفون الفرائض السّبع، ويستطردان أنّه ينبغي استهداف المدنيّين الفلسطينيّين الذين يساعدون "القتلة" وقتْلهم، حتّى إذا كان هؤلاء الأبرياء مرغمين على القيام بذلك. ويقول المؤلّفان: "حتّى إذا كانوا مربوطين أو مسجونين ولا يوجد لديهم أيّ إمكانيّة للفرار ولا يوجد لهم أيّ خيار آخر إلاّ البقاء في المكان ذاته، وكانوا كالرّهائن - فإنّه يُسمح باستهدافهم وسحْقهم وقتْلهم إذا كانت هذه هي الوسيلة للتّخلّص من الأشرار، فكما أوضحنا سابقاً فإنّ من يساعد على القتل رغماً عن إرادته يُسمح باستهدافه وقتله أيضا، وفي كثير من الأحيان يجد الأطفال أنفسهم في مثل هذه الحال: إنّهم يسدّون بوجودهم في المكان طريق الإنقاذ، وهم يقومون بذلك بالإكراه و دون قصد، ومع ذلك يُسمح باستهدافهم وقتلهم لأنّ وجودهم يساعد القتل".  وبناءً على ذلك، يمكن الاستنتاج أنّ "توراة الملك" يبرّر إذا وُجد أحد "المطاردين" الفلسطينيّين المطلوبين لإسرائيل في عمارة كبيرة تزدحم بمئات المواطنين المدنيّين الفلسطينيّين الأبرياء، أكان هؤلاء موجودين بإرادتهم أو خلافا لإرادتهم، فيحقّ لإسرائيل استهدافهم وقتلهم.

يميّز المؤلّفان ما بين القوانين الخاصّة بالحرب التي تنطبق على الدّول غير اليهوديّة، وتلك القوانين التي تنطبق على إسرائيل. ففي الحرب بين دولتين غير يهوديّتين، إحداهما "عادلة" والأخرى "شرّيرة"، إذا كانت العمليّة الحربيّة التي تقوم بها الدّولة العادلة تؤدّي إلى قتل عددٍ كثير من الأبرياء من مواطني الدّولة المعادية الشّرّيرة لإنقاذ عددٍ قليل من مواطني الدّولة العادلة، فإنّه يُحْظر على الدّولة العادلة القيام بهذه العمليّة. ولكن "في الحرب بين إسرائيل والأغيار فإنّنا ببساطة نفضّل قتل الأغيار من أجل إنقاذ يهود، لأنّ حياة اليهود أكثر قيمة وأفضل، كما رأينا في الفصل الرّابع  من الكتاب، علاوة على ذلك، فإنّ اليهود هم الذين يقومون بإصلاح العالم وهم الذين يقومون كذلك بإيصال كلام الله، وخاصّة الفرائض السّبع، إلى العالم بأسره".


الانتقام... الانتقام... من الأطفال

يحتلّ الانتقام مكانة مهمّة للغاية في الفصل السّادس من كتاب "توراة الملك"، ويحيطه المؤلّفان بهالة من القدسيّة، ويؤكّدان أنّه ينبغي لإسرائيل الانتقام من الفلسطينيّين، فالانتقام هو أحد الضّرورات المهمّة التي توجب قتل "الأشرار"، وهو حاجة ضروريّة في سبيل هزيمة "الأشرار" والانتصار عليهم. لذلك في الإمكان تأجيل دفن الميّت من أجل تنفيذ الانتقام. فالانتقام هو تجلِّي العدل، ويجب القيام به بحماسة و"من دون حساب". والانتقام ليس ضروريّا للأحياء وحدهم، وإنّما هو ضروريّ للأموات أيضا، فَـ "في عالم الأرواح هناك تماثل ما بين روح الشّخص والعدل، والرّوح تطالب بالعدل الذي هو الانتقام". ويضيف المؤلّفان: "يجب عدم استثناء أحد عند قيام إسرائيل بالانتقام، فجميع الفلسطينيّين معرّضون للانتقام. وأمام الانتقام لا أحد بريء: الكبار والصّغار والأطفال، الرّجال والنّساء، ومهْما كانت حالتهم، ينبغي الانتقام منهم". ويبرّر المؤلّفان قتْل الأطفال، ولاسيّما الرُّضَّع منهم والذين وُلدوا لتوِّهم، باستنادهما إلى قيام "أبناء إسرائيل" بقتل صغار أطفال "مدين" في الزّمن الغابر. ولا يأتي قتل الأطفال بالجملة، لخلق ميزان رعب فحسب، ولا لأنّ هؤلاء الأطفال ينتمون إلى "الأشرار" فحسب، وإنّما "لوجود حاجة داخليّة للانتقام"، وقتل الأطفال ولا سيّما صغارهم، يستجيب لهذه الحاجة وفق ما يؤكّده المؤلّفان. ويستمرّ المؤلّفان في تعداد الأسباب التي تستدعي قتل الأطفال الفلسطينيّين فيذكران أنّ في الإمكان التّعامل مع وجوب قتل الأطفال الفلسطينيّين على أساس أنّ القدر اختار أن يكون في قتلهم بالذّات إنقاذٌ لليهود، وفي الوقت نفسه، فإنّ قتلهم يمنع وقوع الشّرّ، "بالإضافة إلى ما ذكرناه في الفصل السّابق أنّهم بطبيعة الحال متّهمون في أنّهم سيصبحون أشراراً عندما يكبرون". 

من الملاحظ أنّ جميع العقوبات والأحكام التي يتضمّنها كتاب "توراة الملك" على أيّ مخالفة هي القتل والموت. ولا توجد عقوباتٌ في الكتاب إلاّ القتل والموت، وحتّى العقوبة التي يفرضها الكتاب على الأبرياء هي القتل والموت. ولا توجد في الكتاب عقوباتٌ أخرى مثل السّجن أو فرْض الغرامة أو ما شابه. ومن الملاحظ أيضا أنّ الكتاب لا يعترف بالقوانين الدّوليّة المتعلّقة بالحرب وبحماية المدنيّين في أثناء الحرب، وتلك القوانين الإنسانيّة الدّوليّة المتعلّقة بمنع إبادة الشّعوب وبمعاقبة مرتكبيها. وربّما يأتي هذا الأمر لأنّ الكتاب يفترض، كما يعتقد كثير من الإسرائيليّين، أنّ إسرائيل فوق هذه القوانين الدّوليّة، ما دامت الإدارة الأميركيّة تدعم إسرائيل، وما دام ميزان القوى في المنطقة يسمح بذلك، وما دامت الدّول العربيّة خاضعة لإسرائيل ولا تواجهها أو تقاومها.

تكمن خطورة هذا الكتاب في أنّ الأفكار الواردة فيه، التي تبزّ في انحطاطها أسوأ الأفكار والنّظريّات المعادية للإنسانيّة التي ظهرت في تاريخ البشريّة، ليست محصورة في فئة قليلة ومنعزلة عن بقيّة المستوطنين والمجتمع الإسرائيليّ. فهذه الأفكار تتبنّاها قطاعاتٌ واسعة جدّا من المستوطنين اليهود في الضّفّة الفلسطينيّة المحتلّة، و فئات واسعة من اليهود المتديّنين الصّهيونيّين واليهود المتديّنين "الحريديم" في داخل إسرائيل. وكبار الحاخامات الذين يؤيّدون علنًا كتاب "توراة الملك" ويدافعون عنه وعمّا جاء فيه، ليسوا هامشيّين إطلاقا، وهم معروفون بانتمائهم إلى الصّفّ الأوّل من التّيّار المركزيّ الدّينيّ في إسرائيل، بشقّيْه التّيّار الدّينيّ "الحريدي" و التّيّار الدّيني القوميّ الصّهيونيّ. وعلاوة على ذلك، يتخرّج في المدارس الدّينيّة اليهوديّة (اليشيفوت) القائمة في المستوطنات الإسرائيليّة وفي داخل إسرائيل، آلاف الطّلاّب بعد تثقيفهم وتربيتهم على الكراهية والحقد وعلى القيم المعادية للقيم الإنسانيّة كالأفكار والمواقف المعادية للفلسطينيّين والمنادية بطردهم وقتلهم، وعلى التّعاليم الواردة في كتاب "توراة الملك" المنادية بإبادة الفلسطينيّين، يزداد عدد هؤلاء الطّلاّب سنة بعد أخرى، ويزداد كذلك عددهم ونسبتهم في الجيش الإسرائيليّ. ولا تكمن الخطورة أيضا في تبنِّي هذه الأفكار والتّبشير بها فحسب، وهو في حدّ ذاته أمر خطير جدّا، وإنّما في انتقال قطاعات واسعة من المستوطنين من عالم تبنِّي هذه الأفكار إلى عالم الأفعال. فالمستوطنون يقومون منذ سنوات، وتحت رعاية الحكومة الإسرائيليّة وحماية جيش الاحتلال الإسرائيليّ بالاعتداء على الفلسطينيّين وممتلكاتهم ومقدّساتهم. ويشكّل هؤلاء الحاخامات وطلاّب "اليشيفوت"؛ الذين يبجّلون كتاب "توراة الملك" والأفكار الواردة فيه ويتعاملون معه وكأنّه توراتهم الأصليّة الحقيقيّة، يوميّا وعلى مدار السّنة؛ رأس حربة للمستوطنين وللاحتلال، ويبطشون بالفلسطينيّين وينكّلون بهم بما في ذلك مهاجمة بلداتهم وقراهم وقَطْع أشجار حقولهم وحرْق مزروعاتهم ومساجدهم لتحويل حياتهم إلى جحيم لا يطاق كمقدّمة لترحيلهم. وفي هذا السّياق، انبثق في سنة 2009 من بين صفوف هؤلاء الحاخامات وطلاّبهم في "اليشيفوت" الموجودة في المستوطنات في الضّفّة الفلسطينيّة المحتلّة، تنظيمٌ يهوديّ عسكريّ سرّيّ تحت اسم "تاج محير" (جباية الثّمن) الذي يشكّل القوّة الضّاربة العسكريّة للمستوطنين الذين يهتدون بكتاب "توراة الملك".