عقد المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة المؤتمر السنويّ الثاني للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، يومَي 30- 31 آذار / مارس 2013. وتناول مؤتمر هذا العام موضوعين؛ هما: "جدليّة الاندماج الاجتماعي وبناء الدّولة والأمّة في الوطن العربيّ"، و"ما العدالة في الوطن العربيّ اليوم؟".
صدرت أوراق منتقاة من أعمال المؤتمر في الموضوع الأول ضمن كتاب :
وقد افتتح مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات الدّكتور عزمي بشارة أعمال المؤتمر، وأقى محاضرة في موضوع: ما العدالة في الوطن العربي اليوم؟ ورأى أن الفرصة سانحة اليوم ليقدم الفكر والحضارة العربية مساهمة كونية في فكرة العدالة التي مرت بتطورات تاريخية عديدة، وقال في هذا الصدد: "لقد مرت فكرة العدالة بأطوار تاريخية بحيث أدمجت أولا التعامل بالمثل كما في شريعة حمورابي، أي العدالة كمعاملة بالمثل، ثم أدخلت فكرة المساواة في نطاق مفهوم العدالة لاحقا في القرن التاسع عشر في الأيديولوجيا وليس في العلوم الاجتماعية، فالمساواة موقف وليست نظرية، وظهر ذلك في الأيديولوجيات المستوحاة من الثورة الفرنسية. وبعد ذلك أدخلت فكرة الحرية في مضمون مفهوم العدالة. وبرأينا، إذا أردنا أن نساهم كعرب في العلوم الاجتماعية في هذه المرحلة وأخذا بعين الاعتبار للواقع العربي، لأن المساهمات الكونية في العلوم الاجتماعية هي في الواقع مساهمات محلية لثقافات مهيمنة، وهي كونية لأنها محلية، فإن مساهمتنا الكونية في العلوم الاجتماعية يجب أن تنطلق من واقعنا. وفي واقعنا لا توجد قضية أهم من قضية فشل الاندماج الاجتماعي. وليس بالإمكان تحقيق العدالة من دون تحقيق الاندماج الاجتماعي، ونقصد بذلك الاندماج الثقافي والاقتصادي وعلى مستوى الهوية وعلى مستوى المواطنة".
وبدأ بشارة تحليله بمدخل في معاني لفظ "العدالة" في اللغة العربية واقترانه بالمساواة، ليصل إلى القول إنّ فكرة المساواة مزروعة في العدالة في الثقافة العربية والفكر العربي، وهي أيضا مزروعة في العدالة في الثقافة الغربية ولكنها كانت عند هيغل مثلا تقوم على أن الشيء يساوي ذاته ولا يساوي غيره، فهي مساواة بين متساوين، بمعنى أن مالك العبيد لا يساوي العبد والرجل لا يساوي المرأة وابن هذه المنزلة الاجتماعية لا يساوي مواطن المنزلة الاجتماعية الأخرى". وأوضح أن فكرة المساواة الطبيعية هي في الحقيقة فكرة دينية في الإسلام والمسيحية، وهي تبدأ في المسيحية بفكرة خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، وفي الإسلام بتعابير قرآنية مثل "وجعلناك في الأرض خليفة" "وكرّمنا بني آدم". ثم انتقلت هذه الفكرة التي تساوي بين الناس إلى الفكر الغربي الحديث، وأن الناس متساوون بطبيعتهم وأن الفروق النسبية بينهم عند مولدهم لا تبرر تصنيف السيد والعبد، وأن هذه الفروق صنيعة الثقافة والسياسة. وهذا ما برر وجود كيان سياسي من حق الجميع أن يشاركوا في التعاقد عليه، ولكنه لم يبرر حقوقا، فلم تكن العدالة في الفكر الغربي الأول تعني الحقوق، بالعكس كانت تعني الحرمان من الحقوق عند هوبز، بمعنى أنه من العادل أن يتخلى الإنسان عن حقوقه لمصلحة الدولة، فلم يكن هناك تناسق واضح بين فكرتي الحقوق والعدالة قبل الثورة الفرنسية التي صاغت حقوق الإنسان.
وأوضح الدكتور عزمي أن ما نعرفه من دخول المساواة كأيديولوجيا في فكرة العدالة، بمعنى المساواة الاجتماعية، وبمعنى مصادرة الملكية الخاصة وبمعنى توزيع الخير الاجتماعي بين الناس بحسب الحاجة أو بحسب الاستحقاق، والتي جاءت بها نظريات الفكر الاشتراكي المختلفة في القرن التاسع عشر، هي في الحقيقة أيديولوجيات، وهي مواقف وليست علما. فيما أن الانقسام الفكري الذي سبق هذه الأيديولوجيات هو الانقسام بين فكرة المنفعة وفكرة الحرية، بين جيرمي بنثام وإيمانويل كانط، أي هل بالإمكان تأسيس الأخلاق ومن ضمنها العدالة كموقف أخلاقي، على فكرة السعادة أم أن السعادة لا يمكن أن تبنى عليها الأخلاق وإنما يجب أن تبنى على مبدأ آخر أسماه كانط الواجب الأخلاقي، وهو في الواقع يقصد الحرية.
وأكد أن هذه الفكرة كان قد توصل إليها المعتزلة، بأن العدل يقوم على الحرية وأنه لا يمكن أن تحسم موقفا إن كان عادلا أو غير عادل إذا لم تكن حرا، فلا يمكن أن يحاسب المرء على أخلاق أو مبدأ أخلاقي من دون مبدأ حرية. ولذلك سمي المعتزلة أهل العدل والتوحيد. وأشار إلى أن النقاشات الأيديولوجية السائدة بين التيارات السياسية المختلفة واعتبار الإسلام تيارا سياسيًّا تسببت في إهمال موضوعات رئيسة في الفكر الإسلامي تم التطرق إليها، ولكن تتخذ منها اليوم مواقف أيديولوجية من غير وجه حق.
وقاد بشارة تحليله لفكرة العدالة ليصل إلى جوهر الموضوع في الوطن العربي اليوم، فبما أننا نتحدث عن العدالة في عصرنا في إطار وحدات مرجعية، فإن إطار العدالة في العصر هو الدولة الوطنية. فالدولة مرجعية لفكرة العدالة، لذلك علينا أن ننظر في الدولة العربية، هل لدينا دولة يكون فيها معيار العدالة هو مرجعية الدولة وليس الهويات؟ "فإذا كان الإطار المرجعي هو الدولة، والعلاقة بين الإنسان والدولة تسمى المواطنة، يفترض أن تكون مرجعية العدالة هي فكرة المواطنة. وإذا كانت هناك عدالات متعددة في الدولة (كل واحدة خاصة بالمتساوين في فئة واحدة) فإن ذلك يؤسس لكيانات سياسية متعددة وليس لكيان واحد. وما يسمى التعايش هو هروب من الموضوع الرئيس، فالتعايش يحمل معنى التهدئة... تهدئة الحرب الباردة التي قد تتحول في أي لحظة إلى حرب أهلية. العدالة لا تقوم على التعايش بل تقوم في إطار مرجعي واحد اسمه الدولة، لا في إطار متعدد متعايش. فبالإمكان صوغ نماذج تأخذ الهويات الأهلية بعين الاعتبار، ولكن يجب أن تتأسس على ما سبق ودخل على مفهوم العدالة، ألا وهو الحرية. إن الهوية في رأيي في مفهوم العدالة الحديث لها معنى حقوقي إذا تأسست على فكرة الحرية، بمعنى أن من حريتي أن تكون لي هوية، وحقي كمواطن يكفل لي أن تكون لي هوية، أما إذا اشتق حقي من الهوية وليس أن الهوية حقي، وإذا اشتقت الحرية من الهوية، بمعنى أنني حر في داخل هذا الإطار الطائفي الذي يحمي حريتي، نكون قد هدمنا كل التاريخ الذي بني عليه تطور مصطلح العدالة، وهذا يؤسس لكيانات متعددة وليس لكيان موحد. أنا لست فكريا ضد أن نطور كعلماء علم اجتماع وعلوم سياسية أو سياسيين فكرة الكيانات الهوياتية داخل الدولة، لكنها يجب أن تقوم على مبدأي المواطنة والحرية وليس العكس بأن يقوم مبدآ المواطنة والحرية على الهويات، بمعنى أن هذه الهويات هويات اختيارية، أي أن أختار أن أُؤطّر في إطار طائفي معيّن ولديّ الحرية في أن أتخلى عنه إذا شئت. والمبدأ الثاني أن تقوم هذه الكيانات على أساس المساواة بين المواطنين. أما إذا بدأنا بالهويات، فلن نؤسس لعدالة بمعناها المعاصر الذي خلفه تاريخ، بل نبدأ تاريخا جديدا خاصا بنا أخشى أنه يقود إلى حروب أهلية".
صدرت أوراق منتقاة من أعمال المؤتمر في الموضوع الثاني ضمن كتاب :
معالجات في السياق العربي
وافتُتحت الجلسة الابتدائية بمحاضرةٍ للدّكتور أحمد بعلبكي في المحور الأول للمؤتمر "جدلية الاندماج الاجتماعي" عنوانها "عن ليبيراليّةٍ في لبنان تتحصّن بدمج الأفراد في طوائفهم". وانطلق في تناوله لارتباط الأفراد بالمجتمع في المجتمعات اللّيبيراليّة من تمييز علماء الاجتماع بين شكلين من هذا الارتباط؛ فهناك "ارتباط الدّمج الاجتماعي"، المفروض مثلًا على المهاجرين في المجتمعات الأوروبيّة اللّاتينيّة، من خلال خضوعهم للقيم السّائدة في هذه المجتمعات، أما الشكل الثاني للارتباط فهو "ارتباط الاندماج الاجتماعي"، وهو يقوم في المجتمعات الأنكلوسكسونيّة على الالتزام بقيمٍ وتشريعاتٍ تضمن انفتاح المجتمع على الخصائص الثّقافيّة والاجتماعيّة المختلفة لدى الأفراد الوافدين عليه.
وبعد استعراض المحاضر طبيعة هذه المجتمعات اللّيبيراليّة وخصائصها، أشار إلى أنّ الأزمات الاندماجيّة النّاتجة عن قيم هذه المجتمعات وقواعد سلوكها، من شأنها أن تؤدّي إلى ارتداد المهاجرين عن أيديولوجيّة المجتمع اللّيبرالي التّعاقدي.
ثمّ انتقل بعلبكي إلى حالة المجتمع اللّبناني؛ فرصد معوِّقات الاندماج الاجتماعي فيه، ولاحظ جملةً من المؤشِّرات التي تحول دون تحقّقه؛ وعلى رأسها: تراجع أطر التّنظيمات النّقابيّة والعمّاليّة عن الاضطلاع بدورها التّنظيمي والمطلبي المستوحَى من التّجارب اليساريّة، وفشلها في تغليب المكوِّن المهني الاجتماعي على المكوِّنات الطائفيّة في تركيب هويّات تلك الفئات.
وتحدّث عن فروق الاندماجات بين الطّوائف في الثّقافة والتّربية، بسبب تحصّنها بمؤسّساتٍ تعليميّةٍ طائفيّةٍ في تنشئة الأبناء. كما أشار إلى الفروق بين المناطق والقطاعات في إمكانات الاندماج الاقتصادي والاجتماعي؛ ممّا انعكس سلبًا على أوضاع الأجراء وكفاءة المهنيّين وتسبّب في تشرذم الجسم النّقابي.
وسجّل المحاضر في ختام ورقته أنّ ما رصده من معوّقات اندماجيّة في المجتمع اللّبناني، قد أدّى إلى تراجع نسبة المشاركة في الحياة السّياسيّة، وإلى تراجع الحقوق في العمل.
وقدّم الدّكتور فهمي جدعان، محاضرة في المحور الثاني للمؤتمر "ما العدالة في الوطن العربيّ اليوم؟" وكان عنوانها "العدالة في ديونطولوجيا عربيّة". وأشار في مستهلِّها إلى أنّ الباحثين قد درجوا على استخدام لفظي "العدل" و"العدالة" بالمعنى نفسه، في حين استُعمل المصطلحان بمعنييْن مختلفين في نصوص التّراث الإسلامي.
واستعرض المحاضر تاريخ مفهوم "العدل" وتطوُّر التّنظير له، فأشار إلى المكانة الخاصّة التي أولاها التّراث الإسلامي له، ولدور فلسفة الأنوار في التّنظير له. وأكّد على ضرورة الاهتمام بهذا المفهوم؛ نظرًا إلى دور منظري اللّيبرالية المتوحِّشة اليوم في ازدرائه.
ورأى أنّ العودة إلى الفكر الغربي مهمّة في تناول المفهوم، لكن من المثير للسّخرية إسقاط التّجربة النظريّة الغربيّة على واقعنا العربيّ. كما أكّد على أنّ ما صاغتْه المذاهب الغربيّة المتداوَلَة اليوم من تنظيراتٍ تتعلّق بمفهوم "العدالة"، ليس خصيصةً ماهويّةً للعقل الغربيّ، بل هو ينتمي إلى المشتَرَك الإنسانيّ.
وفي نتائج الورقة العمليّة، أقصى الباحث العدل بمفهومه "الكلاميّ" من الموروث الإسلاميّ، كما أقصى التّأثير الفلسفيّ اليونانيّ فيه. وأبقى - في المقابل - على الموروث المنتمي إلى العدل الشّرعي الإسلاميّ؛ حيث "العدل" غاية الشّرع ومقصده.
كما تحدّث عن إمكانية الأخذ بمذهب النفعيّة، إذا حُمِل على معنى الخير العامّ، وإسقاطه داخل الفضاء العربي الإسلامي. في حين يفضل استبعاد هذا المذهبَ إذا ما ألغى العامل الأخرويّ وارتبط بالفردية واللّذائذيّة.
وانتهى إلى ذكر الشّروط الأساسيّة لتحقّق العدل؛ ومنها: أهميّة العمل والثّروة والنموّ الاقتصادي المتكامل. كما رأى أنّ بإمكان ديمقراطيةٍ عالمة أن تكون من بين تلك الشّروط، وأن تضطلع بوظيفة تحقيق العدل.
خُتم الحفل بمحاضرة للدكتور طارق البشري موضوعها: "حول حركية تشكّل الجماعات السياسية". أكّد البشري في مستهلّ محاضرته على أنّ تنوّع معايير التصنيف التي تميّز بين الجماعات تعدّ جامعة وليست مانعة، وأضاف أنه يتعيّن لانتماء الجماعة السياسيّة أن يكون قادرًا على حمل الوظائف التي تُطلب منه.
وقال البشري: "إنّ عناصر ما يمكن أن تقوم عليه الجماعة السياسيّة، تكون عادةً مجتمعة، فما من فردٍ في جماعة إلّا وهو مشمول بعلاقاتِ نسَبٍ، أو هو مشارك غيره في لغةٍ تجمعهم، وفي عقيدةٍ تشملهم. وإنّ أحداث التاريخ وعلاقات الجماعات البشريّة بعضها ببعض هي ما يرجّح اعتبار واحد من هذه العناصر هو الذي يمثّل العنصر الجامع إزاء غيره من العناصر الأخرى، هي كلّها مرشّحة لتكوين دوائر انتماء".
وأشار البشري إلى أنّه ينبغي النظر إلى دوائر الانتماء على تعدّدها والبحث في أساليب تعاملها مع بعضها البعض. وإنّ من أهمّ ما يتعيّن ملاحظته أنّ دوائر الانتماء هذه في تفاعلها مع بعضها البعض إنّما يكون الرجحان في الظهور بشأنها وتبوّؤ الصدارة الحاكمة هو لما يمكن أن يتمتّع منها بتشكيل تنظيمٍ يفوق غيرها. وأضاف أنّه يستحيل في هذا الصدد تجاهل الأثر الكبير لأساليب تشكيل أجهزة الدولة القطريّة في بلادنا، وأنّه ينبغي البدء من هذا الواقع الموجود والنظر في كيفيّة معالجته وتطويره وتعديله. وليكون لنا في تجربة الاتّحاد الأوروبيّ درسٌ يُستفاد، وفي هذا السياق قدّم البشري أربعة مقترحات لبلوغ هذا الهدف.
مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية