نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مؤتمره السنوي الخامس للعلوم الاجتماعية والإنسانية (2015-2016) في الدوحة خلال الفترة 12-14 آذار/ مارس 2016. وقد جرى توحيد موضوعَي المؤتمر مع موضوعَي الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية لتشجيع البحث العلمي؛ وهما موضوع "سؤال الحرية في الفكر العربي المعاصر"، وموضوع "المدينة العربية: تحديات التمدين في مجتمعات متحولة".
وقد شهد المؤتمر طوال ثلاثة أيام نقاشات مهمة في موضوعيه من خلال مناقشة مكانة الحرية في الفكر العربي وتجلياتها فيه. وكيف يُفكّر عربيًا في الحرية؟ في حين طرحت جلسات الموضوع الثاني عن المدينة العربية التحديات التي يواجهها التمدين في العالم العربي والتأثيرات المتبادلة بين العمران والبيئة الاجتماعية.
وقدّمت في جلسات المؤتمر 61 ورقةً بحثيةً ضمن الموضوعين المختارين، إضافة إلى ثلاث محاضرات رئيسة قدّمها كل من الدكتور عزمي بشارة والدكتور فهمي جدعان والدكتور عبد الرحمن رشيق.
في محاضرة تأسيسية في موضوع الحرية وبعنوان "أسئلة الحرية: هنا ... الآن"، أكّد المفكر والكاتب فهمي جدعان أنّ "الحرية" وأسئلتها لا تزال مثار نقاشٍ كبيرٍ على مختلف الصعد بين المفكرين والفلاسفة والسياسيين. وقدّم، من وجهة نظره، خمسة أسئلةٍ رئيسةٍ تستحثها "الحرية" اليوم في واقعنا العربي. ونبّه في البداية إلى أنه يتجاوز الأسئلة التي يرى أنها خارج السياق الراهن في طرحها؛ ومنها مسألة الرق والعبودية مثلًا التي ترتبط بتاريخ الرق والنخاسة التي أصبحت محرمة في القوانين الحديثة جميعها، غير أنه استدرك بأنّ لهذه المسألة أوجهًا أخرى ليست "خارج السياق"؛ إذ يرى أنّ "الرق والاستعباد ما زال ماثلًا في مواطن عدة من العالم في العمالة الرخيصة التي لا تختلف عن الرق التقليدي إلا بدرجة، أو إلحاق المرأة بالرجل والحجر عليها، أو الاتجار بالأعضاء البشرية". وقال إنّ هناك رقًا "جماعيًا" لا يزال حيًا في طائفة النظم الاستبدادية الدينية أو الفاشية أو الاستعمارية التي تصادر حريات شعوب بأكملها، وليس أدل على ذلك من الحالة الفلسطينية.
صدرت أوراق منتقاة من أعمال المؤتمر في موضوع "سؤال الحرية " ضمن كتاب :
وبالعودة إلى أسئلة الحرية الرئيسة الراهنة "هنا ... الآن، في زمننا المباشر"، يرى جدعان أنّ أول الأسئلة إلحاحًا هو سؤال "الاستبداد"، ويرى أنّ استبداد الدولة الوطنية العربية إرثٌ تاريخيٌ ضاربٌ في الوقائع التاريخية، ووجد له مسوغات في الثقافة العربية – الإسلامية، وقد وصّفه الكواكبي في طبائع الاستبداد بداية بتحوّل الخلافة الإسلامية إلى "الملك العَضود" الذي وجد له لدى فقهاء السياسة الشرعية السند الديني بإلزامية الطاعة وتحريم الخروج على الحاكم، واستمر ذلك طوال قرون الخلافة إلى منتهاها على يد العثمانيين، وبعد ذلك نشأت الدولة الوطنية العربية مستندة إلى استبداد بمرجعية مدنية أو علمانية حديثة.
وفي مسألة مرتبطة بنشأة الاستبداد في الدولة العربية أيضًا، طرح فهمي جدعان سؤال "الحرية والعدالة"، وخلص من دون أي ترددٍ إلى رفض مقولة السلطان المستبد العادل التي قامت عليها فكرة السلطة والحكم في المجتمعات العربية منذ عهد الخلافة الإسلامية. وقال إنّ الحرية أسبق من العدل، وأنه لا وجود لطاغية عادل لأنّ العدل لا يحتمل أن يجتمع مع نقيضه "الاستبداد"، فالاستبداد ينقض الحرية، والحرية حق طبيعي أساسي لا يمكن لمبدأ العدل أن ينكره.
وانتقل المحاضر بعدها إلى طرح سؤال "الحرية الدينية"، مناقشًا التراث الفقهي والفكري الإسلامي، وكيف تطور في مسألة حرية الاعتقاد التي جاءت صريحة في العديد من آيات القرآن الكريم، إلا أنّ الإجماع الفقهي أثبت حكم القتل للمرتد، قبل أن يأتي كثيرٌ من المفكرين المسلمين المعاصرين لنقض هذا الحكم.
ورأى جدعان أنّ السؤال الرابع الراهن في حقل الحرية يتعلق بحرية التعبير؛ وهو المجال الذي يشهد أبرز مظاهر الاستبداد والتضييق، من ملاحقة حق التعبير والرأي، والخوف من الحرية بالتضييق عليها أو قهرها أو ممارسة العنف في حقها، بدواعي الدفاع عن النظام السياسي أو المقدس الديني أو النسق الاجتماعي. ويستدرك المحاضر أنّ حرية التعبير يجب ألا تكون حقًا مطلقًا جذريًا، فكما لا يمكن تسويغ الإرهاب السياسي أو الديني الذي يلحق بحرية التعبير، فلا يمكن أبدًا القبول بالإساءات المادية والمعنوية والنفسية بمشاعر الآخرين ومعتقداتهم.
وكان آخر سؤال طرحه الدكتور فهمي جدعان في محاضرته عن أسئلة الحرية الراهنة في السياق العربي هو سؤال "الحرية والتعددية والاعتراف"، وهو في جانب منه سؤال حرية الهويات التي تتفجّر وتطالب بحقوقها. وأكد ضرورة أن تراعي الدول العربية حقوق الأقليات التي تعيش فيها.
وشهد المؤتمر في يومه الأول أربع جلسات في كل واحدٍ من موضوعاته الرئيسة؛ ففي موضوع "سؤال الحرية في الفكر العربي المعاصر" قدّم المشاركون في الجلستين الأوليين عروضًا تحليلية ونقدية عن الحرية في الإنتاج الفكري والفلسفي العربي المعاصر. ونوقشت من خلالها أفكار حسن حنفي وراشد الغنوشي والمنصف المرزوقي وطروحاتهم، مثلما جرى تناول مفهوم الحرية في الفكر الفلسفي العربي عمومًا. وتناولت الجلسة الثالثة في هذا الموضوع مفهوم الليبرالية والنزعة الليبرالية في المقاربات الفكرية العربية الحديثة للحرية. وخصصت الجلسة الرابعة لمناقشة البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية العربية وتأثيرها في الحرية، وتناولت إحدى أوراق هذه الجلسة حرية المرأة في المغرب في ضوء الجدل بين المرجعية الإسلامية والمواثيق الدولية.
أما في الموضوع الثاني للمؤتمر الخاص بـ"المدينة العربية: تحديات التمدين في مجتمعات متحولة"، فقد ركزت أوراق الباحثين في الجلسة الأولى على مناقشة إشكاليات التمدين والاندماج والاغتراب، وذهبت أغلبية الأوراق في اتجاه ينتقد السلبيات العديدة لمسار التمدين في الدول العربية والآثار الاجتماعية والثقافية لهذه السيرورة المشوّهة. وناقشت الأوراق المقدمة في الجلستين الثانية والثالثة في موضوع المدينة العربية قيمة الجوار في المدينة العربية المعاصرة وكيف تأثرت بنمط العمران والتمدين الذي تأسست عليه مدن جديدة. وقدّم باحثٌ موريتاني تحليلًا لوضع مدينة نواكشوط التي تعد ثاني أكبر المدن الأفريقية من دون أن تستجيب في تكوينها وتوسعها لأي من معايير التمدين الحديثة. وقدّم باحث مغربي ورقةً عن أشكال الإقصاء والتهميش في مدينة فاس المغربية، وحللت ورقة أخرى أزمة التحضر في المدينة العربية من خلال مقاربة سوسيو-مجالية في علاقة العشوائيات الحضرية بالهجرات القبلية. وعرض الباحث المصري هاني خميس نمطًا آخر من المدن في المشهد العربي وهو ما سماه "المدن المسيّجة" للفئات الغنية والقسم الأعلى للطبقة الوسطى؛ وهي المدن التي تتعدى منطق النمو الحضري إلى منطق "المكانة الاجتماعية". وأخذت الجلسة الرابعة في موضوع "المدينة العربية" طابعًا تقنيًا؛ إذ طرحت أوراق الباحثين المشاركين فيها حوكمة المدن والمخططات التنظيمية للمدن العربية.
أخذت المناقشة الفلسفية لـ "الحرية" الحيّز الأكبر في محاضرة الدكتور عزمي بشارة، وأشار منذ البداية إلى أنه يذهب في اتجاه القائلين بأنّ "الحرية" ليست معطى طبيعيًا، وأنّ الإنسان لا يولد حرًا فكريًا وجسديًا وإراديًا. وعندما يقول بعضهم إنّ الإنسان يولد حرًا، فإنما يقصدون أنّه لم يولد عبدًا. ولخّص قوله في أنّ الإنسان لا يولد حرًا وأنّ الحرية لا تشترى جاهزة ولا تورّث، وأنها تقوم على العقل والإرادة.
وطاف المحاضر في أرجاء الفكر الغربي الكلاسيكي والليبرالي والحداثي، وكذلك في الفكر النهضوي العربي والمعاصر، وقبلها في الفلسفة الإغريقية اليونانية، لفحص الجوانب المختلفة لمقولة الحرية، وانتهى إلى التأكيد أنّ الحرية ليست أنطولوجية ولا كوزمولوجية؛ فهي في الوعي والممارسة الإنسانية وليست في الكون. وخلص من النقاش إلى أنّ "الحرية" في نطاق العلوم الاجتماعية والإنسانية مصطلحٌ وليست مفهومًا؛ لأنّ المفترض في المفهوم هو أنّ يقدّم للباحث في هذه العلوم أداةً تحليليةً لفهم الظواهر، وهو ما لا يوفّره مصطلح "الحرية"، على الرغم من الإشكاليات التي تثيرها مناقشة "الحرية" كمصطلح. ولخّص بشارة ذلك بالقول: "الحرية بحد ذاتها ... قيمة، وليست مفهومًا، ويصعب تطويرها كمفهوم".
وأوضح المحاضر أنّ المناقشة الفلسفية لـ "الحرية" ليست جوهر ما يجب التركيز عليه، وأنّ مهمة الفكر العربي والباحثين العرب هي في تشخيص المسائل ذات الصلة بمسألة الحرية والحريات في الواقع العربي المعاصر. وقال: "يكمن التحدي الحقيقي في قدرتنا على مغادرة النقاش الفلسفي حول الحرية والانطلاق إلى مسائل الحريات وشروط تحقيقها في واقع المجتمعات والدول العربية".
والمسألة واضحة في نظر الدكتور عزمي بشارة بأنّ قيام بعضهم بتحميل عدم مثابرة مفكري النهضة مسؤولية مأزق الحريات في أقطار الوطن العربي، ينطلق من طرحٍ مقلوبٍ يتجنّب مناقشة الأنظمة السياسية الاستبدادية نفسها. ولكنه يؤكد أيضًا أنّ التحرّر من الطغيان من دون تأسيسٍ للحريات ونظامٍ يحمي هذه الحريات، قد ينشئ طغيانًا جديدًا، أو فوضى مؤقتة تقود إلى طغيان. ويرى أنّ الديمقراطية هي النظام الذي يمكن أن ينظّم الحريات ويضمنها في الوقت ذاته.
وخصص المفكر الدكتور عزمي بشارة القسم الأخير من محاضرته إلى استعراض أبرز الأسئلة العملية التي تنتج من النقاش الفلسفي والفكري الذي قدّمه حول "الحرية"، ومن تحديات الحرية والحريات في الواقع العربي الراهن.
ويتعلق أول سؤالٍ بفكرة أنّ "الحرية" تقوم على الوعي والإرادة، وعند تنزيل هذا المبدأ على الحريات السياسية في الواقع العربي اليوم، يجري التساؤل إن كان الوعي شرطًا للقدرة على ممارسة هذه الحريات أم أنّ ممارستها تؤسس للوعي، ويظهر في هذه الحال دور العامل الخارجي في بناء وعي الفرد بحرياته السياسية. وقال في إجابته عن هذا السؤال: "إنّ التثقيف على ممارسة الحريات بمسؤولية لا يختزل في إتاحة الدولة للأفراد المجال لممارستها ... لا بد أنّ تنضم المؤسسات الاجتماعية والسياسية كافة – بما فيها الأحزاب – للاضطلاع بهذه المهمة، فهي تساهم في تنشئة المواطن وتعويده على ممارسة الحريات وتحمل مسؤولياتها". وفي هذا الإطار، يرى أنه من المهم في المراحل الأولى لبناء الديمقراطية مراعاة مدى التزام النخب المدنية والسياسية بالحريات، وقدرتها على التثقيف فيها، بما في ذلك تقديم النموذج عنها.
ولعل أبرز الأسئلة الراهنة التي طرحها المحاضر في واقع الحريات الراهن في العالم العربي سؤال: "إذا وقعت المفاضلة بين الاستقرار والحفاظ على الحياة من جهة والحرية من جهة أخرى، فأيهما نختار؟". ويوضح أنّ هذا السؤال وهميٌ، فمن يعارض الحريات المدنية والسياسية لا يقول إنه يؤيد الظلم والاستبداد، إنما يحاول أن يقابل الحرية بقيمة أخرى هي مثلًا "الوطنية" موجهًا التهمة للحريات المدنية والسياسية بأنها مؤامرة خارجية. وتطرح المفاضلة بين قيمة الحرية وقيمة الحياة حين يصبح مطلب الحريات مكلفًا إلى درجة الحرب الأهلية والفوضى. ويشدّد الدكتور عزمي هنا على أنّ هذه المفاضلة غير حقيقية، فللظلم ثمن باهظ جدًا على مستوى الحياة نفسها على المدى البعيد. ويرى أنّ الأمر يتوقف في النهاية على "واقعية" تحقيق مطلب الحريات، ففي حال كان ذلك ممكنًا وواقعيًا يكون الناس مستعدين لتقديم التضحيات من أجل ذلك، ويكون السؤال المتعلق بالاستعداد للتضحية من أجل الحرية سؤالًا فرديًا يقرر الإنسان فيه لنفسه. ومن هنا تبرز أهمية المسؤولية الملقاة على عاتق أي فاعلٍ اجتماعي يسعى إلى التغيير، في التأكد من توافر برنامج لنظام بديل من الاستبداد يضمن الحريات، ومن واقعية هذا البرنامج. وفي النهاية، يؤكد بشارة أنّ ممارسة الحرية قد تؤدي إلى أخطاء وربما كوارث، ولكننا من أجل تصحيح المشاكل الناجمة عن استخدام الحرية سوف نحتاج إلى حرية.
وطرح المحاضر أيضًا سؤالًا عن العلاقة بين الحريات الشخصية والحريات المدنية والسياسية، وهل يمكن قبول نظامٍ مستبدٍ يسلب الحريات المدنية والسياسية في مقابل ضمان الحريات الشخصية؟ ويؤكد في ردّه على هذا السؤال أنّه لا تصح المساومة بالتنازل عن الحريات المدنية والسياسية في مقابل حماية نظام الاستبداد للحريات الشخصية، وبالمثل لا يصح أيضًا تدّخل أي نظامٍ في كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس اليومية ويدّعي أنه يحمي الحريات المدنية والسياسية لأنّ رغبته في التدخل في الحريات الشخصية ستجعله عاجلًا أم آجلًا يقمع الحريات المدنية والسياسية.
وفي إجابته عن السؤال الأخير الذي طرحه في الحرية في السياق العربي، ومفاده: ما العلاقة بين حرية الفرد وحرية الجماعة التي ينتمي إليها؟ يؤكد بشارة أنّ هناك حالةً واحدةً حين تكون الجماعة الواقعة تحت الاحتلال أو التي تعرّضت لسياسة ميزٍ عنصري كجماعة، يصبح فيها تحرر الجماعة شرطًا لتحرّر الفرد، وإن كان ذلك بحد ذاته شرطًا غير كافٍ. أما إذا طرح السؤال في الاتجاه الآخر؛ أي في حالة نظامٍ ديمقراطي يوفّر الحريات الفردية؛ هل يتبقى مكان لـ "حريات" خاصة بالجماعة؟ خصوصًا في البلدان التي تتعدّد فيها الجماعات الطائفية والقومية والإثنية. ويوضح المحاضر بعد نقاشٍ مستفيضٍ لهذه المسألة أنّ المبدأ الأساسي الذي يصنع الفرق كله في الحالة الديمقراطية على الأقل، يكمن في قبول فكرة حقوق الجماعة وحرياتها داخل الدولة بتأسيسها على حقوق الفرد "المواطن". فالأولوية في النظام الديمقراطي هي لحريات الفرد ومنها تشتق حريات الجماعة.
تواصلت في اليوم الثاني من المؤتمر الجلسات الأكاديمية التي قدّم فيها باحثون من مختلف البلدان العربية بحوثًا مميزة في موضوعي المؤتمر؛ ففي موضوع "المدينة العربية: تحديات التمدين في مجتمعات متحولة"، شملت الجلسات الأربع لليوم الثاني معالجة عدة أوجه للمدينة العربية، بداية بمحاولة الكشف عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي أحدثتها التطورات التي شهدتها المدينة العربية. ومن خلال دراسات حالة، قدم الباحثون في هذه الجلسة صورة عن تحولات المدينة العربية، فقدم الباحثان كلثم علي الغانم وعبد الله بادحدح تقييمًا للأثر الاجتماعي للتنمية العمرانية المكثفة في قطر عبر دراسة مقارنة للقيم الاجتماعية وقيم الجوار بين سكان المباني العالية (أو الأبراج كما تسمى) والمباني المنخفضة. وكشف الباحث خليفة عبد القادر أنماط إعادة تشكيل البنيات الاجتماعية في مدن الصحراء الجزائرية. وفي مقاربة عكسية، قرأ الباحث عبد العزيز حسن البصير أثر التحولات الاجتماعية والاقتصادية في البناء الاجتماعي للمدن السودانية.
وفي جلسة بعنوان "التغيرات المرفولوجية في المدينة المعاصرة" لفتت الانتباه دراسة للباحثة هتون أجواد الفاسي عن "تحديات الحفاظ على هوية الحرمين المقدّسين" أبرزت فيها كيف أدت التوسعات المختلفة والتطوير إلى طمس كثير من معالم مكة المكرمة. وناقشت الجلستان الأخيرتان في اليوم الثاني للمؤتمر في موضوع "المدينة العربية" أيضًا تأثيرات الهجرة الداخلية وطرحت الإشكالية المتجددة لترييف المدينة ومدننة الريف، وجرى توصيف تحديات التمدن والتحديث في المدينة العربية.
أما في الموضوع الثاني للمؤتمر، والخاص بالحرية في الفكر العربي المعاصر؛ فقد أفردت أولى جلسات اليوم الثاني لمناقشة الحرية الدينية وحرية المعتقد، وأعادت ورقة الباحث معتز الخطيب مناقشة حدّ قتل المرتد كمدخلٍ لإعادة التفكير في الاجتهاد الفقهي. وخصصت الجلسة الثانية للحرية ضمن سؤال الحداثة والنهضة. وناقشت الجلسة الثالثة "الحرية" ضمن المشروعية السياسية والتحرر الوطني، فيما خصصت الجلسة الأخيرة من اليوم الثاني لمناقشة المظاهر الحديثة للمساس بالحرية والمرتبطة بوسائط الاتصال التكنولوجية عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
قدّم الدكتور عبد الرحمن رشيق، الباحث المتخصص في المدينة والسياسة العمرانية والحركات الاجتماعية، محاضرةً في بداية أعمال اليوم الثالث والأخير للمؤتمر. فقد تعرّض الباحث بالتحليل للسياسة العمرانية، ونوعية العلاقات الاجتماعية في أحياء المدن المغربية الكبرى في إطار صيرورة التمدن الكثيف. وقال إنّ التحولات العمرانية فرضت مجتمعًا وثقافةً وقيمًا وأنماطًا سلوكيةً جديدة. والسمة الأساسية المميزة لهذه العلاقات الاجتماعية المتبادلة هي الفردانية؛ وهي سمة ملازمة للنظام الرأسمالي الجديد، وهي أيضًا نتيجة للشكل الإيكولوجي للتكتلات البشرية الكبيرة في المجال المحدود لمدينة كبرى "متروبول"، أو لمدينة عملاقة "ميجابول". وأوضح أنّ بحوثًا عديدةً كشفت سعي الفرد للمحافظة على استقلاليته وفردانيته ضد فضول المجتمع وهيمنته وضغطه، خصوصًا في علاقات الجوار. وخلص الباحث إلى أنّ هذا المسار يؤدي إلى بناء ما يمكن تسميته "جزرًا اجتماعية". كما يترتب عن صيرورة الفردانية إنتاج نسيج عمراني متجزئ ومنغلق على نفسه.
وعاد عبد الرحمن رشيق إلى منشأ التمدين في الحالة المغربية والذي ارتبط بسياسة الاستعمار الفرنسي في بداية القرن العشرين في فرض نظام اقتصادي جديد ليبرالي، وأنشأ مسار تمدن كثيف وسريع قاد إلى هجرات من الريف المغربي نحو المدن الجديدة. وقد أنشأ المستعمر حواجز مجالية في هذه المدن بين السكان المغاربة والسكان الأوروبيين. وتلا الفصل بين الفئتين السكانيتين بحسب العرق فصلٌ آخر بحسب الفوارق الاجتماعية الاقتصادية، وحظي المغاربة من الطبقة البرجوازية بأحياء خاصة ركزت تصاميمها على نمط انغلاقي لكل بيت ولكل أسرة وخططت الفضاءات المشتركة على نحو ضيق، مثلما كان خيار الأزقة الضيقة بديلًا من الطرق الواسعة، وكذا إخراج مساحات الترفيه من الفضاء العمراني، وأدى ذلك إلى التقليل من فرص التفاعل الاجتماعي و"المؤانسة". وقد قام هذا النموذج العمراني بإعادة إنتاج الحي المنطوي على نفسه، فكل جدران المنازل "عمياء" من دون نوافذ، بحيث توجد نوافذ في الواجهات المطلة على الشوارع الرئيسة فحسب.
وفي ظلّ دولة الاستقلال، لم تتحسّن السياسة العمرانية نحو إنشاء نمط عمران ومدن تعزز التفاعل الاجتماعي، واهتمت السياسات العمرانية أساسًا ببناء أكبر قدر من الوحدات السكنية لاحتواء فئات هشّة ومهمّشة نظرت السلطة السياسية إليها بوصفها خطرًا على الوضع العام. ويصف المحاضر عمليات التعمير والتمدين المكثف بعملية "العمران الاستعجالي".
ويضيف رشيق أنّ السياق السياسي السلطوي أدى إلى استبعاد إشراك مختلف الفاعلين المتخصصين في إعداد برامج التعمير، وحتى أصحاب ملكية الشقق السكنية التي قررت سياسات السلطة هدمها للتخفيف من كثافة الأحياء الخطيرة، لم يستطيعوا تنظيم احتجاج جماعي، وهو ما يكشف أنّ علاقات القرب المكاني (الجوار) ليس لها أي تأثير في تنظيم الاحتجاج الاجتماعي.
وخلص المحاضر إلى أنّ المدينة المغربية تشهد انغلاق الفرد على ذاته ومحيطه الأسري الضيق وتقلص جسور التلاقي الاجتماعي. وعلى الرغم من الانفتاح السياسي ودينامية المجتمع المدني ووجود نقاش عام حول المواضيع المجتمعية، وتعدد الحركات الاحتجاجية في الفضاء العام، والذي تغذيه وسائل الإعلام، فإنّ صيرورة الانكماش على الذات هي الغالبة. ويعدّ الشكل الإيكولوجي الجديد للتكتلات الحضرية العامل الأساسي في هشاشة العلاقات الاجتماعية وانطواء سكان المدينة على ذواتهم.
وقد ضم برنامج اليوم الأخير من المؤتمر جلستين في كل واحدٍ من موضوعي "الحرية" و"المدينة العربية"، فخصصت جلستا الموضوع الأول لمناقشة الحرية والتنمية والرّفاه والعدالة الاجتماعية، فيما كان عنوان الجلسة الثانية "أزمة فكر الحرية في البلاد العربية". وركزت الجلسة الأولى في الموضوع الثاني على التحوّلات العمرانية في المدينة العربية، وقدمت أوراق الباحثين المشاركين في الجلسة الثانية من هذا الموضوع رؤية عن المدينة الافتراضية والحياة الرقمية فيها، وكيف يمكن أن يكون رأس المال المعرفي أساسًا للمدن الإبداعية.
مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية