عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدورة الرابعة لمؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية، وينظمه في مدينة مراكش المغربية في الفترة 19-21 آذار/ مارس 2015 بمشاركة نخبة من الباحثين والأساتذة الجامعيين، وتمحورت أوراقه البحثية حول موضوعين: أولهما يتعلق بأدوار المثقفين في التحولات التاريخية، والثاني بالجامعات والبحث العلمي في الوطن العربي.

ثورة واحدة ومثقفان

صدرت أوراق منتقاة من أعمال المؤتمر في موضوع "أدوار المثقفين في التحولات التاريخية" ضمن كتاب :

غلاف كتاب دور المثقف في التحولات التاريخية

دور المثقف في التحولات التاريخية

شملت جلسة افتتاح المؤتمر محاضرتين تأسيسيتين في موضوعي المؤتمر؛ إذ ألقى الدكتور عزمي بشارة، المدير العامّ للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، محاضرةً في الموضوع الأول حول "أدوار المثقفين في التحوّلات التاريخية"، بينما حاضر الدكتور حفيظ بوطالب الجوطي، رئيس جامعة محمد الخامس في الرباط سابقاً، في الموضوع الثاني عن "الجامعات والبحث العلمي في العالم العربي".

وقد ميّز المفكر العربي، الدكتور عزمي بشارة، بين نمطين سلوكيين للمثقف العربي تجاه الوضع العربي الراهن، إذ تحولت انتفاضات التغيير والثورات من أجل الحرية إلى حروب أهلية في الدول الهشَّة إما بسبب جماعاتها الأهلية القوية أو تسرب قوى متطرفة إليها، فاختار النمط الأول من المثقفين الدفاع عن الوضع القائم، بينما اختار الثاني الوقوف مع الثورة في وجه الاستبداد.

وأوضح الدكتور بشارة أنّ المثقف الذي اختار الدفاع عن الوضع القائم، فعل ذلك انطلاقًا من اقتناع مفاده أنّ الحروب الأهلية التي تغرق فيها بعض الدول العربية التي شهدت محاولة للتغيير، يتحمل مسؤوليتها أولئك الذين قاموا "بمحاولة غير واضحة لتغيير الوضع القائم". ويرى أنّ هذا النمط من المثقفين لا يلتفت إلى "سبب هشاشة الدولة، ولا يحلّل مسؤولية خيار النظام القمعي عن تحول الثورات إلى عنف"، وهو الأمر الذي يمكن "التوصل إليه بالتحليل العقلاني حتى قبل الإدانة الأخلاقية".

وأضاف أنّ المثقف الذي ينحاز إلى هذا الموقف "إنما ينسحب من دوره الترشيدي العقلاني"، بل إنّ الأخطر من ذلك "غياب التضامن مع تطلع الشعوب لإنهاء حالة الظلم، وتجنب إدانة النظام الحاكم بوصفه المسؤول عن حالة الظلم والفساد"، وبوصفه، أي النظام الحاكم، "مسؤولًا عن تبعات الخيار الأمني القمعي". إنّ هؤلاء المثقفين "يتهربون من مسؤولية الموقف، بتوجيه الاتهام إلى من تطلعوا إلى التغيير".

أما النوع الثاني من المثقفين فيشمل أولئك الذين "وقفوا مع الثورة ضد الاستبداد والفساد"، بل "تماهوا مع عدالة قضيتها"، ويرون تبعًا لذلك أنّ "الأنظمة التي تسدّ أفق التغيير وتلجأ للعنف" مسؤولة عن "تدهور الثورة"، وتحولها في عددٍ من الدول التي تتسم بالهشاشة إلى "منزلقات الفوضى والعنف والتطرف". ونبه الدكتور بشارة إلى أنّ مثقف الثورة هذا هو نفسه يتبنى مواقف ناقصة؛ إذ إنه في الوقت الذي "يكتفي بشرح الأسباب الموضوعية للفوضى والتطرف،"، فهو "لا يرى أنّ الأفراد الأحرار الذين ثاروا على النظام مسؤولون أيضًا عن أفعالهم وعن أخطائهم كذلك". ومن هنا، فإنّ المثقف المدافع عن الثورة قد يتحول "إلى تبرير تلك الأخطاء"، بدل الإسهام في "تفسيرها".

تكمن الخطورة التي يمكن أن يسقط فيها المثقف في أنّ المواقف النقدية التي يتبناها أو يتخذها تكون "نتيجة لمشاركته الواعية أو غير الواعية في عصبيات من أنواع مختلفة". ويرى الدكتور عزمي بشارة أنّ قدرة المثقف على "اتخاذ مسافة نقدية من العصبيات القائمة" في أي مجتمع، تُعدّ من أهم الشروط للقيام بدوره النقدي، العقلاني والأخلاقي معًا.

ويشير بوضوح إلى الحروب الأهلية التي بدأت تجتاح بعض الدول العربية التي عرفت محاولات ثورية، ثم تدهور الوضع فيها إلى الأسوأ، بسبب عصبيات قبلية أو طائفية مذهبية، وحتى حزبية أيديولوجية. وقال الدكتور بشارة إنّ "العصبيات التي تعني انحيازًا مسبقًا، تتناقض مع أحكام العقل ومع أحكام الأخلاق في الوقت ذاته". وتلك المسافة النقدية تحدد "خصوصية وظيفة المثقف" وتميزه بدقة عن العالم الخبير من جهة، وعن الداعية السياسي أو الديني كذلك.

جامعات المستقبل

صدرت أوراق منتقاة من أعمال المؤتمر في موضوع "الجامعات والبحث العلمي" ضمن كتاب :

غلاف كتاب الجامعات والبحث العلمي في العالم العربي

الجامعات والبحث العلمي في العالم العربي

في المحور الثاني، أبرز الدكتور حفيظ بوطالب الجوطي الفارق الشاسع بين ما حققته الجامعات العالمية من تطور بفضل تكامل البحث العلمي فيها مع الابتكار فأضحت قائدة للاقتصاد العالمي، والجامعات العربية التي تعاني وضعية هشة وتعقيدات في التدبير. وقال إنّ الجامعات العالمية تطورت بشكل جعلها اليوم تمزج بين ثلاث وظائف كبرى، وهي: التكوين الجامعي (تلقين المعرفة والقيم والمهارات)، والبحث العلمي، ثم الابتكار. ولفت إلى أنّ الابتكار لا يعني الاختراعات التكنولوجية فحسب، بل أضحى يطلق أيضًا على كل الإبداعات الجديدة وغير المسبوقة في التنظيم والخدمات والتدبير والاجتماع. وبفضل وظيفة الابتكار تلك، أوضح أنّ الجامعات استطاعت أن تفرض نفسها على الاقتصاد، ومن نتائج ذلك أنّ الأموال التي تتلقاها الجامعات تأتي بالتساوي بين الدولة والقطاع الخاص. وتمول الدولة التعليم العالي، في حين يوجه القطاع الخاص تمويلاته للبحث العلمي وللابتكار.

ومن خلال استقراء أحسن الممارسات الدولية، خلص الدكتور الجوطي إلى أنّ ثمة خمسة شروط لنجاح الجامعات في أخذ مكانتها في التنمية، ويتعلق الأمر بالاستثمار الجيد في الموارد البشرية والمادية، وبناء علاقة جيدة مع المقاولة وقطاع الأعمال، وتسهيل حركة الباحثين وتنقلهم، وجودة البحث الأساسي، إضافة إلى مراكز الامتياز التي تجعل من البحث العلمي والابتكار أولوية إستراتيجية.

وقد حصل تطور لافت في السنوات الأخيرة بالنسبة إلى الجامعات العالمية الناجحة، تمثّل في تجمع أعداد منها في أقطاب كبرى؛ أي تحوّلها إلى تجمعات جامعية صناعية. وقال الجوطي إنّ ذلك حصل بفضل "تسارع اندماجها في الاقتصاد العالمي"، وإلى الثورة المعلوماتية تحديدًا. وهو تحوّل حصل أيضًا تحت الضغط الذي تمارسه الشركات المتعددة الجنسيات التي أصبح لها مراكزها البحثية الخاصة للابتكار، والتي تستطيع من خلالها رفع قدرتها التنافسية في السوق العالمي، إلا أنّه أوضح أنّ ميزة الجامعات، مقارنة بمراكز البحث التي تحدثها الشركات، هي أنها تضمن دومًا الحرية الأكاديمية.

أمام هذه التطورات الكبرى على المستوى العالمي، ذهب الدكتور الجوطي إلى أنّ الجامعات العربية لا يمكنها أن تظل محتفظة بدورها التقليدي فحسب، بل عليها "الانخراط في تأهيل الاقتصاد والتنمية ودعم تنافسية المقاولات"، ولكي تستطيع فعل ذلك، تحتاج الجامعات العربية إلى تبنّي مهمات جديدة مثل التكوين المستمر، والبحث التعاقدي، وتقديم الاستشارات والخبرات، وتطوير روح الابتكار والبحث وبنياتهما.

وميّز الدكتور الجوطي بين ثلاثة أصناف من الجامعات: صنفٌ ذو درجة عالمية يتميز بحرية اتخاذ القرار الجامعي، وبميزانيات ضخمة تعادل ميزانيات دول بكاملها، وتقدم تكوينًا رفيعًا له تأثيره القوي في المستوى الدولي. وصنفٌ ذو درجة جهوية يتمتع باستقلالية جزئية في اتخاذ القرار الجامعي، وبتمويل جيد، وتقدم تكوينات جيدة له كذلك، وهي جامعات الدول الصاعدة. أما الصنف الثالث، فيضم الجامعات التي لا تتمتع باستقلال القرار الجامعي، وتعاني ضعف التمويل، وبنية بحثية مشتتة، وعلاقة ضعيفة بالاقتصاد. وقال إنّ الجامعات العربية، لهذا السبب، صعبة التدبير، وتشكو ضعف الوسائل والإمكانيات. وأوضح أنها "توجد في وضعية هشة"، ونحن غير متأكدين من أنها تستطيع فرض نفسها على المستوى العالمي أو أن تنافس الجامعات من الدرجة الثانية فضلًا عن الجامعات من صنف الدرجة الأولى.