نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات المؤتمر السنوي الثالث للعلوم الاجتماعية والإنسانية في الفترة 20-22 آذار / مارس 2014 في تونس. ويتناول موضوعي "أطوار التاريخ الانتقالية، مآل الثورات العربيّة" و"السياسات التنموية وتحدّيات الثورة في الأقطار العربيّة". وقد ألقى في بداية حفل الافتتاح الدكتور طارق الكحلاوي مدير معهد الدراسات الإستراتيجية في رئاسة الجمهورية التونسية كلمة الرئيس التونسي السيد المنصف المرزوقي إلى المشاركين في المؤتمر، وقدم كل من الدكتور عزمي بشارة والدكتور إبراهيم العسوي محاضرتين في محوري المؤتمر.

مدخل نظري في التاريخ الانتقالي 

صدرت أوراق منتقاة من أعمال المؤتمر في الموضوع الأول ضمن كتاب :

غلاف كتاب أطوار التاريخ الانتقالي: مآل الثورات العربية

أطوار التاريخ الانتقالي:مآل الثورات العربية

قدّم الدكتور عزمي مدخلا نظريا للمحور الأول للمؤتمر (أطوار التاريخ الانتقالية، مآل الثورات العربيّة) بعنوان "نوعان من المراحل الانتقاليّة وما من نظرية". وأشار منذ البداية إلى أن الحديثُ عن نظريّة تاريخيّة خاصّة بالمراحل الانتقاليّة عمومًا أمر مستحيل، فما يُقال عن المراحل الانتقالية عمومًا يُمكنُ قوْلُه عن مراحل "غير انتقالية"، إذا صحّ التعبير. المسألةُ فقطْ أنّنا قُمْنا بتحديدها كمرحلة انتقالية من منظور التحقيب التاريخي الذي يتّفقُ عليه المؤرّخون في كلّ مدرسة فكريّة.

وبناء على عرض نقدي لمقاربات نظريات فكرية للمرحلة الانتقالية، أشار الدكتور عزمي إلى أن هناك اتفاقا على أن المرحلة الانتقالية هي مرحلةُ الأزمات الكبرى، وهي مرحلة تتّسمُ في التواريخ كافّةً ببروز حركة أفكار جديدة وانْطلاقها.

وفي السياق العربي، رأى عزمي أن الفكري القومي التبسيطي للقوميّة والوحدة نظر خلال فترة طويلة إلى مرحلة الدولة الوطنية برُمّتها كمرحلة انتقالية نحو الوحدة العربية. وقد استغلّتْ أنظمة عربية هذا الخطاب لترسيخ استبدادها بحُجّة أنّ موضوع طبيعة نظام الحُكم، ليس موضوعًا مهمًّا، فهو وسيلة لا غيْر لغاية أعظم. وجرى في الدولة العربية إطالةُ أمد مرحلة الانتقال إلى تأسيس الدولة وبناء المؤسّسات بطريقة مصطنعة ومقصودة، فلحق بالأمّة ضرر كبير. ونبه إلى أننا نعيشُ حالةً أخرى معاكسةً يجري فيها تقصيرُ المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية وتفويتُ فرصة تحقيق الإجماع على مبادئ الديمقراطية بصورة مُصطنعة.

وأكد الدكتور عزمي بشارة على أن مراحل الانتقال الفعلي لا يجب أن تكون ناجمة عن التحقيب، أو عن مقاربة معيّنة للتاريخ، بل ناتجة من تحديد الفاعلين التاريخيّين لهدف يريدون الوصول إليه، وعليهم أنْ يصمّموا واقعهم/حاضرهم لكي يصلُح أنْ يكون جسرًا إليه. وأوضح أننا نعيشُ في مرحلة ثورات وقلاقل سياسية ضدّ الأنظمة، ولدينا فاعلون حدّدوا الديمقراطيّة كهدف، وعليهم أنْ يحدّدوا ما هي طبيعةُ المرحلة الانتقاليّة نحو الديمقراطيّة.

وشدد في هذا السياق على أنه "لا توجدُ هنا قراءة في قوانين موضوعية تقودُ إلى الديمقراطية كحتمية تاريخية، بلْ في الخطوات الصحيحة التي ينبغي اتّخاذُها للوصول إلى هذا الهدف انْطلاقًا منْ وضْع قائم. ولدينا أكاديميون نأْملُ أنّهم يتناقشون فيما بينهم، ويُناقشون الفاعلين التاريخيّين في هذا الموضوع منْ منطلق قراءة تجارب أخرى جرتْ في العالم في أوضاع متباينة، وتعمّمتْ منها بعضُ الاستقراءات حول المساومة وصُنْع القرار في سلوك النُّخبة السياسية وتفضيلها تقاسُم السلطة وتبادُلها على خسارتها كاملة، أو على الفوْضى والحرب الأهليّة وفقدان البلد كُلّه، أو على الجمود الاقتصادي الناجم".

فلا معنى لعبارة مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية إلّا بوجود فاعلين متّفقين على هدف بناء الديمقراطية، وفعْل تاريخي ثوري وإصلاحي يقودُ إليها. والديمقراطيّةُ المقصودةُ هي التي يمكنُ تحديدُ سماتها العامّة باستقراء التجارب الديمقراطيّة القائمة في العالم وتطوُّرها التاريخي، وبما أصبح يُعّدُّ مبادئ مشتركةً للديمقراطيّة؛ مثل تداول الحُكم دوريًّا بطريقة سلميّة وبعمليّة انتخابية دوريّة سواءً كانتْ برلمانيةً أوْ رئاسيّةً أوْ كليْهما، والفصل بين السّلُطات، واستقلال القضاء، ومجموع الحرّيات اللازم وجودُها لكيْ تكون مثلُ هذه العملية ذات معنى؛ وأهمُّها حريّةُ التعبير عن الرأي، وحريّةُ الاتّحاد، وحريّةُ الاجتماع، ومجموعُ القوانين والضمانات التي تمنعُ تعسُّف الدّولة، ومعنى أنّ المواطنة المتساوية هي العلاقةُ بين الفرد والدولة ومضمونُ هذه المواطنة.

إنّ سمة مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية هي تحييدُ القوى الأمنيّة التي كانتْ أداة القمْع الرئيسة وإحداثُ التغيير التدريجيّ فيها، وتمكينُ المؤسّسات الديمقراطية، ولا سيّما المنتخبةُ منها، والتغلّبُ على معارضة جهاز الدولة البيروقراطي الكبير أيّ تغيير. وهذا يتطلّبُ وحدة القوى الديمقراطية حول هذا الهدف والاستظلال بشرعيّة الثورة

وعاد ليؤكد أن عدم فهْم معنى الحركة الانتقالية إلى الديمقراطية ومتطلّباتها، هو من أهمّ عوامل تعثُّرها. مشيرا إلى أن سوءُ فهْم المرحلة الانتقاليّة اتّخذ أحيانًا شكْل صراع بين علمانيّ ودينيّ بدل أنْ يتّخذ شكْل صراع بين ديمقراطي وغير ديمقراطي؛

ونبّه إلى أن الحديث هو عن عمليات تحوُّل ثوريّ تنْقُلُ النظام السياسيّ، وليس المجتمع، منْ نظام سياسيّ استبداديّ، إلى نظام سياسيّ ديمقراطيّ. ولكنّ المجتمع وثقافته لا يتغيّران بين ليلة وضُحاها، ولذلك تجدُ عملية التحوُّل الديمقراطي في مواجهة أعراف وتقاليد وثقافة ترسّختْ في عهد الاستبداد. ويُخْطئُ من يعتقدُ أنّ الفساد المديد يظلُّ مسألةً فوقيّةً، وأنّه لا يمسُّ ثقافة المجتمع بأكمله.

وختم الدكتور عزمي بشارة محاضرته بالتأكيد أنه يُخْطئُ من يبحثُ عن طريق مُمهّد نحو الديمقراطية "ويجبُ أنْ نشُقّ طريقنا بأنفسنا".

محاضرة عن السياسات التنموية

صدرت أوراق منتقاة من أعمال المؤتمر في الموضوع الثاني ضمن كتاب :

غلاف كتاب السياسات التنموية وتحديات الثورة في الأقطار العربية

السياسات التنموية وتحديات الثورة في الأقطار العربية

وقد ألقى الدكتور إبراهيم العسوي أستاذ الاقتصاد في معهد التخطيط القومي بالقاهرة محاضرة بعنوان "سياسات التنمية المستقلة والثورات العربية" وقال فيها إن التنمية عمل ثوري بالضرورة، وليست مجرد إصلاح اقتصادي قد تكون له - أو لا تكون- بعض الآثار الاجتماعية الطيبة. ذلك أن التنمية لا تكون تنمية حقاً إلا إذا انطوت على تغيير جذري في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمؤسسية. وهذا هو أيضاً معني الثورة.

وقدم نقدًا لسياسات الرأسمالية التابعة أو الليبرالية الجديدة التي تجسدت فيما يسمى "توافق واشنطون"، وهي النهج الذي اتبعته الأنظمة العربية وتسبب في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الضخمة التي كانت أحد مسببات الثورات العربية التي طالبت بالعيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية.

وأوضح العيسوي أن الليبرالية الاقتصادية الجديدة وبرامج توافق واشنطن تعرضت لانتقادات شتى خلال العقود الثلاثة الماضية، وهو ما جعل بعض الكتاب والسياسيين يرون أن توافق واشنطن قد مات إلا أنه في الحقيقة مات فقط على مستوي الخطاب ولم يحدث أي تراجع يذكر على الأرض عن السياسات التي اتبعت على أساس هذا التوافق في العقدين الماضيين.

وأشار إلى أن أبرز الانتقادات التي وجّهت لسياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة كونها تقوم على أيديولوجيا منحازة للمشروع الخاص واقتصاد السوق الحر أكثر مما تقوم على نظريات علمية رصينة، وأن توافق واشنطن لم يصمم أصلاً من منظور مصالح الدول النامية، بل ارتبط بمصالح الدول المتقدمة وبخدمة أهداف شركاتها الكبرى.

ورأى الدكتور العيسوي أن لا تنميةً حقيقية إذا لم تتوافر فيها صفات أربع، وهي: الشمول والاستقلالية والاستدامة والعدالة الاجتماعية، لتعمل على تحرير للبشر وتمكينه، وتحرير الوطن الذي ينتسبون إليه وتمكينه أيضا.

وأكد أن للتنمية المستقلة خمس ركائز رئيسية، هي : (1) الدولة التنموية والتخطيط القومي الشامل- (2) حشد أكبر قدر من المدخرات المحلية لتمويل معدل مرتفع للتراكم الرأسمالي والعناية بتراكم رأس المال البشري- (3) المشاركة الديمقراطية والتوزيع العادل للثروة- (4) انضباط علاقات الاقتصاد الوطني بالخارج- (5) التعاون فيما بين دول الجنوب.

وبتطرقه لنموذج سياسات التنمية في مصر ما بعد ثورة يناير 2011، قال المحاضر إن انقلاب 3 يوليو 2013 أعاد الوضع إلى الوراء لأنه "لا شك عندي في أنه لا مجال لتحقيق أهداف ثورة يناير في إطار التحالف الثلاثي الحالي بين القيادات العسكرية والأمنية وبين قيادات "البيزنس" التي تنزعج انزعاجاً شديداً من أي حديث عن تنشيط الدور الاقتصادي والتنموي للدولة لاعتقادهم أن ذلك سيكون خصماً من دورهم، والتي تتوجس كثيراً من طرح أي مفهوم موسع للعدالة الاجتماعية خشية المساس بثرواتها، والتي ترفض دعوات الاستقلال الاقتصادي والسياسي للبلاد خوفاً من الإضرار بعلاقاتها مع قوى الرأسمالية العالمية التي تدور في فلكها. وكما أوضحت فيما سبق، فليس هناك من طريق لتحقيق أهداف ثورة يناير سوي طريق التنمية المستقلة. ولكن الأمل في ولوج هذا الطريق ما زال بعيداً، ولن تقترب مصر من تحقيقه إلا من خلال إحياء حقيقي لثورة يناير أو من خلال ثورة جديدة تستند إلى تحالف سياسي للطبقات الشعبية صاحبة المصلحة في تطبيق سياسات التنمية المستقلة".