العنوان هنا
تقدير موقف 29 ديسمبر ، 2011

العراق بعد الانسحاب العسكريّ الأميركيّ

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

كان يُفترض أن يشكّل انسحاب القوّات الأميركيّة من العراق فرصةً للتّصالح بين النّخب العراقيّة؛ وإعادة التّفكير والتّشاور والمراجعة لبناء الديمقراطيّة على أساس قيم المواطنة؛ وليس على أساس الانتماء القبليّ أو المذهبيّ أو الطّائفيّ، وبدايةً لظهور خطاب جديد يطوي صفحة العنف الطائفيّ ويشجّع عودة المقصين والمنفيّين ويشرّك جميع الطّاقات الوطنيّة في بناء العراق الجديد؛ إلا أن ما يحدث هو عكس ذلك تماما.

فما إن غادر الجنود الأميركيّون البلد حتّى أثارت قضيّة إصدار مذكّرة اعتقال ضدّ نائب الرّئيس العراقيّ طارق الهاشمي قلق العراقيّين والمراقبين، وتساؤلاتهم عن نوايا رئيس الحكومة نوري المالكي. واتّهم رئيس الوزراء بتأزيم الوضع بشكل خطير ولا مبرّر له سوى البحث عن زيادة سلطاته بالتخلّص من المنافسين السياسيّين. فقبل بضعة أسابيعَ من الانسحاب العسكريّ الأميركيّ، جرى اعتقال 2200 مواطن عراقيّ بتهمة "التّآمر مع البعثيّين للإطاحة بنظام الحكم"، بينهم نسبة كبيرة من ضبّاط الجيش العراقيّ السّابق والشّباب. وقد كان الأمر من الشدّة بحيث استنكره عديد المراقبين ومن بينهم "نيويورك تايمز" التي كتبت في افتتاحيّتها يوم 21 كانون الأوّل / ديسمبر 2011، قائلة إنّ المالكي "يبدي اهتمامًا بالانتقام من الأقليّة السنيّة أكبر من اهتمامه بتشجيع عمليّة الادماج".

وعاد العنف الدمويّ والتّفجيرات إلى شوارع بغداد من أجواء الاحتقان الطائفيّ التي تفاقمت حدّتها بهذه الإجراءات. وظهر السيّد نوري المالكي على شاشات التلفزيون مهدّدًا بأنّه سيتخلّى عن مفهوم "الشّراكة" في الحكم، ويلجأ إلى "أغلبيّته" لتشكيل الحكومة إذا لم يستجب الأكراد لطلبه بتسليم السيّد طارق الهاشمي إلى بغداد ليواجه القضاء. وهو بهذا التّهديد إنّما يقوم في الواقع بتلغيم قاعدة الوفاق الهشّ الذي تأسّس عليه حكمه. فهل سيصبح مركّبٌ من حكم الفرد من جهة، و"الإقصاء" الطائفيّ من الجهة الأخرى، هو القاعدة الجديدة في نظامٍ يفترض أنّه "ديمقراطيّ" في وقت تعيش المنطقة العربيّة كلّها احتجاجات ضد الإقصاء والتّعسّف؟


إستراتيجيّة المالكي: يد حديديّة في قفّاز مخمليّ

سواء أحببنا أم كرهنا، فإنّ النّظام السّائد في العراق يجعل المحلّل يستعمل المصطلحات المرجعيّة نفسها المستقاة من تقسيم البلد حسب خطوط أثنيّة وطائفيّة. فحين نذكر مثلا النّموذج المصغّر من الحرب الأهليّة التي اجتاحت العراق سنة كاملة (بين 2006 و2007)، فلا مفرّ من الاستنتاج أنّه كرّس استمراريّة القيادة الشيعيّة للدّولة. وما حدث منذ ذلك الحين، أشبه بالهدنة التي استطاع رئيس الوزراء نوري المالكي أن يستغلّها لدعم سلطته وسطوته على أجهزة الأمن ومنها على المحافظات. ولعلّ نجاح المالكي الأساسيّ يكمن في إقناع مختلف المجموعات والفئات (السياسيّة والقبليّة والأثنيّة والدينيّة) بأنّ الفوائد التي ستحصدها من التّحالف مع حكومة بغداد (أيْ معه) هي أكبر ممّا يمكن أن تحصل عليه عن طريق الرّفض والمعارضة. لكنّه من ناحيةٍ أخرى أخفق في بلورة نموذجٍ من الحكم الديمقراطيّ والشفّاف إلى حدّ أنّ الاعتراض الأساسيّ على قيادته يتمثّل في أنّه عاد بالعراق إلى نموذج الزّعامة الفرديّة المتسلّطة الذي كان سائدًا قبل عام 2003. فمَن يغضب المالكي يتعرّض إلى شتّى أنواع الضّغوط التي تبدأ بالاضطهاد وتنتهي بالسّجن أو النّفي. ومَن أرضاه يضمن لنفسه مكانًا في هرم السّلطة وحماية من المنافسين والأعداء.

لقد قامت إستراتيجيّة المالكي إلى حدّ الآن على "اليد الحديديّة في قفّاز مخمليّ". إنّه مزيج من القوّة والمنافع الموعودة. وقد نجح إلى حدٍّ ما في استمالة القبائل وإبعاد المنافسين. ولكن شيئا فشيئا بدأت تظهر في عهد المالكي صورةٌ لدولة مركزيّة قوامها مجموعة من الاتّفاقات الظرفيّة مع القادة المحلّيّين حيث برز نظام زبونيّ مُرتهن بشبكة علاقات بين السّلطة المركزيّة والأشخاص المستفيدين فيما بقيت العلاقات المؤسّسيّة شكليّة.

بالطّبع ما يريده المالكي هو ما يريده كلّ حاكم: البقاء في السّلطة أطول مدّة ممكنة. ومن أجل ذلك، يبدو مستعدًّا للعب مختلف الأوراق التي لديه وحتّى المراهنة على ما ليس لديه: فهو لا يملك حزب الدّعوة ولا كتلة "دولة القانون"، وإنّما يستعملهما؛ ولا يملك التّحالف مع إيران، وإنّما يستعمله؛ ولا يملك أجهزة الدّولة وإنّما يستعملها. بيد أنّه يتصرّف وكأنّ كلّ ذلك متوفّر بشكل مضمون ودائم. وهذا الشّطط قد يؤدّي به إلى تصوّرات خاطئة وتصرّفات ينتهي حلفاؤه أنفسهم إلى شجبها.

ليس سرّا أنّ إيران تفضّل جبهة شيعيّة موحّدة لحكم العراق، فهذا معروفٌ منذ عام 2004، حيث أنّ إقامة حكم بقيادة الشّيعة في بغداد يعدّ نقطة تحوّل في سياسة إيران الخارجيّة. ففي تصوّر إيران، سيكون لدعم زعامة الشّيعة للعراق آثارٌ وتفاعلات على المستوى الدوليّ مفيدة لإيران وداعمة لمصالحها. بل سيخلق ذلك فرصًا جديدة لسياسة إيران الخارجيّة في الوقت الذي يمثّل فيه تحدّيًا للحكومات السنّية في المنطقة. ومن المنطقيّ أن يكون التّحليل الإيرانيّ بهذه العبارات وضمن هذا الإطار السياسيّ- الدّينيّ- المذهبيّ الذي يقوم عليه نظام الجمهوريّة الإسلاميّة نفسه. لذلك كان تدخّل إيران حاسمًا بعد انتصار قائمة "العراقيّة" لإعادة تكوين الكتلة الشيعيّة التي اعتقد المالكي خاطئًا بقدرته على الاستغناء عنها حين خاض الانتخابات بقائمة منفصلة (دولة القانون).


أساس المشكلة

لا مفرّ من ملاحظة أنّ الأزمة الحاليّة تعبّر عن فشل الوصفة الأميركيّة للعراق التي تبيّن في النّهاية أنّها وصفة للتّقسيم أكثر منها وصفة للدّيمقراطيّة. وتتمثّل المشكلة الحقيقيّة في أنّ الذين يتصارعون اليوم بمختلف الوسائل كانوا هم أنفسهم الذين قبلوا أن تُدار "اللّعبة" السّياسيّة بهذه الطّريقة. فمنذ سقوط نظام صدّام، جمعتهم السّلطة ملبّيةً إلى هذا الحدّ أو ذاك مصالحهم الفئويّة والشخصيّة التي جعلتهم يقبلون بالمحاصصة الطّائفيّة الدّخيلة كأنّها مسلّمات كثمن لتبوّئِهم مناصب في الدّولة. وهذه المصالح هي التي تدفعهم اليوم إلى الصّراع في محاولة من كلّ طرف الحصول على "المزيد". وما ينبغي ملاحظته في هذا السّياق أنّ هذه ليست الأزمة الأولى التي تشلّ الحياة السياسيّة في العراق، ومن المحتمل أن لا تكون الأخيرة أيضا، طالما لم تتغيّر الأسباب التي أدّت إليها.

نذكر أنّه قبل عام بالضّبط، أي في منتصف تشرين الثّاني / نوفمبر2010، توصّلت الأحزاب السياسيّة العراقيّة إلى اتّفاق لتأليف حكومة ائتلافيّة تشمل ممثّلين عن الفئات الأثنيّة والدينيّة الثّلاث الكبرى في البلاد. وقد أنهت تلك الصّفقة أزمة منعت تأليف حكومة طوال أكثر من ثمانية شهور بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات التي أُجريت في شهر مارس / آذار من العام نفسه. وحمل الاتّفاق - مثله مثل الأزمة - معنى الاعتراف الزعماء العراقيّين ضمنًا بضرورة أن تعكس الحكومة صورة التّقسيم الأثنيّ والطّائفي. ومن المرجّح بالتّالي أن يكون هذا هو مكمن الدّاء.

بنيت فلسفة نظام الحكم في العراق بعد الاحتلال وإلغاء الدّولة الوطنيّة ومؤسّساتها السياسيّة على أساس المحاصصة الطائفيّة. ومن الغريب أنّ هذه الوصفة التي فشلت في لبنان وأدّت إلى حرب أهليّة مهلكة دامت خمس عشرة سنة، تم جلبها وتطبيقها في العراق، وقبلت بها النّخب نفسها التي تدين نتائجها الآن. وقد كانت الطائفيّة واضحة منذ تشكيل مجلس الحكم الانتقاليّ على يد السّفير بول بريمر المدير الإداريّ لسلطة الائتلاف المؤقّتة في 13 تمّوز / يوليو 2003. حيث تألّف المجلس الذي كانت له صلاحيّات استشاريّة لدى إدارة الحكم المدنيّ الأميركيّة في العراق، من 25 عضوًا، مُنح منها 13 مقعدًا للشّيعة، ووُزّعت المقاعد الأخرى على السنّة العرب (5)، والأكراد (4)، والتّركمان (2)، و المسيحيّين (الكلد والآشوريّين :1). أنيطت مهمّة كتابة الدّستور بلجنة انبثقت عن الجمعيّة التأسيسيّة وأضيف إليها ممثّلون عن السنّة العرب من خارج الجمعيّة (نحو 25 فردًا). كان أهمّ اعتراض على مسودة الدّستور التي اقترحها الأميركيّ نوّاح فيلدمان وتبنّاها مجلس الحكم والأحزاب السياسيّة (ولا يزال يتبنّاها)، أنّها تؤطّر المجتمع العراقيّ بإطار تفتيتيّ أثنيّ - طائفيّ، وتؤسّس للتّفتيت المستقبليّ في الوقت الذي تتبنّى فيه "الفيدراليّة" نمطًا للحكم في العراق. لقد دفع المحتلّون الذين كانوا في الوقت نفسه مسؤولين عن بناء النّظام الجديد في العراق باتّجاه تبنِّي دستورٍ طائفيّ. ومن ثمّ، لم يكن الدّستور الجديد "فتحًا" في مجال حقوق الإنسان وبناء النّظام الدّيمقراطيّ على أساس المواطنة التي تساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات. وقد ساهمت قطاعات من المعارضة العراقيّة في الخارج في تقديم النّصائح في هذا الاتّجاه أيضًا.

وقد نصّ الدّستور على أنّه سيكون مقبولا فقط إذا ما صوّت عليه 66% من المواطنين في محافظات القطر كافّة، كما يسقط إذا لم يحصل على هذه النّسبة في محافظتين على الأقلّ. وقد رفضته كلٌّ من محافظتي الأنبار (نحو 97%) ونينوى (نحو 76%)، ولكن ضغوطا شديدة مورست على الحزب الإسلاميّ وأمينه العامّ طارق الهاشمي لتمرير الدّستور مقابل وضع مادّة فيه تعد بإعادة النّظر فيه بشكل جذريّ بمساعدة هيئة برلمانيّة في مدّة أقصاها ستّة شهور. وهو ما لم يحصل إلى حدّ الآن. ولكن، على الرّغم من ذلك قبل طارق الهاشمي بالمنصب الذي منح له. أي أنّه تستّر عمليًّا على عدم تنفيذ العديد من الاتّفاقيّات وهي حال العديد من ضحايا المالكي الحاليّين والسّابقين.

وتكمن أهمّ سلبيّات هذا التّنظيم أوّلا في أنّه يعدّ سابقة خطيرة لتقسيم المجتمع العراقيّ إلى فئات من دون اعتبار للحجم الحقيقيّ لكلٍّ منها، وثانيًا في عدم وجود الأساس الشرعيّ للنّسب التي تبنّتها قوى الاحتلال، بسبب غياب المعطيات الإحصائيّة بالنّسبة إلى المذهب (آخر إحصاء وقع سنة 1997). هذا فضلا عن ازدواجيّة التّقسيم الطائفيّ (سنّة/شيعة) والأثنيّ (عرب -أكراد) التي تؤشّر على الخلل الرّئيس الذي ستكون له تداعيات خطيرة على الوضع العراقيّ فيما بعد.


التّقسيم الطائفيّ يقود إلى حرب طائفيّة

كما كان متوقّعًا، بدأ الموقف في التّفاقم مع تولّي وزارة إبراهيم الجعفري الحكم وتعيين باقر صولاغ وزيرًا للداخليّة ( 3 أيار/ مايو 2005)، حيث تمّ إدماج الميليشيات الشيعيّة في قوّات وزارة الداخليّة ووزارة الدّفاع، ومن هنا بدأ استهداف الكثيرين تحت ذريعة الإرهاب والانتماء إلى القاعدة والبعث الصدّاميّ والتكفيريّين. وبهذه النّتيجة فقد فشلت كلّ المؤتمرات التي عُقدت لإنهاء العنف والتوصّل إلى مصالحة وطنيّة حقيقيّة، ومنها مؤتمران عُقدا في كلٍّ من القاهرة ومكّة المكرّمة، بحضور أهمّ الفعاليّات السياسيّة من الأحزاب السياسيّة الشيعيّة وممثّلين عن السنّة العرب، ومُثّلت فيهما حتّى أوساط من المقاومة العراقيّة عبر رموز معارضة معروفة. وقد قاد هذا الفشل إلى انطلاق عمليّات التّصفية والتّطهير الطائفيّ التي أعقبت عمليّة نسف قبّة مرقد الإمامين علي الهادي والحسن العسكري، وهي العمليّة التي لايزال يلفها الغموض، ولم تفصح الحكومة عن نتائج التحقيقات فيها، ووجّهت الاتّهامات اللّفظية للتكفيريّين والقاعدة والبعث الصداميّ باعتبارهم مسؤولين عن العمليّة من دون تقديم أيّ أدلة. والمقصود بهذه الصّفات في عرف الأحزاب الدينيّة الشيعيّة هم السنّة العرب. وقد أدّت فتوى منسوبة إلى آية الله السيستاني المرجع الشّيعيّ بالدّفاع عن المقدّسات، إلى نزول ميليشيا جيش المهدي إلى الشّوارع بغرض السّيطرة على مساجد السنّة في بغداد ومناطقَ أخرى والشّروع في تطهير العديد من المناطق المختلطة من السنّة. وهو ما دفع بمئات الألوف منهم لترك بغداد باتّجاه الجوار العربيّ ( سوريا والأردن).

حقّق السنّة العرب إنجازًا مهما رغم المقاطعة شبه الواسعة لانتخابات عام 2005، وحصلوا عبر قائمة جبهة التّوافق وقائمة الدّكتور المطلق وقائمة مشعان الجبوري على ما يقارب الـ 60 مقعدًا، وحصلت قائمة الدّكتور علاوي (رئيس الحكومة السّابق) المختلطة طائفيًّا على 25 مقعدًا. وعلى الرّغم من هذا، تمّ تجاهل هذا الإنجاز من الحكومة المؤلفة بناءً على هذه الانتخابات برئاسة نوري المالكي الذي نجح في السّيطرة على "حزب الدّعوة" بإزاحة قائده إبراهيم الجعفري. وحدث ذلك على الرّغم ممّا تمّ تحقيقه على يد قبائل الأنبار بطردها لتنظيم القاعدة من حاضنته وهو ما مهّد لتصفية قائد التّنظيم الزّرقاوي على يد القوّات الأميركيّة فيما بعد.

وفي انتخابات عام 2010، حقّق السنّة العرب (على الرغم من محدوديّة المشاركة أيضا) إنجازًا مهمًّا بفوز القائمة التي أيّدوها بالمركز الأوّل وحصدها لـ 91 مقعدًا مقابل 89 مقعدًا للقائمة التي يقودها المالكي. وقد حُرِمت "القائمة العراقيّة" من حقّها في تشكيل الحكومة بوصفها القائمة الأكثر مقاعدًا، إذ تَكوّن بضغط إيرانيّ ائتلاف بين حزب دولة القانون وجماعة الصّدر، رغم الخلافات بينهما. ولم يكن التدخّل الإيرانيّ افتراضيًّا، بل أكّدته اللّقاءات التي قادها قاسم سليماني للضّغط على الجميع لتشكيل الائتلاف الوطنيّ العراقيّ، ثمّ الضّغط على الصدريّين لقبول نوري المالكي رئيسًا للوزراء. وهو ما كانوا يعارضونه. وتجاوز الضّغط المجال الداخليّ العراقيّ إلى نظام حكم بشّار الأسد لإقناعه بالتخلّي عن تأييد إياد علاوي وتأييد المالكي. وهذا ما يعطينا صورةً واضحة عن عمق النّفوذ الإيرانيّ في العراق.


الشّراكة التي لم تنفّذ

عقدت صفقة في أربيل رعاها مسعود البرزاني لتأليف الحكومة برئاسة المالكي. ووقع اتّفاق ضمّت أهمّ نقاطه ما يلي:

  • تشكيل مجلس للسّياسات الإستراتيجيّة يرأسه الدكتور إياد علاوي، يكون مسؤولا عن صياغة القرارات الإستراتيجيّة واتّخاذها.
  • تحقيق التّوازن في التّشكيلة الحكوميّة كاملة وفي القوّات المسلّحة والأمنيّة، وهو ما سيفسح المجال للسنّة العرب ليمارسوا حقّهم الطبيعيّ في المشاركة في إدارة الدّولة.
  • تحقيق شراكة حقيقيّة في إدارة الدّولة بإصدار قانون مجلس الوزراء الذي يحدّ من صلاحيّات رئيس الوزراء باتّجاه الشّراكة الحقيقيّة في عمليّة إدارة البلاد.
  • إلغاء إجراءات الاجتثاث التي اتُّخذت بحقّ بعض المعارضين تمهيدًا لمشاركتهم في الحياة السياسيّة، ومنهم قادة في القائمة العراقيّة كالدّكتور صالح المطلق.

بيد أنّ هذا الاتّفاق بقي حبرًا على ورق، ولم يدخل حيّز التّنفيذ ولم تتبعه الإجراءات العمليّة.

ظلّ عمل الحكومة متعثّرًا، وموعد الانسحاب الأميركيّ الشّامل من العراق يقترب، كما ظلّ المالكي متمسّكًا بالسّلطة الفرديّة، رافضًا تعيين أيّ مرشّح طرحته "العراقيّة" لمنصب وزير الدّفاع الذي يظلّ شاغرًا حتّى الآن مع بقيّة الوزارات الأمنيّة، الأمر الذي جعل رئيس الوزراء / القائد العامّ للقوّات المسلّحة يهيمن على الوزارات الأمنيّة( بما في ذلك إخفاقاتها التي يتمّ تجاهلها). كما استمرّت ظاهرة نقص الخدمات وفشل الحكومة - على الرّغم من الإسراف في الإنفاق الذي بلغ مئات المليارات من الدّولارات - في إصلاح حال الكهرباء والخدمات الصحّية والتعليميّة وغيرها.

عبّرت قطاعات كثيرة من المجتمع العراقيّ بمختلف أطيافه عن رفض الحالة الرّاهنة بتظاهرات على نمط الرّبيع العربيّ، إلا أنّها لم تكن مسيّسة، وقد قمعت قوّات المالكي وميليشياته هذه التّظاهرات بعنف وأهمّها تظاهرة 25 شباط / فبراير 2011. وقد طرحت الحالة أهميّة إجراء تعديل ما في تشكيلة الحكومة بما يعني تحمّل المالكي مسؤوليّة ما حدث وأن يتمّ الاتّفاق على رئيس وزراء آخر.


التّهافت والانهيار

وفوجئ العراقيّون غداة الانسحاب الأميركيّ بقيام المالكي بإطلاق حملة استهدفت "الرّموز السنّية" في السّلطة(بلغة النّظام السّائد حاليًّا في العراق) اعتبارا من أعلى منصب في الإدارة التنفيذيّة وهو نائب رئيس الجمهوريّة طارق الهاشمي الذي استهدف بيته ومنع من المغادرة إلى السليمانيّة للقاء الرّئيس (19 كانون الأوّل / ديسمبر2011)، ثمّ صدرت مذكّرة بإلقاء القبض عليه، وقدم طلب إلى البرلمان لرفع الحصانة عن الدّكتور صالح المطلق نائب رئيس الوزراء تحت ذريعة تصريحه بأنّ المالكي يدير العراق بطريقة ديكتاتوريّة. وهناك تسريبات تفيد أنّ الدّكتور رافع العيساوي وزير الماليّة مهدّد كذلك. وقد دعا هذا الموقف المفاجئ قيادة "العراقيّة" إلى مقاطعة البرلمان والحكومة "حتّى تتبيّن نوايا المالكي" الذي هدّد بإنهاء الشّراكة الهشّة والضّعيفة. فالحقيقة أنّ حكومة "الوحدة الوطنيّة" - كما يفترض أن تكون - لم تستطع أن توّحد الجهود والأهداف، وإنّما نقلت الاختلافات والخلافات إلى صميم جهاز الدّولة، ما شلّ عمليّا قدرات الحكومة. إلا أنّه كلّما استمرّت، استمرّ معها الأمل بإمكانيّة التّفاهم والتّوافق على أساس تنازلات متبادلة لم تتحقّق أبدا.

إنّ ما يبدو اليوم وكأنّه انهيار لسياسات النّخبة الحكوميّة في العراق يعود بقدر كبير إلى أنّ الزّعماء العراقيّين لم يستبطنوا بعد نماذج السّلوك الديمقراطيّ، بالإضافة إلى افتقار البلاد إلى ذلك النّوع من المؤسّسات التي من شأنها إجبارهم على السّلوك الصّحيح حتّى في غياب تلك البوصلة الأخلاقيّة. ومن المؤسف القول إنّ الحضور الأميركيّ كان يلعب دور "الضّاغط المحفّز" في وضع قوانين اللّعبة السياسيّة، وأنّه بغياب ذلك الدّور الذي كان يدفعهم إلى تقديم التّنازلات، فقد لا يجد السّاسة في أنفسهم الوازع الكافي لكي يواجهوا الحقائق التي لا تعجب مثلما يقتضي واقع الحال. ولعلّ ما يحتاج إليه البلد اليوم هو شجاعة مواجهة الأخطاء، والاعتراف بها، والرّغبة في تصحيحها للمضيّ إلى الأمام على أسس سليمة. ولن يتمكّن العراقيّون من ذلك ما لم تدرك النّخبة مسؤوليّتها إمّا في وضع البلد على سكّة التقدّم والنموّ والاستقرار، وإمّا على سكّة التّفتيت والتّناحر وربّما الحرب الأهليّة. ولن تتمكّن النّخبة من مواجهة تلك الحقائق من دون مراجعةٍ لأساسيّات اللّعبة السياسيّة، وفي مقدّمتها الدّستور العراقيّ، في كلّ ما يحتاجه من مراجعة وتنقيح لإخراج البلد من الطائفيّة والمذهبيّة وإقامة الديمقراطيّة على أسس الحكم الرّشيد. ولكن يتّضح أنّ الزّعامات العراقيّة السياسيّة الحاليّة هي صنيعة هذه اللّعبة، وهي غير مؤهّلة لمراجعتها. لا مفرّ من الاعتراف أنّ بلدا كالعراق، يتكوّن من عدّة طوائف ومذاهب وأثنيّات، يحتاج إلى بناء نظامه على أساس عقلانيّ يعترف بحقوق النّاس الدينيّة ولا يقيم تمييزًا على أساس هذه الانتماءات. ومن الملاحظ أنّ هذا الخيار العائد في النّهاية إلى الشّعب العراقيّ نفسه لم يعرض عليه قطّ. فكأنّ نخبته كانت لها أجندة خاصّة مرتّبة مسبقًا لكتابة دستور حسب مقاييس معيّنة، لاستلام السّلطة وإدارة اللّعبة السياسيّة بالطّريقة التي تراعَى فيها مصالح الحكّام الجدد وحلفائهم في الدّاخل والخارج.

وقد أدّى هذا إلى الحالة التي يشهدها العراق اليوم من عجزٍ سياسيّ؛ وانهيار أمنيّ؛ وفساد إداريّ؛ وانعدام نجاعة اقتصاديّة؛ تعترف بها العديد من مؤسّسات الرّقابة الدوليّة.
وإذا استمرّت السّياسات الحاليّة فسوف تؤدّي إلى انهيار الشّراكة القائمة على تقاسم مناصب في ظلّ هيمنة منصب رئيس الحكومة وأجهزة الأمن التّابعة له.


سيناريوهات مرحلة الغموض

يعترف عددٌ من المراقبين اليوم بأنّ مستقبل العراق كبلد موحّد لايزال غامضًا، فالصّراع السياسيّ الحاليّ يخفي صراعًا آخر لا يقلّ خطورة يتعلّق بتقسيم ثروات البلاد، خاصّة ما يتعلّق بقانون المحروقات وعدالة توزيع عائداتها وإيجاد حلّ لوضعيّة كركوك القانونيّة. فعلاوة على التّهديدات التي تمثّلها المجموعات الهامشيّة الراديكاليّة للاستقرار، من الواضح أنّ الأحزاب السياسيّة نفسها مختلفة في شأن الأساسيّات التي تبني هيكليّة الحكم وتوزيع السّلطة. وتتمفصل معظم التّحليلات السياسيّة بما فيها الصّادرة من داخل العراق حول خطوط التّقسيم الطائفيّ والأثنيّ، وهو ما يفاقم الاعتقاد بأنّ البلد في ظلّ هذه الظّروف ماضٍ إلى مزيد من التّناحر. ولا تخرج أغلب التصوّرات للسيناريوهات الممكنة عن احتمالات تتمحور حول تلك الخطوط.

ففي السّيناريو الأوّل، تستمرّ الأزمة وتجرّ أزمات ومزيدا من العنف وانسدادًا للآفاق، لا سيّما وأنّ تداعيات الأزمة السوريّة قد تؤثّر في العراق؛ فيحدث انقلاب عسكريّ كردّ فعل في حالة انزلاق البلد إلى العنف الطائفيّ. وعلى الرّغم من أنّ الجيش العراقيّ أُعيد ترتيبه للتأكّد من عدم اختراق البعثيّين له، فهو في حالة أزمة كبرى في البلاد قد يجد نفسه مجبرًا على التدخّل. وقد يفعل بعض الضبّاط ذلك بإيعاز من بعض الأطراف الخارجيّة أو بتشجيعها من أجل السّيطرة البلد أو إعادة السّيطرة عليه. وهو سيناريو مستبعد، كما أنّه يتنافى مع الأجواء السّائدة في المنطقة حاليًّا.

في السّيناريو الثّاني، ومقابل إصرار الكتلة الشيعيّة (غير العلمانيّة) على أن تكون في القيادة أيّا كانت طبيعة النّظام، يصرّ الكرد على ضرورة الاستمرار تحت نظام فيدراليّ يتمتّعون فيه باستقلال نسبيّ، فيما يريد السنّة توزيع الثّروات بعدلٍ أكبر بين مختلف المناطق. وفي سعي كلٍّ واحدة من هذه الفئات الكبرى إلى إثبات إرادتها، تغدو سلطة الدّولة المركزيّة في بغداد مهدّدة، وتسعى المحافظات الغربيّة /الشّماليّة الغربيّة وديالى إلى الحصول على مزيد من الاستقلاليّة، وهو ما سيتمخّض عنه تقسيم افتراضيّ وتشكيل فعليّ للأقاليم. وهذا السّيناريو غير مستبعد، إذا لم يستطع رئيس الحكومة العراقيّة الحاليّة أو المقبلة أن يثبت أنّه داعية توحيد وليس داعية تفريق، وأنّ المصلحة الوطنيّة تقتضي في المرحلة الحاليّة تظافر الجهود لاجتناب الاستقطاب والتّجاذب. ولن يكون ذلك ممكنًا من دون أن تظهر الحكومة بأيدٍ نظيفة، ونوايا حسنة في الإصلاح الإداريّ، والتّقسيم العادل لخيرات البلاد.

في السّيناريو الثّالث، يصرّ السيّد نوري المالكيّ على رأيه ويمضي قدمًا في موقفه، فيجمّد وزراء قائمة العراقيّة ثمّ يقيلهم (إذا لم يستقيلوا) ويؤلف حكومةً يسيطر عليها عناصر كتلته السياسيّة ربّما بالتّحالف مع الكرد. وهو ما قد ينشأ عنه شعور بالقهر والغبن السياسيّ لدى كتلة إياد علاوي (التي كانت الفائزة الأساسيّة في الانتخابات). وفي ظروف مختلفة، فإنّ النتيجة تكون تحوّل القائمة إلى صفوف المعارضة. وهو ما سيحدث هنا أيضًا بالطّبع، إلا أنّ الديمقراطيّة العراقيّة الهشّة قد لا تتحمّل هذا النّوع من المناورات الثّقيلة التي تؤدّي إلى تحويل القائمة الرّئيسة الفائزة في الانتخابات إلى صفوف المعارضة حين يرى كثيرون أنّ مكانها السّلطة، بحكم ما نصّ عليه الدّستور نفسه. والخوف من أن تنجم عن هذا الشّدّ والجذب ردود فعل متوتّرة، خاصّة بعد الإجراءات "القضائيّة" و"القمعيّة" الأخيرة التي تستهدف شخصيّات من المنافسين السياسيّين. فتنزلق البلاد هنا أيضًا إلى العنف الذي سيتمحور حول خطوط التّقسيم الطائفيّ.

في السّيناريو الرّابع : يقع حلّ البرلمان وإجراء انتخابات جديدة سابقة لأوانها كما تدعو إلى ذلك بعض القوى السياسيّة الآن. وعلى الرّغم من أنّه لا شيء مستبعد في حالات الأزمة، فإنّ المالكي سيفعل كلّ ما بوسعه لشلّ قدرة منافسيه ومنع معارضيه من تحقيق هذا السّيناريو الذي لا يضمن له عودة إلى الحكم بسرعة. وقد لا يقبل به إلا على مضض، وحين يتبيّن له أنّ استبعاده من الحكم أصبح وشيكًا وأنّ أمله الوحيد هو العودة إلى صناديق الاقتراع.

في السّيناريو الخامس، يتمّ اتّفاق بين الأكراد و"العراقيّة" ومعارضي المالكي في الائتلاف الوطنيّ العراقيّ (الشيعيّ) بإقالة المالكي وتكليف شخصيّة أخرى بتشكيل الحكومة بدلا عنه. هذا السّيناريو يبدو إنقاذيًّا في الظّرف الحاليّ. وهو يفترض إمكانيّة التّفاوض والتّقارب بين مختلف القوى السياسيّة، ووجود وعي لدى الجميع بأنّه ليس هناك شخص لا يمكن تعويضه مهما كانت أهميته، وأنّ الأشخاص يستمدّون أهميّتهم من اعتراف الأغلبيّة بأهليتهم في مهمّة معيّنة، وأنّ بعض الأشخاص قد لا يفهمون مهمّتهم على النّحو الذي تقتضيه المصلحة العامّة، وبالتّالي، يصبح تعويضهم أمرًا مرغوبا لتجنّب الأزمة والمصير المجهول. ويعتمد تحقّق هذا السّيناريو أساسًا على الاقتناع العامّ بأنّ المالكي أصبح جزءًا من المشكل وليس جزءًا من الحلّ، وفي كلّ هذه السّيناريوات، سيكون أداء البلاد الاقتصاديّ في أضعف أحواله، وستتفاقم الأزمة السياسيّة بركود اقتصاديّ قد يستمرّ فترةً لا بأس بها. وسيكون من مضاعفات ذلك ظهور سيناريو آخر، وهو السّادس، والذي سنرى فيه العراق يدخل نفق التّقسيم الحقيقيّ وردود الفعل الإقليميّة المؤيّدة والمعارضة.