مقدمة
بات من الواضح أن وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) قد غيّر موازين أولويات الأمن الوطني في عدد كبير من بلدان العالم، ما دفع الحكومات إلى وضع استراتيجيات طارئة لمواجهة هذا العدو الخفي الذي يهدد أمن الشعوب وسلامتها في الدول المتقدمة وغير المتقدمة على حد سواء. ولا يعني هذا التغير المؤقت في أولويات الأمن الوطني أنّ التحديات والمخاطر الأمنية التقليدية، مثل الحروب والإرهاب والجريمة المنظمة والتجسس وغيرها، لم تعد موجودة؛ إذ إن استراتيجيات وتكتيكات الردع والدفاع المتمثلة بالجيوش والتسلح التقليدي وغير التقليدي والتحالفات العسكرية وأجهزة الاستخبارات وغيرها لم تتغير، لكن تغيرت أساليب إدارتها وتدريب كوادرها. ويُظهر الشكل (1) نسب تقلّص ميزانيات الدفاع في أغلب دول الاتحاد الأوروبي التي تأثرت بتداعيات الركود الاقتصادي العالمي خلال الفترة 2008-2012، مقارنةً بمتوسط الناتج المحلي الإجمالي GDP لكل دولة[1]. ومن المتوقع أن يكون لوباء كورونا أثرٌ مشابه في ميزانيات الدفاع في العديد من دول العالم. ويمكننا القول إن انتشار فيروس كورونا، بشكل متسارع، اختبر جاهزية أنظمة الأمن الصحي والمحلي والدفاع في عدد من دول العالم المختلفة، على نحوٍ أثارَ العديد من الأسئلة حول مستقبل مفهوم الأمن الوطني واستراتيجيات الردع والدفاع، بعد أن فرض واقعًا جديدًا في الفضاءين الملموس والافتراضي.
الشكل رقم 1: التغريات التي طرأت على متوسط الناتج المحلي الإجمالي (GDP) وميزانيات الدفاع في دول الاتحاد الأوربي الـ28 في الفترة 2008 - 2012
أولًا: مفهوم الأمن الوطني
لقد أعاد وباء فيروس كورونا ترسيم خطوط الدفاع الأمامية للأمن، بحيث اضطر عدد كبير من الحكومات إلى إعادة توجيه الموارد للاستثمار في قطاعات حيوية مثل الخدمات الصحية وبحوث استشراف ومعالجة الأوبئة ومؤسسات الأمن السيبراني وغيرها من القطاعات التي تقف على خط الصد الأول في مواجهة هذا الوباء وتداعياته على الأمن الوطني[2]. فعلى سبيل المثال، وبسبب حظر التجول الذي فرضته كثير من الحكومات على سكان أغلب المدن في دول العالم المختلفة للحد من انتشار الوباء، أصبح الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية في التواصل الاجتماعي بين الأفراد شبهَ كلي، وأصبح استخدام الفضاء الافتراضي بدلًا من العمل المكتبي الواسطة الرئيسة التي تدار بها العديد من المؤسسات الحيوية، الخاصة والعامة، وحتى المؤسسات الأمنية مثل الجيش والشرطة والمخابرات وغيرها[3]. وهنا تجدر الإشارة إلى أن دولًا كثيرة في العالم، رغم انتشار التكنولوجيا الرقمية فيها، لم تكن مستعدة لهذا التحول المفاجئ الذي يمثل عبئًا كبيرًا على المؤسسات الحكومية المسؤولة عن حفظ أمن الدولة ضد التحديات الداخلية والخارجية[4].
ثانيًا: العالم الافتراضي والأمن السيبراني
يشهد العالم، منذ عقدين تقريبًا، أهمية مطّردة في مجال أمن الفضاء السيبراني. وقد ضاعف انتشار وباء فيروس كورونا المستجد أهمية أمن هذا الفضاء، إلى درجة أنه أصبح اليوم إحدى أهم الأدوات التي توظفها الدول لمواجهة تداعيات فيروس كورونا. فعلى سبيل المثال، تبنّى عدد من وزارات الصحة في دول العالم المختلفة، ومن بينها دولة قطر، استخدام تكنولوجيا التطبيقات الرقمية للهواتف الجوالة لرصد أنساق انتشار فيروس كورونا، ومتابعة حالة المصابين به للحد من انتشار الوباء. وكان نظام الخدمة الصحية البريطاني NHS قد قرر بناء تطبيق يرصد حالة المصابين بفيروس كورونا، لمتابعة أنماط انتشار الفيروس وضمان بقائهم في منازلهم أو أماكن الحجر الصحي المخصصة خلال فترة الإصابة. واللافت للنظر أن مكتب الاتصالات الحكومية البريطانية GCHQ Government Communications Headquarters، الذي يتعاون مباشرة مع دوائر الاستخبارات البريطانية MI5 وMI6، تدخّل في عملية تصميم[5] هذا التطبيق وتأمينه إلكترونيًا من خلال تزويده بأحدث برمجيات التعرف إلى هوية المستخدم والنقل والتخزين الإلكتروني الآمن للبيانات وحماية التطبيق ضد الاختراق من الدول والأفراد. ويعدّ التدخل المباشر والمعلن لدوائر الاستخبارات البريطانية في تأمين التطبيقات الرقمية لمؤسسات الصحة العامة والشركات الخاصة تحولًا في أولويات الأمن الوطني، فرضته تداعيات انتشار وباء فيروس كورونا. وتحاول هذه الدوائر الأمنية بالتعاون مع حكوماتها الموازنة بين حقوق الخصوصية الفردية والأمن الجماعي من جهة، وأمن الدولة ومصالحها العليا من جهة أخرى[6].
وفي سياقٍ موازٍ، لم تتوقف النشاطات التقليدية المعادية للدول، مثل التجسس بالتجنيد المباشر أو والإلكتروني ونشر المعلومات المضللة لزعزعة الاستقرار واختراق أنظمة التصويت الإلكتروني والتخريب المباشر والسيبراني، لكن بعض أدواتها وأساليبها تغيرت بسبب انتشار وباء فيروس كورونا، إضافة إلى أن التحول المفاجئ لعمل عدد كبير من مؤسسات الدولة والشركات الخاصة إلى الفضاء الرقمي جعل معلومات الدولة الحيوية واستراتيجياتها لمواجهة التهديدات الخارجية والداخلية عرضةً للتجسس الرقمي أكثر من أي وقت مضى. وبينما تمكنت حكومات دول، مثل الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة والصين وروسيا واليابان وقطر وكندا وعدد من دول الاتحاد الأوربي وغيرها، من أن تمتلك بنية تحتية رقمية جيدة وأن تضع خططًا طارئة فعالة لحماية فضاءاتها الرقمية الوطنية ضد التهديدات المحتملة؛ هناك دول كثيرة ما تزال غير مستعدة، سواء من ناحية البنية التحتية أو عدد الكوادر المدربة والخبرات المحلية، لمواجهة التهديدات المصاحبة لهذا التحول المفاجئ شبه الكامل إلى الفضاء الرقمي في التواصل الاجتماعي وعمل مؤسسات الدولة العامة والشركات الخاصة[7].
ثالثًا: آثار وباء كورونا في أمن الخليج العربي - حالة قطر
على المستوى الإقليمي، تأثرت منطقة الخليج العربي بتداعيات وباء فيروس كورونا، مثل باقي مناطق العالم المختلفة. وكانت دولة قطر من بين الدول ذات الجاهزية العالية لمواجهة تداعيات أزمة فيروس كورونا فيها، حيث إن مؤسسات الدولة كانت على أهبة الاستعداد لمعالجة الآثار المباشرة وغير المباشرة للوباء، وذلك بسبب الخبرة المكتسبة في التعامل مع أزمة الحصار الذي فرضته ثلاث من دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 2017. وكانت دولة قطر، بسبب تداعيات الحصار، تمتلك، من جهة، مخزونًا استراتيجيًا جيدًا من المواد الغذائية والأدوية الطبية الأساسية، التي تعرضت لشحٍّ عالمي طارئ في أعقاب انتشار فيروس كورونا الذي أوقف العمل في عدد كبير من المصانع وأدى إلى تناقص حركة النقل والتجارة الدولية؛ إضافة إلى وجود عدد لا بأس به من مصانع المواد الغذائية والتجهيزات الطبية والمواد المعقمة والمواد الأساسية الأخرى في دولة قطر، التي أُنشئت في أعقاب الحصار. ومن جهة أخرى، تمتلك دولة قطر بنية تحتية أمنية سيبرانية متينة كانت قد وضعت أُسسها وطورتها في أعقاب الاختراق الإلكتروني الذي تعرضت له وكالة الأنباء القطرية عام 2017، والذي اتخذته الدول المحاصِرة ذريعة لفرض الحصار[8]. وقد مكّنت هذه البنية التحتية الأمنية السيبرانية دولة قطر من مواجهة وإحباط عدة هجمات إلكترونية، منها معلومة ومنها لم يعلن عنها لحد الان[9]، ضد مؤسساتها العامة والخاصة المختلفة. وكانت قضية قرصنة قنوات "بي إن" الرياضية من بين أبرز الهجمات الإلكترونية ضد المؤسسات التجارية في دولة قطر[10]. فضلًا عن تعزيز دولة قطر قدراتها الدفاعية الجوية والبرية والبحرية، والعمل على وضع استراتيجية ردع جديدة تحاكي التحديات المحتملة الإقليمية والدولية. وفي الوقت ذاته، تعمل دولة قطر على تعزيز علاقاتها مع الدول الصديقة من خلال بناء تحالفات أمنية واقتصادية تسهم في تحقيق مصالح الدولة العليا[11].
رابعًا: الأمن الدولي في زمن وباء فيروس كورونا
على المستوى الدولي، مثّل انتشار فيروس كورونا تحديًا كبيرًا لقطاع الصحة، حيث إن مستويات الأمن الصحي في دول العالم المختلفة متفاوتة على نحو بعيد. وبسبب سرعة انتشار فيروس كوفيد-19العابرة للحدود، فأن فشل النظام الصحي في دولة ما يهدد الأمن الصحي العالمي وليس فقط تلك الدولة. وفي الوقت نفسه، تأثر الأمن الاقتصادي للدول والأفراد تأثرًا مباشرًا بسبب توقف عجلة التجارة ما بين الدول وفيها. أما قطاع الأمن التقليدي المتمثل بالردع التقليدي والنووي والدفاع والاستخبارات ومكافحة التجسس وغيرها، فقد تأثر أيضًا بتداعيات وباء فيروس كورونا. ومع تسجيل أول حالة وفاة بسبب الفيروس لجندي بحّار على متن الناقلة الأميركية "يو إس إس ثيودور روزفلت"، بات واضحًا حجم خطر هذا الوباء ليس فقط على الأمن الوطني في الولايات المتحدة الأميركية وقدرتها على الدفاع والردع ضد التهديدات الخارجية والمحافظة على تفوقها العسكري العالمي، ولكن على الأمن والاستقرار الدوليين أيضاً
[12]. ويصبح الخطر أكبر في حال انتشار الفيروس بين أفراد طواقم بحّارة الغواصات النووية التي تجوب أعماق البحار على نحو مستمر للمحافظة على عنصر المفاجأة ضمن استراتيجية الردع النووي.
وفي سياق آخر، مثّلت إصابة رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، بفيروس كورونا وإمكانية بقائه في المستشفى فترةً طويلة بسبب الفيروس، تحديًا أمنيًا ينذر بغيابٍ محتمل للقيادة التي تمتلك صلاحية اتخاذ قرار استخدام الأسلحة الاستراتيجية ومنها النووية في حال اندلاع حرب مع خصوم المملكة المتحدة. وبينما توجد بروتوكولات وآليات معينة تتبعها المملكة المتحدة في حال اندلاع مواجهة بالأسلحة النووية، بات واضحًا أن انتشار فيروس كورونا أجبر العديد من الدول الكبرى والمتوسطة والصغيرة على مراجعة خططها وأولوياتها الأمنية وتحديثها. وفي ضوء تداعيات وباء فيروس كورونا على أمن شعوب العالم وسلامتها، أصبحت التحالفات الأمنية والاقتصادية بين الدول مهمة أكثر من أي وقت مضى، لمواجهة التهديدات الأمنية الإقليمية والدولية من خلال تبادل المعلومات الاستخبارية وتعزيز قوة الردع التقليدي والسيبراني والنووي وتعزيز التبادل التجاري خصوصاً في أوقات الأزمات.
خامسًا: مفهوم الأمن بعد وباء فيروس كورونا
يمكن القول إن بعض التغيرات التي فرضها انتشار فيروس كورونا المستجد، مثل الاعتماد الكبير والمفاجئ على التكنولوجيا الرقمية في إدارة مؤسسات الدولة الحيوية والأمنية وتبنّي آليات مبتكرة في إدارة الملف الأمني، هي تغيرات طارئة سوف تتلاشى مع انحسار خطر الوباء على الصحة العامة. وفي المقابل، من المرجح أن يترك الوباء آثارًا دائمة في مفاهيم الأمن وأولوياته على المستوى الوطني والإقليمي والدولي.
لقد كشف وباء فيروس كورونا العديد من الثغرات في أنظمة الأمن والبنى التحتية الحيوية في العديد من دول العالم، وفي الوقت نفسه، سلّط الضوء على الأهمية المتزايدة للفضاء الافتراضي وأمنه السيبراني، إضافة إلى أهمية توظيف الذكاء الاصطناعي في قطاعات الأمن المختلفة والبنى التحتية الحيوية. وفي المقابل، وضع وباء فيروس كورونا أنظمة الحكم المختلفة، الديمقراطية والشمولية على حد سواء، أمام تحدي المحافظة على أمن الدولة والصحة العامة والاقتصاد مقابل حماية الحريات، خصوصًا في الأنظمة الليبرالية الديمقراطية[13].
نستخلص من القراءة الأولية لتداعيات وباء فيروس كورونا المستجد على الأمن أن الميزانيات الدفاعية سوف تتأثر سلبيًا في عدد من دول العالم. وهذا التقلص في الميزانيات غالبًا ما نلمس آثاره في مستوى قوة الردع والدفاع في هذه الدول، وفاعلية دورها في تحالفاتها الإقليمية والدولية. فعندما تقرر دولة مثل الولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال، تقليص ميزانيتها الدفاعية (تقليص عدد الجنود أو قواعدها في الخارج)، يتفاعل الأمن والاستقرار الدوليان مع هذه التغيرات أفقيًا وعموديًا. وعندما تضطر الدول الكبرى أو المتوسطة أو الصغيرة إلى تقليص ميزانياتها الدفاعية بسبب تداعيات الوباء على الاقتصاد العالمي، تتأثر خريطة التحالفات بين الدول ومعها موازين القوى الإقليمية والدولية.
ومن أجل فهمٍ أعمق لآثار وباء فيروس كورونا في الأمن، يتعين إجراء دراسات استشرافية لفهم التداعيات المحتملة للأوبئة على الأمن الوطني وسُبل تعزيز جاهزية مؤسسات الدولة المختلفة والأفراد للتعامل مع مثل هذه التحديات من خلال إعادة تقييم الاستراتيجيات الأمنية الحالية، ومراجعة تحديد أولويات الأمن الوطني وموازينه، وتخصيص الميزانيات المالية للتدريب وتوفير البنى التحتية المناسبة لها، إضافة إلى العمل على سد الثغرات التي ظهرت أثناء وباء فيروس كورونا وتعزيز "الخواصر" الرخوة التي تم التعرف إليها خلال هذه الأزمة.
[1] Sophia Becker, Christian Mölling & Torben Schütz, “Deterrence and Defense in Times of COVID-19: Europe’s Political Choices,” German Council on Foreign Relations,
Policy Brief, no. 9 (April 2020), p. 2, accessed on 1/7/2020, at:
https://bit.ly/2VzsXXo
[2] David Barno & Nora Bensahel, “After the Pandemic: America And National Security in a Changed World,”
War on the Rocks, 31/3/2020, accessed on 1/7/2020, at:
https://bit.ly/2AovmNa
[3] Alex Finley, Jonna Mendez & David Priess, “How do you Spy when the World is Shut Down?”
Lawfare, 20/3/2020, accessed on 1/7/2020, at:
https://bit.ly/38ilhhc
[4] Bruce Sussman, “The List: Best and Worst Countries for Cybersecurity,”
Secure World, 13/11/2019, accessed on 1/7/2020, at:
https://bit.ly/3ePh8nb
[5] Jeremy Fleming, “GCHQ: Intelligence and Cybersecurity Today,” in: “Day 3 - Cheltenham Science Festival @ Home Course,”
Cheltenham Festivals, 4/6/2020, min. 7:58:29, accessed on 1/7/2020, at:
https://bit.ly/2AiuoSo
[6] Ibid.
[7] Toby Philips, “A Roadmap for Digital-Led Economic Development,” VOX CEPR Policy Portal, 5/2/2020, accessed on 1/7/2020, at:
https://bit.ly/3ga5rru
[8]Ibid.
[9] محمد الدوراني، "الإمارات جندت خبراء هجمات ضد قطر منذ 2014"، أجرى الحوار طه حسين،
الشرق، 3/3/2020، شوهد في 1/7/2020، في:
https://bit.ly/2VxiyLu
[10] “This is the story of beoutQ & Arabsat - the Saudi Arabian-backed Pirates of World Sport and Entertainment,” BeoutQ TV, accessed on 1/7/2020, at:
https://beoutq.tv
[11] Ebrar Sahika Küçükasci, “Extente Cordiale: Exploring Turkey-Qatar Relations,” TRT World Research Centre,
Discussion Paper (February 2019), pp. 8, 11, accessed on 1/7/2020, at:
https://bit.ly/31zoyan
[12] “Coronavirus: First Sailor on Virus-Stricken USS Roosevelt Dies,”
BBC News, 13/4/2020, accessed on 1/7/2020, at:
https://bbc.in/2YPj21y
[13] Francis Fukuyama, “The Pandemic and Political Order: It Takes a State,”
Foreign Affairs, 9/6/2020, accessed on 1/7/2020, at:
https://fam.ag/2AmZ05m