العنوان هنا
تقدير موقف 28 سبتمبر ، 2011

خيارات القيادة الفلسطينية بعد طلب عضوية الأمم المتحدة

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

يُناقَش حالياً في أروقة مجلس الأمن الدولي ملف طلب العضوية الكاملة لدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967 في منظمة الأمم المتحدة. وأيًّا كانت نتيجة المناقشات بالقبول أو الرفض، فإنّ الطلب الذي تقدّم به الرئيس الفلسطيني محمود عباس، خلال اجتماعات الدورة السادسة والستّين للجمعية العامّة للأمم المتحدة هو في المحصلة إقرارٌ بفشل مسارٍ، دام عشرين عاماً، من المفاوضات الثنائية مع إسرائيل تحت الرعاية الأميركية، وعودة بالقضية الفلسطينية إلى المؤسّسات الدولية.

وكان رئيس دائرة المفاوضات سابقاً في منظمة التحرير صائب عريقات، قد أعلن في 11 أيلول/ سبتمبر 2011، أنّ التوجّه الفلسطيني يعتبر "بداية الخطوة وليس نهايتها"، وأنّ هناك التزاماً فلسطينياً بالمضيّ في طريق وضْع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي. كما صرّح محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية بعد عودته إلى رام الله أنه لن تكون عودة إلى المفاوضات دون وقْف الاستيطان.

يطرح هذا التوجّه تساؤلاً بشأن ما إذا كانت السلطة الفلسطينية قادرة على مغادرة المسار الثنائي مع إسرائيل، وذلك بالنظر إلى تأكيد الرئيس محمود عباس مراراً أنّ توجّهه إلى الأمم المتحدة هو خطوة في إطار المفاوضات وليس إنهاءً لها. الحقيقة أنّ الخطوة قد تكون مناورة سياسية لا تتجاوز في مداها ومعناها بنية الثقافة السياسية السائدة في عهد محمود عباس، الذي طالما أكّد وكرّر أنه لا خيارَ أمام الفلسطينيين سوى المفاوضات. فقد كان الطرف الفلسطيني يعمل طوال الوقت بمنطق البحث عن الاعتراف بأيّ ثمن، معبّراً عن استعداده لتقديم التنازلات المطلوبة فقط إذا اعترف بشرعيته دولياً. ويمكن تلخيص التغيير الأساسي الذي طرأ على الخطاب السياسي الفلسطيني مؤخّراً بتأكيد محمود عباس على ثوابت ما يسمّى الحلّ الدائم وعدم إمكانية التفاوض دون مرجعية للمفاوضات. وهذه  النبرة التي وصلت إلى حدّ رفع السقف، هي تحديداً ما جلب التعاطف والاحترام والتأييد شعبياً ودوليًّا، خلافاً للنّبرة السابقة التي أدّت إلى النفور شعبياً و تراجع المكانة دولياً.

ومن المهم الالتفات إلى أنّ المجرى الطبيعي للأمور هو تحقيق السيادة وممارستها ثم نيل الاعتراف. وتحقيق السيادة وممارستها شرط ضروري لوجود الدولة، أمّا الاعتراف فليس ضرورة وجودية للدول. وقبول العضوية (Admittance) في الأمم المتحدة لن يقيم دولة فلسطينية؛ بل يؤسّس لها قانونياً فقط، مع ضرورة التفريق بين هذه الخطوة وبين الاعتراف (Recognition)، إذ تعترف حالياً 126 دولة حول العالم بدولة فلسطين المعلَنة في الجزائر العام 1988؛ إلاّ أنّ ذلك أيضاً لم يكن ليؤسّس حقيقة قيام دولة فلسطين، لأنّ الدول لا تقام إلاّ بممارستها السيادة الفعلية في نطاق إقليم محدّد. وفي الحالة الفلسطينية فإنّ الاحتلال لا يزال قائماً، وهو ما يطرح مجدداً التساؤلات على قيادة السلطة الفلسطينية بشأن تبنّي استراتيجيات جديدة لتحقيق السيادة ما يدعم خطوتيْ الاعتراف وقبول العضوية في الأمم المتحدة، أو معاودة الجلوس على طاولة المفاوضات مع إسرائيل ولكن بمرجعيات قانونية جديدة.

لقد  كان وصول المفاوضات إلى طريق مسدود مصحوباً أيضاً بوصول خيار المقاومة في الداخل إلى وضعٍ لا يقلّ انسداداً. واقتناع السلطة الفلسطينية بهذا الانسداد، وتغيّر الأوضاع السياسية في الوطن العربي على إثر الثورات العربية، وبالأخصّ الإطاحة بنظام الرئيس المصري حسني مبارك، عمّق أزمة السلطة الفلسطينية، لكنه رفع عنها الضغوط الإقليمية وسمح لها برفع سقف خطابها السياسي، لأنّ الوضع القائم في المنطقة خلق ضغوطاً جديدة على إسرائيل والولايات المتحدة. لقد توجّه الرئيس محمود عباس في البداية إلى توقيع المصالحة مع حركة "حماس" وذلك بغرض الذهاب إلى الأمم المتحدة بحكومة وحدة وطنية، لكن المصالحة كانت شكلية، ولم يتبعها أيّ مؤشّر يدلّ على جديتها.

وقد جوبهت اتفاقية المصالحة باعتراض مباشر من حكومة نتنياهو الذي خيّر السلطة الوطنية بين "حماس" أو التفاوض مع إسرائيل. أمّا أوباما، فـقال في خطاب  19 أيار/مايو 2011 إنّ "الإعلان عن اتفاق بين (حماس) و(فتح) يطرح تساؤلاً عميقاً ومشروعاً بالنسبة إلى إسرائيل، وهو: كيف يمكن التفاوض مع طرف ليس مستعداً للاعتراف بحقّك في الوجود". وطالب القادةَ الفلسطينيين بتقديم إجابةٍ عن ذلك التساؤل. وفي خطابه بعد ذلك بثلاثة أيام، أمام مجلس العلاقات العامة الأميركية- الإسرائيلية (أيباك)، أكّد أوباما على أن ذلك الاتفاق يشكّل "عقبة كبيرة أمام السلام"، مُطالباً "حماس" بتحمّل "مسؤوليات السلام الأساسية" (كما يعرّفها: الاعتراف بإسرائيل، نبذ العنف، وقبول جميع الاتفاقيات). وفيما أكّد على حدود 1967 كأساس لحلّ الدولتين مع قبول مبدأ تبادل الأراضي، فقد حدّدهما بأنهما دولة للشعب اليهودي ودولة للشعب الفلسطيني. وأكّد مجدّدًا على ضرورة الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية في دورة  الهيئة العامّة للأمم المتحدة الأخيرة. ترافق التراجع في مواقف أوباما مع تشدّدٍ في سياسة نتنياهو الذي حظي بتأييدٍ غير مسبوق داخل الكونغرس الأميركي في 24 أيار/ مايو الماضي خلال خطابه أمام المشرّعين الأميركيين، الذي جدّد فيه رفضه التام وقف الاستيطان أو العودة إلى حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967.

عملياً، فإنّ السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لم تتّخذ خطوة التوجّه إلى الأمم المتحدة، إلاّ عندما تأكّدت أنّ أوباما غير قادر على فرض شرط تجميد الاستيطان على الحكومة الإسرائيلية أو غير راغب فيه ، وأنه لا جدوى من مواصلة المفاوضات مع إسرائيل وفق الأساليب السابقة، والتي لم تُفْض إلاّ إلى مزيد من سياسات الضمّ الاستيطاني، وتهويدٍ للقدس الشرقية، وحصار لقطاع غزة، وعزل للتجمّعات الفلسطينية في الضفة إلى كانتونات بالحواجز والجدار، وتقييد السلطة باتّفاقيات أمنية، وباشتراطات تمويلية عمّقت عجزها أمام الاحتلال.

لقد كشفت الوثائق التي سُرّبت من وحدة دعم المفاوضات الفلسطينية في نهاية العام 2010، عن حجم التنازلات التي كان الجانب الفلسطيني على استعداد لتقديمها لحكومة إيهود أولمرت (2006-2009)، إلا أنّ ذلك لم يكن كافياً لحمل إسرائيل على توقيع اتّفاق سلام نهائي، بل قامت حكومة أولمرت بنشاط استيطاني محموم، كما استغلّت واقع التفاوض مع الفلسطينيين في شنّها حربيْن على لبنان 2006 وغزة 2008. ومع مجيء حكومة اليمين المتطرف بزعامة بنيامين نتنياهو، حصلت السلطة على تعهدات من قبل إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما ومن اللجنة الرباعية للسلام في الشرق الأوسط ببدء مفاوضات سلام تؤدّي في العام 2011 إلى قيام دولة فلسطينية على أساس حلّ الدولتين، إلاّ أنّ المفاوضات لم تكد تبدأ حتى تعثرت مع مواصلة إسرائيل توسيع المشاريع الاستيطانية، وعجز الإدارة الأميركية عن لجمها.

وفي ظلّ هذه الأجواء قرّرت السلطة الفلسطينية بدعم عربي، اتّباع ما أسمته استراتيجية جديدة للمفاوضات بالتوجّه إلى الأمم المتحدة وصمدت في وجه الضغوط الأميركية المتكرّرة. قدّم عباس خطاباً مغايراً أمام الجمعية العامّة للأمم المتحدة في 23 أيلول/ سبتمبر، بلغة أكثر صرامة تتطرّق إلى مأساة الشعب الفلسطيني منذ النكبة وتصف نظام الاحتلال بـ "الابارتايد"، وإنْ ظلّت لغة التنازلات التي انتهجت منذ العام 2005 قائمة في طياتها.

لقد احتاج الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى رفع نبرة خطابه إلى حدّ رفض الضغوط الأميركية نظراً لتراكمات السنوات الماضية التي وسّعت أزمة الثقة بينه وبين الشّعب الفلسطيني، الذي تأثّر بموجة ربيع الشعوب العربية؛ هذا عدا عن قضية الانقسام الفلسطيني، وعجز السلطة الفلسطينية عن اتّخاذ مواقف فاعلة ضدّ ممارسات الاحتلال الإسرائيلي المتواصلة ضدّ الفلسطينيين، بل ومواصلتها التنسيق الأمني، حتى وصل الأمر بالدبلوماسية الفلسطينية إلى تفويت فرصة الاستفادة من توصية محكمة العدل الدولية عام (2004) المتعلقة بعدم قانونية الجدار العازل والاستيطان، واستنكافها عن تفعيل تقرير القاضي ريتشارد غولدستون بشأن إدانة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة شتاء 2008 - 2009، بل وعدم تفكيرها حتى في استغلال الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة والعمل على تحويل القرار 242 إلى قرار إلزامي عند التطبيق.

 وفي المقابل، قابلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مبادرة السلام العربية و"مبادرات حسن النية" الفلسطينية بمزيد من التوسّع الاستيطاني والتضييق والحصار على الفلسطينيين وهو الأمر الذي كان سيؤدّي في نهاية المطاف إلى انهيار ما تبقّى من شرعية للسلطة الفلسطينية.

هكذا أكّد محمود عباس بلغة واضحة أنه لن يعترف بإسرائيل دولة للشعب اليهودي (فهذا شرط جديد ولا يشكّل بأية حال جزءًا من أيّ اتّفاق)، وخاطب الدول الأعضاء في الجمعية العامة محمّلاً إياها مسؤولية إقامة دولة للشعب الفلسطيني بعد ثلاثة وستين عاماً من الصّراع مع إسرائيل، بمعنى أنّ التنازل عن 78 في المئة من فلسطين التاريخية يعدّ تضحيةً كبيرة تستحقّ من المجتمع الدولي أن يقف إلى جانب المطالب السلمية والمشروعة للشعب الفلسطيني. ولكنه كرّر تأكيده على أنّ خطوة التوجّه إلى الأمم المتحدة لا تعني خروجاً عن المفاوضات بل تغييراً لقواعدها بضرورة اعتراف إسرائيل بالدولة الفلسطينية على حدود 1967 ووقْف الاستيطان.

لقي خطاب عباس ترحيباً دولياً كبيراً كما حُشد حوله تأييدٌ شعبي فلسطيني، رغم عدم وجود إجماع فصائلي على هذه الخطوة. فقد رأت حركة "حماس" في الخطوة ترسيماً بلا مقابل لحدود إسرائيل، واعتبر رئيس حكومتها في غزة إسماعيل هنية أنّ الدول تُقام بالمقاومة والتحرير وليس "باستجداء العطف الدولي"، كما اعتبرت الحركة الخطوة تفريطاً في حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى مناطقهم الأصلية، مع أنّ مسألة التنازل عن حقّ اللاجئين كانت قد أُدرجت قبل هذه الخطوة بسنوات كثيرة، وفق صيغة "حلّ عادل" ضمن القرار 194.

يمكن اعتبار موقف قيادة حركة "حماس"، ناجمًا عن طبيعة الخصومة السياسية مع حركة "فتح" والتي تدفع باتجاه رفض أيّ مبادرة سياسية تقْدم عليها السلطة الفلسطينية.  إلاّ أنّ الحركة الإسلامية نفسها وإثر انكفائها في قطاع غزة المحاصر، ورغماً عن التحوّل السياسي الذي شهدته مصر، لا تزال تعاني من أزمة في استراتيجية المقاومة  منذ العدوان على غزة 2008-2009، وهي في الوقت ذاته غير قادرة على طرح أيّ بدائل سياسية على المستوى الإقليمي والدولي. ومن هنا ففي هذه المرحلة الصعبة ليس من مَخرج أمام السلطة في غزة وفي رام الله سوى الوحدة التي تبدأ برأينا بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بالعمل المشترك بين حركتي فتح وحماس وغيرهما. 

لقد حقّقت القيادة الفلسطينية عبر هذه الخطوة، وعلى المستوى القصير هدفيْن:

  أولاً ، تجاوز أزمة الشرعية الشعبية خاصة بعد الهزيمة الساحقة في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006، وهو ما يفسّر المماطلة في إرجاء تنفيذ اتّفاق القاهرة مع "حماس" إلى حين استجلاء نتائج هذه الخطوة. وقد يكون التجاوز هذا مؤقّتاً إذا لم تستفد السلطة من هذه الخطوة لبناء استراتيجية أكثر فاعلية تجبر إسرائيل على تقديم التنازلات.

وثانياً، ترسيخ فكرة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران/يوليو 1967، وإعادة احتضانها شعبياً، كحل مقبول رغم أنه ينتقص الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، هذا مع الإشارة إلى أنّ غالبية القوى والفصائل الفلسطينية قبلت بحلّ دولة على 22 في المئة من مساحة فلسطين التاريخية ( ولو بشكل مؤقّت في حالة حركة "حماس").

 بالنسبة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والذي أعقب خطابه خطاب الرئيس الفلسطيني، فقد وجّه من على منصّة الأمم المتحدة خطاباً إلى الجمهور الإسرائيلي أكّد فيه نفس لاءاته التي ألقى بها أمام الكونغرس الأميركي بشأن الاستيطان وحدود الدولة الفلسطينية ومواعيد محدّدة سلفاً لإتمام السلام. ومثل عباس، ارتفعت شعبية نتنياهو من 32 إلى 41 في المئة داخل إسرائيل بعد الخطاب. واستخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي لغة "مسرحية" معتادة لاستمالة الرأي العام الغربي أيضاً بضرورة التنبّه إلى الأخطار المحدقة بإسرائيل، لإبقاء المفاوضات في إطار "الأرض مقابل الأمن".

 و في الوقت الذي بدأ فيه أعضاء اللجنة الرباعية للسلام يعدّون خطّة لاستئناف المفاوضات في غضون شهر، على أنْ تستغرق سنة واحدة، أعلن نتنياهو عرضًا بلقاء عباس في نيويورك لاستئناف المفاوضات. وكان العرض بحدّ ذاته فارغَ المضمون، فهو نفسه الذي قُدّم للرئيس عباس في العام 2010. وهو اقتراح مراوغ ينمّ عن عدم استقامة. فهدفه الحقيقي كسْب الوقت وتأجيل الأزمة لا سيّما وأنّ نتنياهو أعلن بعد أيام قليلة من تقديم الطلب الفلسطيني عن بناء 1100 وحدة استيطانية في القدس الشرقية. ولئن كان هذا الموقف يعبّر عن استمرار نفس السياسة الإسرائيلية المتعنّتة، فإنه يمثّل في الظرف الحالي رداً عملياً على الإصرار الفلسطيني بالمضيّ قدماً في طلب عضوية الأمم المتحدة، بقدر ما يشكّل أيضاً تحدّياً للمنظمة الدولية وقراراتها بشأن الاستيطان بالاعتماد على الغطاء الأميركي.

وكان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قد طرح في اليوم السابق لخطابيْ عباس ونتنياهو عرضاً بقبول دولة فلسطينية دون تحديد حدودها بصفة مراقب في الجمعية العامّة لتجاوز أزمة التصويت في مجلس الأمن. يحتاج الرئيس الأميركي المثقَلة بلاده بأزمة الديون والاقتصاد المتعثر، والذي هو على أبواب انتخاباتٍ رئاسية نهاية العام المقبل، إلى دعم مراكز الضغط ومجموعات المصالح (اللوبي) الصهيونية في الولايات المتحدة.  إلاّ أنّ ذلك يضع الدبلوماسية الأميركية في موقف حرج إذا ما صوّتت بـ "الفيتو" ضدّ قرار قبول العضوية الكاملة للدولة الفلسطينية في مجلس الأمن، خاصةً مع حاجة واشنطن إلى إظهار تعاطف مع ثورات الربيع العربي بوصفها مساندة للتغيّر الديمقراطي في المنطقة وإرادة الحرية؛ وهذا ما يفسّر اللجوء إلى الضّغط على عباس منذ البداية، وإطالة المشاورات داخل مجلس الأمن. لكن حتّى بمنطق السياسة الأميركية الداخلية لا يوجد مبرّر لتبنّي الرئيس الأميركي الخطاب الصهيوني كاملاً في كلمته في الأمم المتحدة، وذلك حتى في فهم  تاريخ الصراع.

ويحظى الطلب الفلسطيني لغاية الآن رسمياً بموافقة الرئيس الدوري لجلسة مجلس الأمن - لبنان، وكل من الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.أمّا ألمانيا والبرتغال، فقد أعلنتا تأييدهما للمبادرة الرباعية بالعودة إلى المفاوضات في غضون شهر دون تحديد موقف مسبق من التصويت. وبالنسبة إلى البوسنة والهرسك والغابون ونيجيريا، فلم تحدّد مواقفها بشكل نهائي، ولا شكّ أنّ بعضها يدعم الطلب الفلسطيني؛ أمّا كولومبيا فقد رفضت القرار بسبب علاقاتها الاقتصادية مع إسرائيل، في حين تفضِّل الدول الأربع الباقية الدائمة العضوية (المملكة المتحدة، فرنسا، روسيا، الصين الشعبية) قاعدة الإجماع، رغم أنّ روسيا والصين أبْدتا رغبة في قبول عضوية دولة فلسطين.

وإلى حين استجلاء الموقف النهائي للدول فإنّ الحالة السياسية الجديدة الناشئة عن الخطوة، تضع السلطة الفلسطينية أمام أربعة سيناريوهات:

الأوّل: أنْ يسقط طلب العضوية بفعل "الفيتو" الأميركي أو بعدم حصوله على الأصوات الكافية، وهنا قد تتوجّه السلطة الفلسطينية إلى الجمعية العامّة لطلب العضوية غير الكاملة، أو تقبل بعرض الرباعية الدولية وفق نفس الالتزامات السابقة مع إسرائيل مع تغييرٍ طفيف في شروط التفاوض والذي قد تقبله إسرائيل لتجاوز أزمتها الدبلوماسية. وبذلك تكون السلطة كسبت نصراً معنوياً أمام الشارع الفلسطيني قد يحسّن موقفها فقط أمام حركة "حماس" المحاصرة، لكن العودة إلى المفاوضات بموجب اقتراح الرباعية سوف يعيد السلطة بسرعة إلى وضعها السابق الحرج.

الثاني: أن توظّف السلطة الفلسطينية حالة التأييد داخل الأمم المتحدة، بغضّ النظر عن طبيعة العضوية،  لتكوين  قاعدة  دعم  دولية تكون طرفاً ضاغطاً على الدبلوماسية الأميركية تجاه طريقة إدارة الصراع من جهة، وأن تعمل السلطة على توظيف حالة التأييد الدولي للضّغط على إسرائيل بفرض عقوباتٍ مباشرة تستهدف منْع مواصلة الاستيطان؛ أو قد يرتقي التصعيد بفرض عقوبات على إسرائيل نفسها بوصفها دولة "أبرتايد" عنصرية، من أجل إجبارها على قبول وقْف الاستيطان والتفاوض على أساس دولة فلسطينية تتطابق بشكل كبير مع حدود 1967 وضمن شروطٍ أمنيّة مقبولة للطرفين. وهي استراتيجية جديدة تتطلب القطع مع استراتيجية - بل وعقلية السلطة القائمة.

الثالث: أن تعمل السلطة الفلسطينية باتّجاهين - الاستفادة من التأييد الدولي في المفاوضات السياسية من جهة، ومن جهة أخرى إعادة بناء السلطة الفلسطينية على قاعدة إتمام المصالحة مع "حماس" والمضيّ في إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية والتزام الوحدة الوطنية، كخيار واقعي لسلطة تحت الاحتلال، بدلاً من انتخابات بلا مضمون. وهذا يتطلّب الخروج عن قواعد التبعية للتمويل الأجنبي، ووقف التنسيق الأمني بشكل كامل مع إسرائيل، والسّعي إلى استراتيجيات مقاومة متنوّعة و أكثر فاعلية وتأثيرا ونجاعة، من أجل الضغط على إسرائيل من الداخل... أي استراتيجية جديدة.

الرابع: أن تجابه السلطة الفلسطينية - بغضّ النظر عن أيّ نتيجة  يسفر عنها طلب العضوية في الأمم المتحدة - بعقوبات أميركية. وقد دعا إلى ذلك عمليا أعضاء في الكونغرس، كما طالبت به عدّة جهات نافذة في واشنطن؛  ومن بينها مسؤول ملفّ الشرق الأدنى في مجلس الأمن القومي الأميركي السابق أليوت أبرامز الذي طالب بعقوبات ماليّة قاسية على السلطة الفلسطينية بشرط أن لا تمسّ المستويات التي تتّصل بالتنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل. وفي هذه الحالة إمّا أن ترضخ السلطة وتتعمّق أزمة عباس الداخلية لصالح حركة "حماس"، أو تنهار السلطة بإعلان عباس استقالته من  رئاستها  أو بحلّ السلطة برمّتها - كونها انتهت بذلك إلى مجرد وكيل أمني للاحتلال الإسرائيلي فقط دون حتّى القدرة على إدارة مشاريع مدنيّة فلسطينية.            

من الواضح أنّ خطوة السلطة و منظمة التحرير الفلسطينية قد تفقد مفعولها وتتحوّل إلى حدث لمرّة واحدة إذا عادت السلطة إلى استراتيجيتها، وأنها تكتسب معنى فعلياً إذا اندرجت ضمن استراتيجية من نوع مختلف. وتعود الصعوبة في تخيّل ذلك إلى أنّ هذا الفعل يتضمّن تمرداً على الواقع القائم وبناه التي صلب عودها عبْر عقدين من التفاوض والارتباط المصلحي بالتنسيق الأمني والتمويل الأجنبي.