تواجه عملية الانتقال الديمقراطي في مصر تحدّيا هاما يوم السّبت 19 آذار/مارس 2011 حيث يقترع المصريون، لأوّل مرّة منذ عقود، في انتخابات حرّة ونزيهة وفي أوّل استحقاق سياسي بعد ثورة 25 يناير، وذلك للاستفتاء على مواد الدّستور التّسع التي عملت على تعديلها لجنةٌ دستورية شكّلها المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة برئاسة المستشار طارق البشري وعضويّة ستّة أعضاء (ثلاثة قضاة من المحكمة الدستورية العليا وثلاثة من أساتذة القانون الدستوري). وتتعلّق التعديلات بشروط ترشّح رئيس الجمهورية ومدّة الرّئاسة وضمانات العملية الانتخابية وقواعد إعداد دستور جديد، فيما لم تتطرّق للموادّ المتعلقة بالصّلاحيات الممنوحة للرئيس (نحو 36 مادة)، وستشكّل التّعديلات الدستورية -في حال الموافقة عليها- دستوراً مؤقّتاً يحكم المرحلة الانتقاليّة وينظّم عمليّة الانتخابات البرلمانية والرّئاسية القادمة لحين إعداد دستور جديد. أمّا في حال رفض التّعديلات فإن ذلك من شأنه أن يمدّد المرحلة الانتقالية ويشكّل تحدّياً صعباً للمجلس العسكري الذي يسعى لإقرار التعديلات لتكون بمثابة إعلان دستوري يحكم المرحلة الانتقالية وينظّم الاستحقاقات السياسية القادمة. وكان الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس العسكري يوم 13 فبراير قد عطّل العمل بالدستور الحالي المعروف بـ دستور 71 وبذلك انتقلت إليه كافة السلطات الدستورية.
وفي خطوة إجرائية وغير مسبوقة لضمان نزاهة العملية الانتخابية يصوّت المصريّون ببطاقات الرّقم القومي وليس بالبطاقات الانتخابية ويقتصر دور وزارة الدّاخلية على تأمين العملية الانتخابيّة فيما سيكون القضاء هو الجهة الوحيدة المنوط بها الإشراف على العملية الانتخابية.
يجري الاستفتاء على تعديل المواد رقم (75، و76، و77،و88، و93، و193، و148)،بالإضافة إلى إلغاء المادّة 179 وكذلك إضافة فقرة أخيرة للمادّة 189، ومادّتين جديدتين برقمي 189 مكرّر، و189 مكرر "1". أهمّها على الإطلاق الموادّ 75، 76و، و77 التي حدّدت شروط ترشيح الرّئيس وطرق ترشّحه ومدّة الرئاسة التي قُلّصت إلى أربع سنوات - بدلاً من ستّ في النّص القديم- تجدّد مرّة واحدة فقط. المادّة 88 تتعلّق بإعادة العمل بالإشراف القضائي الكامل على الانتخابات،والموادّ 189 مكرر و189 مكرر 1 اللتان حدَّدتا طريقة إعداد دستور جديد والجهات الملزمة بإعداده.
ويأتي الاستفتاء في سياق سياسي مشحون وسط حالة من الانقسام الحادّ داخل الجماعة الوطنيّة المصريّة حيث برز تيّاران أساسيّان: الأوّل تمثّله جماعة الإخوان المسلمين والمجلس العسكري الذي حثّ المصريّين على التّصويت بـ "نعم". هذا التيّار يرى أنه لابدّ من التّصويت على التّعديلات باعتبارها وثيقة دستورية مستقلّة وليس باعتبارها جزءاً من دستور معطّل وهدفها هو تنظيم انتقال السّلطة، وأنّ الظروف الحالية لا تسمح بالعمل على دستور جديد لأنّ المشكلة ليست في صياغة دستور أو كتابته وإنّما في تحقيق إجماع وطني على بنوده سيّما فيما يتعلّق بمصير المادّة الثّانية التي تنصّ على أنّ الشّريعة الإسلاميّة هي مصدر رئيس للتّشريع وشكل النظام السياسي ونسبة الخمسِين في المائة للعمال والفلاحين. ويرى هذا التيار أيضاً أنّ الدستور الجديد لابدّ أن تعدّه هيئةٌ منتخبة وليست هيئة مختارة من المجلس العسكري.
أمّا التيّار المعارض وهو يشمل تيارا عريضاً من ائتلاف شباب ثورة 25 يناير وحركة 6 أبريل وجبهة التغيير التي يرأسها محمّد البرادعي ومجموعة الأحزاب السياسية، التجمع والناصري والوفد، فهو يعتبر التعديلات التفافاً على مبادئ الثورة.
وعموماً لم توجه الاعتراضات إلى التعديلات نفسها بقدر ما وجهت ضد مالم يُعدَّل وهي الصلاحيات المنوطة برئيس الجمهورية، وقد عكست تخوّفاً مشروعاً من إعادة إنتاج النّظام الاستبدادي عبر عدم تعديل سلطات الرّئيس و اختيار المجلس العسكري الانتقائي لموادّ بعينها لتعدّل فيما تُركت صلاحيات الرئيس. وثمة خشية لدى هذا التيار من أن يكون بوسع رئيس الجمهورية الذي ستفرزه الانتخابات الرئاسية القادمة، التي يتعين حتماً إجراؤها قبل نهاية المرحلة الانتقالية، ممارسة تأثير مباشر في عمل اللجنة التأسيسية، خصوصاً بالنسبة إلى المواد المتعلقة بصلاحياته وفترة ولايته. كما أن هناك تخوّفا من أن تفضيَ الانتخابات التشريعية المبكرة إلى تقاسم كلّ من الإخوان وفلول الحزب الوطني لمقاعد الهيئة التّشريعية حيث القوى السياسية الأخرى -لاسيما قوى الثورة- مازالت لا تملك التنظيم الكافي لاجتياز اختبار الانتخابات والتخوّف أيضاً من عقد الاستفتاء في ظل استمرار حالة الانفلات الأمني وغياب الشرطة ومحاولات النظام السابق إحداث حالة من الفوضى في البلاد. ويقترح هؤلاء إصدار إعلان دستوري يتضمّن الموادّ الأساسية لإدارة شؤون البلاد لحين وضع دستور جديد وتشكيل مجلس رئاسي من مدنيَّيْن اثنيْن و عسكري واحد لإدارة شؤون البلاد خلال فترة انتقالية مدّتها ستة شهور على الأكثر، يكون من صلاحياته إصدار مراسيم بقوانين، من بينها مرسومٌ ينظم إنشاء الأحزاب السّياسية، و تشكيل لجنة من حوالي 50 عضواً من السّياسيين والمفكّرين وأساتذة القانون الدّستوري لإعداد مشروع دستور جديد كامل للبلاد خلال شهر على الأكثر.
ورغم تصاعد مطالب اللّحظة الأخيرة بالتّأجيل أو الإلغاء واستبدال الاستفتاء بإعلان مبادئ دستورية أساسيّة يستند إلى شرعية الثّورة، إلاّ أنه من اللاّفت أنّ القوى السّياسية لم تطالبْ بمقاطعة الاستفتاء بل هناك دعوات للذّهاب إلى صناديق الاقتراع وممارسة حقّ الانتخاب والتصويت بـ "لا" أو "نعم".
يأتي الاستفتاء أيضاً في وقت تزداد فيه المخاوف من وجود دلائل قويّة على ثورة مضادّة لإجهاض مكتسبات ثورة 25 يناير تقوم بها عناصر من الحزب الوطني و رجال الأعمال المرتبطين بهم وعناصر من جهاز أمن الدولة المنحلّ ووسط استمرار التّظاهرات لتحقيق مطالب فئوية وحالة أمنية غير مستقرة. هذا الأمر دفع بالمجلس العسكري لإصدار تحذير ضدّ تنفيذ مسيرات أو تجمّعات أو اعتصامات يوم التصويت على الاستفتاء مؤكّدا أنّ كلّ من يحاول التعرّض لعملية الاستفتاء أو إعاقتها "تطبَّق عليه أحكام قانون البلطجة."
هذا الاستفتاء هو بمثابة خطوة أولى على طريق مجموعة من الاستحقاقات السّياسية المتوقّعة خلال المرحلة الانتقاليّة ومنها الانتخابات التشريعية والانتخابات الرّئاسية رغم تباين الآراء حيال أيهما يجب أن يُعقد أوّلا.
وثمّة إجماع حتى بين صفوف الخبراء الدّستوريين الذين شاركوا في لجنة التعديلات الدّستورية على أنّه يجب تغيير الدّستور الحالي وليس تعديله فهو "دستور فاسد" بحسب تعبير الفقيه الدستوري إبراهيم درويش لأنّه كان معبّراً عن المناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي قبل ثورة 25 يناير، إلاّ أنّ هؤلاء يقرّون بأنّ إعداد دستور جديد يتطلّب لجنة تأسيسيّة يشكّلها برلمانٌ منتخب وليس المجلس العسكري ولن ينتهيَ عملها قبل عام كما أنّ إعداد دستور جديد من شأنه أن يفتح بابا لن يقفل للجدَل حول بعض الموادّ ذات الحساسيّة ومنها المادّة الثانية في الدستور (الإسلام دين الدّولة واللّغة العربية لغتها الرسمية والشريعة الإسلامية ومبادئ الشّريعة مصدر رئيس للتّشريع) وعلى حدّ تعبير أبي العلا ماضي أحد مؤسّسي حزب الوسط ذي التّوجّه الإسلامي فإنّ الحديث عن تغيير الدّستور "قد يفجّر المجتمع من الدّاخل."
ويدافع فقهاء الدّستور عن المادة 75 التي لاقت معارضة لكونها تركّز على ما يُعرف بـ "نقاء الجنسية" لرئيس مصر حيث اشترط التعديل ألاّ يحمل المرشّح للرئاسة أيّ جنسية أخرى غير الجنسيّة المصرية وألاّ يكون مقترنا بغير مصريّة. يقول أحد الأعضاء المشاركين إنّ اللّجنة استهدفت "تحصين المنصب" نظراً لمحوريّة الدّور الذي تقوم به مصر وكذلك أكّدوا أنّ التعديل لا يحرم المرأة من حقّ الترشّح لمنصب الرئاسة. ويدافع المستشار البشري أيضا عن التّعديل بقوله إنّ مسألة ازدواج الجنسية صادر بها أحكام من المحكمة الإدارية العليا بالنسبة إلى أعضاء في البرلمان مع العلم أنّ منصب رئيس الجمهورية أهمّ، وقانون السّلك الدبلوماسي والعسكري يمنع زواج أيّ عضو في السلك الدبلوماسي من أجنبية، والأولى أن يتمّ ذلك بالنسبة إلى رئيس الجمهورية.
وتُعتبر هذه التعديلات التي يتم الاستفتاء عليها مرحلةً أولى تليها مرحلةٌ لاحقة تتعلق بتعديل نصوص القوانين المكمّلة أو المتفرّعة عن النّصوص الدستورية التي تمّ تعديلها وهي قوانين مباشرة الحقوق السياسية، وقوانين مجلسيْ الشعب والشورى، وقانون انتخاب رئيس الجمهورية.
أمّا بالنّسبة إلى موقف جماعة الإخوان المسلمين فمن الواضح أنّ الجماعة تدفع بقوّة في اتّجاه سيناريو الموافقة من أجل المضيّ في تنفيذ بقية الاستحقاقات الأخرى وعلى رأسها الانتخابات البرلمانية ومن شأن الاستفتاء أن يُظهر -ربما لأوّل مرة منذ عقود- الكتلة الانتخابية الحقيقية للإخوان ومدى قدرتها على التأثير. كما أنّ الجماعة في سعيها لتمرير التعديلات مدفوعة بهاجس عدم تمديد حكم العسكر للبلاد والانتقال إلى وضع ديمقراطي. غير أنّ سعي الإخوان يصطدم بعدّة عقبات أهمُّها المخاوف التي عبّر عنها أكثر من تيار سياسي، ولاسيّما ثوار 25 يناير، من أن الإخوان هم من سيقطفون ثمار الثورة بالسّيطرة على الهيئة التشريعية أو تقاسمها مع فلول الحزب الوطني إن جرت الانتخابات البرلمانية وفق الجدول الزمني الذي أقرَته القوّات المسلّحة (على الأرجح حزيران/يونيو) ورغم سعْي الإخوان لتبديد مخاوف الجماعة الوطنية المصرية بالتأكيد على أنّ مبدأ الإخوان سيكون "مشاركة لا مغالبة" وأنّ الجماعة تعهّدت بأن لا تُرشّح أكثر من ثلث المقاعد (من أصل 510 ) وهي لن ترشّح أحداً في الانتخابات الرئاسية. بل إن عضو مكتب الإرشاد عصام العريان أعلن عن استعداد الإخوان لخوْض الانتخابات "بقائمة وطنية موحّدة" يشارك فيها شباب الثورة ومن يرغب من القوى السّياسية.
أمّا في حال عدم الموافقة على التعديلات الدستورية فهناك سيناريوان:
إمّا أن يتمّ تعديل موادّ أخرى (منها المواد المتعلقة بصلاحيات الرئيس) آخذين في الاعتبار ملاحظات المعارضين ثم تُعرض على الاستفتاء للمرّة الثانية.
وإمّا أن يستجيب المجلس لمطالب المعارضين بإصدار بيان دستوري ببنود معدودة يحدّد آليات إدارة الفترة الانتقالية، وصلاحيات المجلس الرئاسي المدني المزمع تشكيله وسلطاته، وتشكيل جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد، وإطلاق الحرّيات العامة والتنظيمات النّقابية.
من شأن نتائج الاستفتاء أن توضّح ما إذا كانت عمليّة الانتقال الدّيمقراطي في مصر ستُحكم عبر تعديل الدستور أم تعطيله تمامًا ووضع دستور جديد، والأهمّ أنه سيكون بمثابة مؤشّر هام لتحديد القوى التي ستشكّل عملية الانتقال الديمقراطي وتؤثّر فيها، ومعرفة أوزانها الحقيقية في صندوق الاقتراع. وفي كافة الحالات يبدو لنا أن عملية التحول الديمقراطي في مصر ما زالت في بداياتها وأن المعارك القادمة على الرئاسة وعلى السلطة التشريعية هي التي سوف تحسم هل سوف يقوم نظام حكم قائم على مبادئ الثورة أم مجرد عملية إصلاح للنظام السابق.