العنوان هنا
تقدير موقف 08 نوفمبر ، 2014

الانتخابات التشريعية التونسية ما بين قوى الثورة وقوى النظام القديم

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

مع إجراء الانتخابات التشريعيّة تكون تونس قد بدأت بالإجراءات التنفيذيّة لعمليّة التحوّل الدّيمقراطيّ التي أرسى قواعدها "ائتلاف الترويكا" الذي حكم المرحلة الانتقاليّة، وتوِّجت بدستورٍ ديمقراطيّ، وقانون انتخابات، ومجموعة من الأطر التشريعيّة لضمان التحوّل الدّيمقراطيّ. ولا يجوز أن تنسينا التفاصيل الكثيرة أنّ أسس النظام الديمقراطي قد أرسيت في مرحلة هذا الائتلاف، بما في ذلك الدستور الديمقراطي الوحيد في المنطقة العربية، ومسلكيات تداول السلطة بشكل سلمي. وتدين الانتخابات الأخيرة وحتى تشكيل "نداء تونس" ونجاحه بالفضل لهذه المرحلة التي حكم فيها حزبان علمانيان ثوريان هما المؤتمر من أجل الجمهوريّة والتكتل من أجل العمل والحريات، واللذان تحالفا مع "حركة النهضة" الإسلامية؛ ما منع الاستقطاب الديني - العلماني في مرحلة مصيرية وحاسمة من تاريخ تونس. وهو ما لم يحصل في دول عربية أخرى.

 وما زال أمام تونس استحقاق الانتخابات الرئاسيّة، وكذلك تشكيل حكومةٍ جديدةٍ، باعتبارهما محطتين رئيستين لاستكمال مؤسّسات النظام السّياسي الدّستوريّ. وإذا ما كانت المرحلة الانتقاليّة بقيادة "الترويكا" قد نجحت في إرساء قواعد النظام الدّيمقراطيّ؛ فإنّ تحدّيات إرساءِ التحوّل الديمقراطي عمليًا، وترسيخ القطيعة مع نظام بن علي الاستبدادي ما زالا بحاجةٍ إلى جهد، ويعتمد ذلك على نتائج الانتخابات التشريعيّة، وطبيعة الحكومة المقبلة، وكذلك نتائج الانتخابات الرّئاسية في ظلّ صلاحياتٍ أوسع للرّئيس حسب الدّستور الجديد.

وتُعدُّ نتائجُ الانتخابات التشريعيّة بالغة الأهميّة؛ ففي ظلّ التطوّرات المتلاحقة التي شهدتها تونس والمنطقة العربيّة، أصبح النموذج التونسيّ هو النموذج المعياريّ الوحيد للتحوّل الدّيمقراطيّ في بلدان الثّورات العربيّة، كما أنّ إجراء الانتخاباتِ بهذه السّلاسة له أهمّية خاصّة في ظلّ الاستقطاب الذي عصف بوحدة القوى الثّورية بين مُعسكرَيْ تيارات الإسلام السّياسيّ والقوى العلمانيّة من جهة، والاستقطاب بين القوى الثّوريّة وقوى النّظام السّابق والثّورة المُضادة من جهة ثانية. وفي سِياق هذه الأجواء تمّ التّعامل مع نتائج انتخابات تونس من خلال مفرداتٍ تختزل النتائج على أنّها فوزٌ لـحزب نداء تونس "العلمانيّ" في الانتخابات التشريعيّة، وهزيمةٌ لحركة النهضة "الإسلاميّة"، وهذا بحدِّ ذاته قراءةٌ خاطئة. فعلى الرّغم من أنّ نتائج الانتخابات قد أظهرت تراجعًا في عدد مقاعد النهضة؛ فإنّ عنوانها الرّئيس هو فوز تيارَيْن سياسيَيْن كبيرَيْن يُسيطران على نحو 71% من مقاعد المجلس التشريعيّ. ويُمكن لأيّ منهما أنْ يقود حكومةً ائتلافيّةً مع أحزابٍ أقلّ تمثيلًا في المجلس التشريعيّ. والواقع أيضًا أنّ أيًّا من هذَيْن التيارَيْن لم يستطع إزاحة الآخر في العمليّة الانتخابيّة، ولن يستطيع أنْ يتجاوزه بوصفه طرفًا أساسيًّا في العمليّة السّياسيّة. لقد كانت نتائج الاستّطلاعات التي رَصدت التوجُّهات الانتخابية في تونس على امتداد أكثر من تسعة شهورٍ، ومن ضمنها المؤشّر العربيّ الذي نفذه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تشير إلى أنّ التنافس بين "النداء" و"النهضة" سيكون حول من سيحصل على المرتبة الأولى من ناحية عدد مقاعد المجلس.

وكان الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات هي القوى الثوريّة المدنيّة أو العلمانيّة التي تقلَّص حجمُ تمثيلها في المجلس التشريعيّ لمصلحة "النداء" وأحزابٍ شبيهةٍ بنداء تونس؛ فقد تراجعت حصة القوى الثوريّة المدنيّة من 91 مقعدًا في انتخابات عام 2011 إلى 30 مقعدًا في انتخابات عام 2014. ولا شكَّ في أنّ عوامل عديدة مثل حالة الاستقطاب بين التيارَيْن الكبيرَيْن، ومَيْل جزءٍ من الناخبين إلى عدم إهدار أصواتهم، وتصويتهم للحزب الذي يعتقدون أنه سوف يفوز في نهاية المطاف، وتناقص أهمية التاريخ النضالي لهذه الأحزاب ضد النظام السابق بوصفه عامل جذبٍ للناخب، أدت كلها دورًا أساسيًّا في انخفاض حصتها من الأصوات. ولا يغفل هذا أنّ حالة التشظّي التي عاشتها القوى الثوريّة المدنيّة أدت أيضًا دورًا أساسيًّا في هذه الهزيمة؛ فمنذ انتخابات المجلس التأسيسيّ وميلاد "الترويكا" وصولًا إلى الانتخابات التشريعيّة، لم تستطع هذه القوى المدنيّة الثوريّة التحالف مع بعضها بعضًّا على برنامجٍ انتخابيٍّ على أُسس تحقيق أهداف الثورة وبلورة برنامجٍ مدنيٍّ. بل على العكس من ذلك، فقد دخلت في تنافسٍ وصل حدَّ الاحتراب، ما ساهم في جعلها أقرب ما تكون إلى أحزابٍ شبه مُلحقةٍ بأحد التيارَيْن الكبيرَيْن: "النداء" و"النهضة". وبناء عليه، فقدت هذه الأحزاب سِمَتها الثوريّة من دون أنْ تُحقّق مكاسبَ مدنيّةً أو علمانيّةً ملموسةً حين اقترب بعضها من "نداء تونس" سواء أكان ذلك على قاعدة القرب الأيديولوجيّ أم البرامجيّ أم البراغماتيّ السياسيّ؛ بمعنى العداء لإسلاميّة "النهضة" من ناحية وفصامها مع القوى المدنيّة الثوريّة الأخرى. وقد ساهم في تراجع هذه الأحزاب أيضًا حالة التشظّي التي عانتها أحزابٌ ثوريّةٌ علمانيّةٌ. ولعلّ أفضل مثالٍ على ذلك هو المؤتمر من أجل الجمهورية الذي تصدّع إلى ثلاثة أحزابٍ، ثم انسحاب بعض نوابه ليكونوا مستقلين أو ينضموا إلى أحزابٍ أخرى. وكان هذا حال أحزابٍ أخرى، مِثل حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي والتكتل من أجل العمل والحريات.

 وإذا ما تمَّ تجاوز تحليل النتائج على أساس قطبيّة "الإسلاميّ" و"العلمانيّ"؛ أي تحليلها على أساس قوى ثوريّة وغير ثوريّة، فسيتّضح أنّ القوى الثوريّة المدنيّة خسرت أكثر من 60 مقعدًا في هذه الانتخابات، مقارنةً بانتخابات عام 2011 نتيجةً لتراجع حصة المؤتمر، والتكتّل، والمسار، ولم يعوض ارتفاع حصة الجبهة الشعبيّة هذه الخسارة. وإذا تمّ تحليل النتائج أيضًا على أساس أحزابٍ ذات إرثٍ نضاليٍّ ضدّ النظام السّابق (سواء أكانت إسلاميّة أم علمانيّة) وأحزابٍ ليس لها إرثٌ نضاليّ أو أنّها تُصنف بوصفها وريثةً للتّجمع الدستوري أو تجمع لقيادته السابقة، فقد انخفضت حصة الأحزاب الثوريّة المناضلة ضد النظام السّابق من 180 مقعدًا في انتخابات 2011 إلى 100 مقعدٍ في انتخابات 2014. كما ارتفعت حصة الأحزاب التي ليس لها إرثٌ نضاليٌّ ضدّ النظام السّابق، والتي يمكن أنْ تُمثّل إرث النظام السّابق، من 20 مقعدًا إلى أكثر من 100 مقعدٍ (حصة النداء والأحزاب القريبة منه)، مع وجود كتلةٍ تُمثّل بين 15-17 مقعدًا لقوائم لا تُحسب على أحد التصنيفَيْن السابقَيْن.

وإذا كانت نتائج الانتخابات تُعبّر عن سيطرة "النداء" و"النهضة" على معظم مقاعد المجلس التشريعيّ، مع انخفاض حصة الأحزاب الثوريّة المدنيّة مقارنة بانتخابات 2011، وارتفاع حصة الأحزاب التي تُصنف على أنّها تحمل إرث التجمّع والنظام السابق أو غير الثورية على الأقل، فيبقى السّؤال قائمًا: لماذا فاز "النداء" ومن ثمّ القوى التي يُمكن أنْ تُصنف على أنّها استمرارٌ "محسّنٌ" للنظام السابق بأكبر عددٍ من مقاعد المجلس؟ ولماذا تراجعت الأحزاب الثوريّة؟


تغيّر محددات التصويت في انتخابات تونس 2014

 ممّا لا شكّ فيه أنّ النتائج تعكِسُ حدوث تغيّراتٍ على صعيد محدّدات التصويت لدى التونسيّين، كما أنّ هنالك مُعطياتٍ مهمّةً تفيدنا بالكيفية التي ينتخب بها التونسيّون، ومن أهمّها العوامل التي أوردها المستجيبون في استطلاع المؤشّر العربي لعام 2014 في تونس، بوصفها عوامل محدّدة لتصويتهم. فقد أظهر أنّ أغلبيّة الناخبين التونسيّين تركّز على مجموعةٍ من سِمات قيميّةٍ وأخلاقيّةٍ للمرشحين أو قادة القوائم، مِثل: الصدقيّة والنزاهة والجديّة على حساب النقاط البرامجيّة للقوائم. أمّا الاستثناءات؛ فهي أنَّ نحو 20% من التونسيّين أفادوا أنّهم ينتخبون قوائم وأحزابًا لديها القدرة والكفاءة على إدارة الدّولة، كما أنّ نحو 15% أفادوا أنّهم سيصوتون لأحزابٍ يعتقدون أنّها تُحسّن الأوضاع الاقتصاديّة في البلاد. وأفاد 5% أنّهم سيصوتون للأحزاب التي تضمن الأمان والأمن والاستقرار والنظام في البلاد، و7% أفادوا أنّهم سيصوتون لقوائم تُنهي التميّيز بين التونسييّن أو بين الجهات المختلفة. وبلغت نسبة الذين أفادوا أنّهم سيصوتون لأحزابٍ تعمل على القطيعة مع النظام السّابق أو تضمن التحوّل الدّيمقراطيّ أقلّ من 1%.

 إنّ محدّدات السلوك الانتخابي في عام 2014 تكاد تكون مختلفةً تمامًا عنها في عام 2011؛ إذ ركّز التونسيون في استطلاع المؤشّر العربي 2011 على أنّهم سوف ينتخبون الأحزاب والقوائم التي تعمل على إرساء النظام الدّيمقراطيّ، والقطيعة مع الاستبداد ومحاسبة النظام السّابق، والعدل والمساواة، ومحاربة الفساد الماليّ، والحفاظ على الهُويّة العربيّة والإسلاميّة لتونس، إضافة إلى تحسين الوضع الاقتصادي.

ويجدُ هذا التحوّل في محدّدات السلوك الانتخابي أيضًا ما يُعزّزه من أنّ أولويّات التونسيّين، كما ظهرت في استّطلاع المؤشّر العربيّ 2014 في تونس، كانت تتركز على غياب الأمن والأمان وعدم الاستقرار السياسي بنسبة 37% من المستجيبين، وكذلك سوء الأوضاع الاقتصاديّة بنسبةٍ مُشابهةٍ. فيما كانت نسبة الذين ذكروا كلًا من: محاربة الفساد الماليّ والإداريّ، والتحوّل الدّيمقراطي كأولويّات أقلّ من 4%. إنّ عدم الاستقرار الذي سيطر على المنطقة العربية بصفة عامة، وفي الجوار التونسيّ (ليبيا ومصر) بصفة خاصّة، إضافةً إلى العمليّات الإرهابيّة والاغتيال السياسي التي شهدتها تونس والاستغلال الحزبي لها، وكذلك حالة عدم الاستقرار السّياسيّ التي سادت في النصف الثاني من عام 2013 وحتى نجاح الحوار الوطنيّ، عزّزت كلها تغيّر أولويّات التونسيّين. كما أثّرت في العوامل المحدّدة لتصويتهم، ليركّز أغلبهم على جوانب قيميّةٍ، مع أنها ضبابية من الناحية السّياسيّة، ولتصبح المعايّير الأساسيّة للانتخاب هي تحقيق الأمن والاستقرار بشكل رئيس ثمّ سوء الأوضاع الاقتصادية، وليس مواقف القوى من النظام الاستبداديّ السابق ومُمارساته كما كان الحال في 2011. وبناء عليه، صوّت الناخبون التونسيون للقوى السّياسيّة التي اعتقدوا بأنّها سوف تحقّق لهم حلولًا لهذه المُعضلات.

وممّا لا شكّ فيه أنّ "نداء تونس"، والذي وُلد أساسًا ليكون حزبًا يُواجه حركة النهضة الإسلاميّة على أسسٍ أيديولوجيّة وكحامٍ "لهوية المجتمع التونسيّ المدنيّة"، ركّز في ظل تتابع العمليات الإرهابيّة والاغتيالات السّياسيّة على أنّ هذه العمليات تعكِس تقاعس الدّولة، وترهل جهازها الأمنيّ، وأنّه هو الحزب الأكفأ لإدارة الدّولة، ومن ثمّ فإنه سيعيد الأمان والنظام إلى تونس بناء على خبراتٍ رئيسه السّياسية والأمنيّة والإداريّة في العهد البورقيبي، وفي بداية عهد بن علي، وكذلك خبرات قادته مرشحي قوائمه.

وفضلًا عن التغيّرات في المحدّدات الانتخابيّة التي استفاد منها "النداء" والأحزاب المثيلة له، فقد أثّر ارتفاع نسبة العزوف عن التصويت في انتخابات 2014 مقارنةً بانتخابات 2011 في انخفاض نسبة ما حصلت عليه الأحزاب الثوريّة المدنيّة بصفةٍ خاصّة. لقد ساد شُعورٌ بأنّ الصّراع السّياسي الذي ساد في عام 2013 وتوّج بتنازل "الترويكا" عن الحكومة هو صراعٌ حزبيٌّ مَحض ولم يكن من أجل المصلحة الوطنيّة التونسيّة. وبناء عليه؛ فإنَّ المشاركة في انتخاباتٍ تتنافسُ فيها الأحزاب المتصارعة ذاتها لن تأتي بحزبٍ يمكن أنْ يُمثّل طموحات المواطنين في معالجة همومهم اليوميّة. كما ساهم في هذه اللامبالة الانتخابيّة والسّياسيّة اقتناع المواطنين بأنّ التنافس منحصرٌ بين "النداء" و"النهضة"، وسيُحسم لا محالة بفوز أحدهما؛ ما رفع نسبة الذين كانوا يعتقدون أنّ أصواتهم لن تؤثّر في الانتخابات. وقد عَظّم من هذا الشعور عدم قدرة القوى المدنيّة الثوريّة على التحالف في ما بينها، وعدم القدرة على إقناع الناخبين بإمكانيّة المنافسة على حصة مؤثّرة من مقاعد المجلس.


النتائج تعبّر عن انقسام اقتصادي اجتماعي بأبعاد جهوية

إذا ما كان التغيّر في العوامل المؤثّرة في السلوك التصويتيّ للناخب التونسيّ يساهم في إدراكٍ أفضلَ للنتائج؛ فإنّ قراءةً تفصيليّةً لحصص الأحزاب التونسيّة من أصوات المقترعين، ومنها "النداء" و"النهضة"، يمكن أن تلقي الضوء على نتائج الانتخابات من زاويةٍ أخرى. فعند مراجعة ما حصلت عليه الأحزاب في كلّ دائرةٍ من دوائر البلاد داخل تونس، يتّضح أنّ هنالك ثلاثة أنماطٍ لتوزيع الأصوات هي:

النّمط الأوّل: فوز "النداء" أو "النهضة" في عشر دوائر انتخابيّةٍ مع فوارق تراوح بين 5% إلى 15% من القوّة التصويتيّة في كلِّ واحدةٍ من هذه الدّوائر لمصلحة أحد التيارَيْن. فحتى عند فوز أحد التيارَيْن بالحصة الأكبر من الأصوات؛ فإنّ التّيار الثاني يعدّ منافسًا ذا حضورٍ شعبيٍّ ملموسٍ؛ أي ثمة انقسام في هذه الدوائر بشكلٍ شبه متوازنٍ بين التيارَيْن. وهذه الدّوائر الانتخابيّة هي: (صفاقس 1، وصفاقس 2، ومنوبة، وزغوان، وسليانة، وسيدي بوزيد، وجندوبة، وتونس 1، وبن عروس، والقصرين).

النّمط الثاني: حصول "النداء" على كتلةٍ تصويتيّةٍ تصل إلى نحو نصف الناخبين أو أكثر في ثماني دوائر انتخابيّةٍ. وينطبق هذا في المناطق الساحلية؛ إذ فاز النداء بأغلبية أصوات ولايات المهديّة، والمنستير، وسوسة، وكذلك بأغلبيّة أصوات دائرة ولاية نابل (تصنف بوصفها وطنًا قبليًّا) وتُمثّل جغرافيًّا امتدادًا للساحل التونسيّ. كما حصل على أغلبية تونس 2، وإريانة، والكاف. ويعني هذا أنّ القاعدة الشعبيّة للنداء تتركّز في: الولايات الساحلية، ونابل، وجزءٍ غير يسيرٍ من تونس الكبرى. وهذا يعني أنّ الولايات التي كانت تُمثّل ولايات الحظوة في أنظمة ما قبل الثورة أو الأكثر ثراءً هي قاعدة "النداء" التصويتيّة.

النّمط الثالث: حصول "النهضة" على نحو نصف الناخبين أو أكثر في سبع دوائر انتخابيةٍ هي: قابس، والقيروان، ومدنين، وتوزر، وقبلي، وتطاوين، وقفصة. بمعنى أنّ أغلبيّة مواطني هذه الولايات الجنوبيّة والداخليّة قد منحت أصواتها لـ "لنهضة". وبناء عليه، فإنّ هناك قاعدةً شعبيّةً واسعةً لحركة "النهضة" في هذه الولايات التي كانت تُعدُّ مُهمّشةً خلال أنظمة ما قبل الثّورة، وهي التي عادةً ما تقود شعارات تجسير التميّيز التنمويّ والاقتصاديّ أو إلغائه بين الولايات.

وتعكِسُ قراءة هذه الانتخابات تقسيمًا جهويًّا غاية في التعقيد والخطورة؛ إذ إنّ الناخبين رجّحوا كفة تيارٍ على حساب آخر ليس بفعل عوامل مرتبطة بالتكوين الاجتماعيّ والثقافيّ لهذه الجهات فحسب، بل أيضًا كان ترجيحهم لكفة تيارٍ مرتبطٍ بالبناء الاقتصادي والاجتماعي المُتباين بين هذه الجهات من ناحية، وبأولويّات الجهات المختلفة، وتقاطعها مع البرامج التي يطرحها كلّ من هذيْن الحزبيْن، وثقتها بأنّ أحد التياريْن هو الأقدر على التّعامل مع الأولويّات، من ناحية ثانية.

ويشير هذا الانقسام إلى استمرار صيرورة الفرز بين الجهات والولايات الذي بدأ مع الاستقلال، وبقي لاحقًا، وعنوانه الأساسي التميّيز بين الجهات من ناحية المعدلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة مع ما يمكن أن تُظهره من سِماتٍ ثقافيّة. ويعني ذلك أنّه استمرار للكيفيّة التي تكوّنت بها الدّولة التونسيّة الحديثة وتطوّرت منذ الاستقلال من تميّيزٍ وتمايزٍ لمصلحة جهةٍ على حساب أخرى، والذي قاد، مع عوامل أخرى أهمّها الاستبداد، إلى الثّورة التونسيّة.

ويمكن أن يظهر الثقل الانتخابيّ على الأساس الاقتصاديّ والاجتماعيّ بجلاء من خلال ما أظهرته نتائج دوائر تونس؛ ففي حين أنّ فوز "النداء"، وبفارق أصواتٍ كثيرةٍ في تونس 2 عن "النهضة"، هو تعبيرٌ عن انحياز أحياء الطبقة الوسطى والعليا في تونس 2 مِثل قرطاج والمرسى وحلق الوادي والمنار والمنزه إلى النداء، مقابل الأحياء الشعبيّة، مِثل العمران وابن خلدون التي صوّتت لمصلحة النهضة. وينسحب هذا على نتائج انتخابات تونس 1 وإريانة وحتى بن عروس؛ أي الدوائر الانتخابيّة التي تتشكّل من أحياء شعبيّةٍ من الفئات الوسطى المتديّنة والفقيرة، وأيضًا أحياء الطبقتين الوسطى والعليا. وفي السّياق نفسه، يُمكن دراسة دائرتَيْ: صفاقس الأولى والثانية؛ إذ حصل "النداء" على أصوات أعلى من "النهضة" في صفاقس 2 التي تتركز فيها الأحياء والضواحي الأكثر ثراءً، في حين حصلت "النهضة" على أصوات أعلى في صفاقس 1 التي تضم الأحياء الشعبيّة والتخوم الريفيّة.

يمكن ملاحظة هذا الانقسام عند مراجعة القوة التصويتية للأحزاب الأقل تمثيلًا أيضًا؛ فعلى سبيل المثال، حصلت الأحزاب غير الثوريّة أو التي تُمثّل استمرارًا - بشكلٍ أو آخر - للنظام السّابق أو التي ظهرت تنافس "النداء" على إرث "التجمّع الدّستوري" على أصواتٍ أعلى في الولايات السّاحلية ونابل ودائرة تونس 2 وإريانة وبعض ولايات الشّمال الغربيّ؛ أي أنّ قوتها التّصويتيّة تتركّز في الولايات التي يُمكن أنْ تعدّ مناطق الحظوة في ظلّ أنظمة ما قبل الثّورة، في حين كان الانحياز للتّيارات الثّورية والمدنيّة التي استندت في شرعيّتها إلى إرثها النّضالي ضد نظام بن علي الاستبداديّ في الجهات الأقلّ حظًا التي كانت تُمثّل الهامش في دولة ما قبل الثّورة. والجدير بالملاحظة، أنّ بعض الولايات التونسيّة المُهمشة أعطت الفرصة لقوائم محليّةٍ لتفوز بمقاعد أو عددٍ من الأصوات؛ تعبيرًا عن انحيازها لبرنامجٍ محليٍّ خاصٍّ يُعزّز من مكاسبها الجهويّة، كما يظهر من نتائج قفصة، وقابس، وتوزور. ويعكس هذا مرةً أخرى حالة الانقسام الخطرة التي يُمكن أنْ تُعزّز في ظلّ ما ستؤول إليه الانتخابات الرّئاسية المقبلة.

وإذا كانت نتائج الانتخابات تُعبّر عن انقسام اقتصاديّ اجتماعيّ يتماهى مع تقسيم جهويّ أو إقليميّ يمكن البحث فيه عن امتدادات ثقافيّة وأبعادٍ لهُوية فرعيّة، وسواء أكان هذا الانقسام مرتبطًا بجذور تاريخيّة منذ معركة الصّراع مع الاستعمار بين التّيار البورقيبي والتّيارات الأخرى، أم بمستويات التديّن والمحافظة الاجتماعيّة، أم بأنماطٍ معيشيّة أقرب للرّيف والحضر، فسوف يكون لتشكيل الحكومة المقبلة أثرٌ مهمٌّ في العمليّة السّياسية وفي إرساء التحوّل الدّيمقراطي. فتشكيل حكومةٍ يقودها "النداء" والأحزاب السّياسية التي تُعدّ امتدادًا لإرث النّظام السّابق مع استثناء "النهضة" أو القوى المدنيّة الثوريّة، سيجعل عمليّة التحوّل الدّيمقراطيّ أصعب، والميل إلى السلطويّة في النظام السّياسي للحكم الجديد أكثر سهولةً؛ لأن الخبرات الطويلة لقادة "النداء" في إدارة الدّولة ومعرفة أجهزتها البيروقراطيّة الأمنيّة والمدنيّة سيكون لها أثرها في هذا المجال. إنّ تشكيل حكومة يقودها "النداء" عمادها دعم أحزابٍ صغيرةٍ؛ أي ليست حكومة ائتلاف واسعة، من شأنه إقصاء قوى سياسيّة خارج لعبة الحكم وهي تستند إلى قوةٍ تصويتيّةٍ كبيرةٍ وقواعدَ اجتماعيّةٍ واسعةٍ تتركّز في جهات وولايات محدّدة؛ ما يعني قدرة الأخيرة على القيام بتعبئةٍ جماهيريّةٍ كبيرةٍ في ولايات متعدّدة ضد هذا الحكم الجديد، وبخاصة في ظلّ سيادة شعورٍ لدى هذه الجهات مفاده أنّها - نظرًا لعدم وجود حزبها المُفضل في الحكم - ستكون عرضةً لتهميشٍ جديد مُورس عليها في فتراتٍ سابقة ممتدّةٍ، وكانت الثورة بوابةً لإنهائه. ويمكن أن يكرر تهميش هذه الجهات سياسيًا سيناريوهات شبيهة باعتصامي القصبة 1 والقصبة 2؛ حين شعر أبناء الولايات الجنوبية والداخلية في لحظة مفصلية أنّ الثورة على وشك أن تسرق منهم. وإذ كان سيناريو تشكيل الحكومة بقيادة "النداء" مع أحزابٍ قليلة التمثيل سيقود إلى حالة استقطاب، فإنّ تشكيل الحكومة بقيادة "النهضة" باستثناء "النداء" سيقود إلى المُعضلة نفسها.

ومن شأن مسارات الانتخابات الرّئاسية أنْ تُعقّد الأمر بشكل أكبر؛ إذ ينطوي فوز "النداء" برئاسة تونس على مخاطرة دخول البلاد نفق هيمنة الحزب الواحد على مؤسّسات الدّولة الدّستورية حتى في ظلّ وجود حكومة ائتلافٍ حزبيٍّ واسع. ويأتي ذلك من تمتع الرّئيس بصلاحيّات وسلطات أكبر من تلك الممنوحة له في ظل المرحلة الانتقالية وحتى الآن. كما أنّ تشكيل حكومة ائتلافٍ حزبيٍّ موسّع أو ائتلافٍ حزبيٍّ ضيقٍ بقيادة "النداء" سيركّز السلطة في يدي "النداء" الذي جاء إلى الحكم على قاعدة الحفاظ على الأمن والاستقرار وإعادة الهيبة للدّولة وأجهزتها. وقد يبطئ ذلك التحوّل الدّيمقراطيّ، وربما يعطّله عبر فتح مساحاتٍ واسعة يمكن من خلالها تعطيل فصل السلطات، وتفعيل أساس الرّقابة فيها، وإضعاف دور سِيادة القانون.

 إنّ السّيناريو الأفضل لتونس اليوم أنْ يكون رئيس الجمهورية ممثلًا للقوى الثوريّة المدنيّة المستندة في شرعيّتها إلى تراث نضاليٍّ ضدّ استبداد بن علي؛ الأمر الذي يُمكّن مؤسّسة الرّئاسة من تحقيق نوع من التوازن، والرّقابة المتبادلة مع حكومة يقودها "النداء" (حتى لو تحالف مع "النهضة")، ومع مجلس تشريعيٍّ يقع تحت سيطرة هذيْن التياريْن. ومن شأنّ هذا السيناريو أيضًا التخفيف من حدّة الصّراع السياسي العميق بين هذَيْن التيارَيْن.