مقدمة
حينما جرى إقرار نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998 (أصبح نظام المحكمة نافذًا في 1 تموز/ يوليو 2002)، لم يخطر على بال كثيرين أنه سيأتي وقت يسري فيه هذا النظام على المسؤولين الإسرائيليين، ويضعهم تحت طائلة المحاسبة على الجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين في الأرض المحتلة منذ عام 1967،
لا سيما قطاع غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، خاصة أنّ إسرائيل ليست دولةً طرفًا في نظام المحكمة؛ إذ انصبت جهود المدافعين عن حقوق الإنسان آنذاك على استخدام الولاية القضائية العالمية لحمل الدول على ممارسة اختصاصها القضائي من أجل مساءلة القادة الإسرائيليين ممن يشتبه في ارتكابهم جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، في الأرض الفلسطينية المحتلة.
عندما شرعت منظمات حقوقية فلسطينية ودولية في تقصّي سُبل مقاضاة المحكمة سياسيين وعسكريين إسرائيليين للاشتباه في ضلوعهم في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في حق الفلسطينيين، خلصت إلى ضرورة انضمام فلسطين إلى نظام المحكمة؛ لأن الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، ستستخدم حق النقض "الفيتو" لإفشال أيّ محاولة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في استخدام صلاحياته وفق المادة 13 (ب) من نظام المحكمة لإحالة ملف فلسطين إليها حتى تمارس اختصاصها على الأرض الفلسطينية المحتلة. وبانضمام فلسطين إلى نظام المحكمة، في 2 كانون الثاني/ يناير 2015، أُرسيت الأسس لاختصاص المحكمة المتعلقة بالنظر في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ومن ضمنها جريمة الإبادة المرتكبة على الأرض الفلسطينية المحتلة، لتعلن المدعية العامة للمحكمة آنذاك، فاتو بنسودا، في 3 آذار/ مارس 2021 عن فتح تحقيق في الوضع في فلسطين، وهو الأمر الذي قوبل بتهديد رئيس الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية "الموساد"، يوسي كوهين، إيّاها مباشرةً؛ لثنيها عن قرار التحقيق.
وبعد انقضاء أكثر من 410 أيام على حرب إسرائيل الانتقامية ضد قطاع غزة، أصدرت الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية، في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، أوامر قبضٍ ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المُقال يوآف غالانت، وذلك بعد مرور 6 أشهر على إعلان المدعي العام للمحكمة، كريم خان، في 20 أيار/ مايو 2024، عن تقديم طلبات إلى الدائرة التمهيدية؛ من أجل إصدار أوامر القبض ضدهما لضلوعهما في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تجاه الفلسطينيين، وخصوصًا في قطاع غزة. وأصدرت الدائرة التمهيدية أمرَ قبضٍ ضد القائد العام لكتائب عز الدين القسام (الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس") محمد دياب إبراهيم المصري (المعروف باسم "محمد الضيف")، في حين وافقت على إسقاط طلب القبض على يحيى السنوار، رئيس حركة حماس في غزة، وإسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي في الحركة، بعد تأكيد وفاتهما.
عبّرت غالبية الدول الأطراف في نظام المحكمة (124 دولة) عن التزامها بتنفيذ القرار على نحو يتوافق مع التزاماتها الناشئة عن نظام المحكمة، حتى إنّ قادة بعض الدول أعلنوا أنه سيتمّ اعتقال نتنياهو وغالانت في حال دخولهما أراضي دولهم، في حين شَنّ المسؤولون الإسرائيليون هجومًا حادًّا على القرار والمحكمة، وحذى معظم المسؤولين الأميركيين حذوهم، إلى حدّ إطلاقهم تهديدات ضد قضاة المحكمة باستخدام العقوبات ضدهم، وكذا الوعيد بعقوبات قاسية ضد الدول التي تتعاون مع المحكمة.
تستعرض هذه الورقة كفاح المدافعين عن حقوق الإنسان منذ أكثر من عقدين من الزمن في سبيل مقاضاة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة أمام المحكمة الجنائية الدولية؛ لمنع الإفلات من المحاسبة، ولتحقيق العدالة للضحايا. وتناقش الورقة التبعات المحتملة لأوامر القبض الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت. وتناقش كذلك الآفاق المتاحة لمحاسبتهما بشأن تهمة الضلوع في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في حق الفلسطينيين، خاصة في قطاع غزة الذي ما زال سكانه الفلسطينيون، حتى الوقت الراهن، يتعرضون لحرب انتقامية مستمرة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.