العنوان هنا
مقالات 15 نوفمبر ، 2011

خريطة سياسية جديدة في تونس تُمهِّد لأخرى في غضون سنة

رشيد خشانة

كاتب وإعلامي تونسي، يعمل صحفيا في قناة "الجزيرة"، مسؤول عن قسم المغرب العربي.

أسفرت انتخابات الجمعية التاسيسية التي أجريت في تونس في الثالث والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، عن مشهد سياسي فاجأ غالبية المراقبين، بسبب حجم المقاعد التي حصدها التيار الأصولي، وتراجع الأحزاب اليسارية، وعودة فلول الحزب الحاكم السابق، تحت مسميات جديدة. اتسمت الخارطة الجديدة بالتعقيد بالنظر لطبيعة القانون الإنتخابي، المتكئ على قاعدة النسبية، والذي ساعد الأحزاب الصغيرة على الفوز بمقعد أو مقعدين، ما أدى إلى تعايش أكثر من عشرين حزبا تحت سقف الجمعية التأسيسية، من أصل نحو ثمانين حزبا شاركت لوائحها في الإقتراع. غير أن هذه الخارطة المعقدة محدودة- نظريا- بسقف زمني لا يتجاوز سنة واحدة، طبقا لوثيقة وقعت عليها الأحزاب الممثلة في الجمعية التأسيسية قبل أسابيع من إجراء الإنتخابات، وأكدت أنها مازالت متمسكة بفحواها بعد انطلاق أعمال المجلس التأسيسي يوم 22 تشرين الثاني / نوفمبر 2011.


أحزاب قديمة تتجدد

محت نتائج الإنتخابات غالبية الأحزاب التي كانت تسيطر على حصة المعارضة في برلمانات نظام زين العابدين بن علي (1987 - 2011). وكان بن علي خصص 20 في المئة من مقاعد البرلمان لستة أحزاب توصف بالـ"ديكورية"، وهي: حزب الوحدة الشعبية (تأسس في 1981) والإتحاد الديموقراطي الوحدوي (تأسس في 1988) وحركة الديموقراطيين الإشتراكيين (تأسست في 1978) و"الحزب الإجتماعي التحرري" (تأسس في 1988) وحركة التجديد (تأسست في 1993 على أنقاض الحزب الشيوعي) وحزب الخضر للتقدم (تأسس في 2008). وتمثل قوس المعارضة الحقيقية طيلة العقدين اللذين حكم خلالهما بن علي بخمسة أحزاب، بعضها حصل على إجازة العمل القانونية، وبعضها ظل محظورا، وهي: "حركة النهضة" (تأسست في 1981) و"الحزب الديموقراطي التقدمي" (تأسس في 1983) و"التكتل الديموقراطي من أجل العمل والحريات" (تأسس في 1994) و"حزب المؤتمر من أجل الجمهورية" (تأسس في 2001) و"حزب العمال الشيوعي" (تأسس في 1986). ويمكن القول: إن هذه الأحزاب التي كانت في الظل لدى سيطرة "التجمع الدستوري الديموقراطي" الحاكم (تأسس في 1988 على أنقاض حزب بورقيبة) على الحياة السياسية، طيلة نحو ربع قرن، هي التي تصدرت اليوم المسرح السياسي بدرجات متفاوتة.

ويبدو أن التونسيين عاقبوا الأحزاب المؤيدة لبن علي فمسحوها من الخارطة، عدا حزبين هما "حركة التجديد" التي حصدت خمسة مقاعد (وهو تقريبا عدد المقاعد التي كانت من حصتها في البرلمانات السابقة)، بعد تحالفها مع جماعات صغيرة من أقصى اليسار في إطار "القطب الديموقراطي الحداثي"، و"حركة الديموقراطيين الاشتراكيين" (التي كانت حزب المعارضة الرئيسي في السبعينات والثمانينات قبل أن يُدجنها الحكم)، والتي لم تفز سوى بمقعدين، على رغم استبدال قيادتها الموالية لبن علي بقيادة جديدة.


مُخاتلة "تَجمُّعية"

معنى ذلك أنّ الخارطة القديمة لم تُمح تماما، فالأحزاب الستة الأولى في الجمعية التأسيسية كانت موجودة من قبل. أما الحزب الحاكم السابق "التجمع" الذي تم حظره بعد الثورة فعاد بأسماء مستعارة. وأول العناوين الجديدة التي  حملها هو "العريضة الشعبية من أجل الحرية والعدالة والتنمية" التي قادها في البداية الإعلامي الهاشمي الحامدي المقرب من بن علي، قبل أن تنقلب عليه غالبية النواب الفائزين وتتبرأ منه.

ويمكن اعتبار الإختراق الذي حققته هذه القوة السياسية بكونه أبرز مفاجآت الانتخابات، إذ كانت لوائحها "المستقلة" لا تختلف عن مئات اللوائح الأخرى المتمردة على العناوين الحزبية، إلا أنّها باتت تحتل الرتبة الرابعة في الجمعية التأسيسية. وكان المراقبون يترصدون الأحزاب الناشئة بعد الثورة، لكي يلتقطوا العنوان الذي سيأتي من نافذته أنصار الحزب الحاكم السابق، خاصة بعدما تقرر حظر الترشيح على الآلاف ممن تولوا مسؤوليات في العهد السابق، إن في جهاز "التجمع" أم في حكوماته والبرلمانات التي كان يسيطر عليها. وتعذر على مسؤولين سابقين في نظام بن علي، أسوة بوزير الخارجية الأسبق كمال مرجان (مؤسس حزب المبادرة) ووزير الداخلية الأسبق محمد جغام (مؤسس حزب الوطن)، الترشيح للإنتخابات وقيادة لوائح أحزابهم في المعركة الانتخابية بسبب هذا الحاجز. ولوحظ أن الأحزاب المتناسلة من "التجمع"، والتي اشتُقت أسماء أكثريتها من عبارة "الدستوري"، لم تفز سوى بمقعد واحد أو مقعدين، عدا "حزب المبادرة" الذي حصد خمسة مقاعد، وأتى متعادلا مع الحزب الشيوعي العريق... في طبعته الجديدة.

واجه العقل المفكر لـ"التجمع" عقبة التشرذم التي حولت الحزب، الذي كان يزعم أنه يضم مليونين وأربع مئة ألف عضو، إلى دكاكين متنافسة، لكن ظهورها لم يكن خاضعا على الأرجح إلى قرار مركزي. ولا يُعرف من هو العقل المدبر للحزب حاليا، لكنه اهتدى إلى طريقة أتاحت له الالتفاف على الحاجز القانوني باعتماد الحيلة التي لجأت إليها "حركة النهضة" في أول انتخابات أجريت في 1989 بعد خمسة عشر شهرا من وصول بن علي إلى سُدَّة الرئاسة، أي ترشيح أعضائها على لوائح المستقلين. ومن ضمن مئات اللوائح المستقلة أرست قيادة "التجمع" على وجه إعلامي كان مدافعا عن بن علي، لكي تخوض الانتخابات تحت العنوان الذي صنعه: "العريضة الشعبية"، من دون أن يرتاب أحد بهوية تلك اللوائح. وعلى عكس الانطباع الأول لم تكن "العريضة" نوعا من الفطريات، إذ سرعان ما اكتشفت "الهيأة العليا المستقلة للانتخابات" أنّ وجوها كثيرة من المرشحين على تلك اللوائح، مسؤولون محليون سابقون في "التجمع"؛ فألغت لائحة باريس، ثم ألغت لوائح إضافية لدى فرز الأصوات، وحاولت إلغاء نحو عشر لوائح أخرى بعد الإعلان عن النتائج، غير أنّ الأوان كان قد فات. على هذا الأساس يمكن أن ندرك، إذا ما جمعنا الأصوات التي حصدها "التجمع" بعنوان "العريضة" أو "المبادرة" أو عناوين أخرى، أنه يسيطر على ما لايقل عن 27 مقعدا ما يُبوِّؤه المركز الثالث في الجمعية التاسيسية، وهو سيناريو شبيه بالمصير الذي أبصرته الأحزاب الشيوعية السابقة في أوروبا الوسطى والشرقية بعد الانتقال إلى الديموقراطية.  


إخفاق الحركات الأيديولوجية وبروز الوسط

في مقابل تلك العودة المُخاتلة للحزب الحاكم السابق، لوحظ إخفاق شامل لمعارضيه العقائديين، إذ عجزت الأحزاب الماركسية والناصرية والبعثية والماوية عن الفوز بأكثر من مقعد أو مقعدين، (عدا "حزب العمال الشيوعي" الذي حصد ثلاثة)، بالرغم من أنّ أجيالا متعاقبة تداولت على قيادتها في عهدي بورقيبة وبن علي وقدمت تضحيات كبيرة.

وسيطرت أحزاب الوسط على المشهد من خلال ثلاث تشكيلات هي "الديموقراطي التقدمي"  و"التكتل" و"المؤتمر"، وهي تشترك في كونها عارضت بن علي بفاعلية متفاوتة، ما منحها صدقية بعد انتصار الثورة. وكانت استطلاعات الرأي منحت "الديموقراطي التقدمي" الرتبة الأولى بين الأحزاب غير الدينية بفارق كبير عن الحزبين المنافسين له، فيما اعتبرت "النهضة" أن هذا الحزب هو غريمها الرئيسي، ما حملها على قصر مشاورات تشكيل الحكومة الانتقالية على "التكتل" و"المؤتمر". لكن "التقدمي" خسر قسما عريضا من قاعدته الانتخابية بسبب الأخطاء التي ارتكبها زعيمه المحامي أحمد نجيب الشابي، بانضمامه إلى حكومتي محمد الغنوشي الأولى والثانية بعد الثورة، وإطلاقه حملة إعلانية واسعة في المحطات التليفزيونية على الطريقة الأميركية، أزعجت قواعد الحزب وحولت مناصريه إلى الحزبين المنافسين، بعدما كانت الاستطلاعات تمنحهما حصة ضئيلة من الأصوات.

قصارى القول: إنّ انتخابات الجمعية التأسيسية صنعت خارطة جديدة تتألف من ثلاث مجموعات بحسب الحجم، هي الأحزاب الخمسة الكبرى (من 89 إلى 16 مقعدا) وأحزاب الحجم الوسط (3 - 5 مقاعد) وهي أربعة، بالإضافة إلى عشرة أحزاب صغيرة الحجم. أما على صعيد التصنيف السياسي فتتوزع مقاعد الجمعية التأسيسية على أربع قُوًى متفاوتة الحجم، هي: التيار الأصولي ("النهضة") والتيار الوسطي الاشتراكي الديموقراطي ("التكتل" و"التقدمي" و"المؤتمر" و"التجديد") والتيار الدستوري أو "التجمعي" (وهو "العريضة" زائدًا الأحزاب الصغيرة، وإن كان كثير من الدستوريين اتخذوا من البورقيبية مرجعية لهم، وأدانوا بن علي وحزبه). وأخيرا المستقلون، وهم سيشكلون قوة إسناد لهذا التيار أو ذاك.

هكذا لم تمحُ انتخابات الجمعية التأسيسية الخارطة القديمة تماما، فالأحزاب الستة الأولى كانت موجودة قبل الثورة. أما أحزاب الديكور فتبخرت عدا "التجديد"، وإن جاء في ثوب جديد ("القطب الحداثي"). وهذه الخارطة ليست نهائية، فالجمعية التأسيسية مقيدة بحدين هما السقف الزمني، الذي لن يتجاوز على الأرجح سنة واحدة، والمهمة المحددة لها والمتمثلة في كتابة الدستور والإعداد لانتخابات عامة برلمانية (أو رئاسية) بعد وضع قانون انتخابي جديد. بيد أن هذا الأمر غير محسوم حتى الآن، وقد يشكل عنصر تفجير في المستقبل، إذ اتفقت ثلاثة أحزاب فائزة على تكوين ائتلاف حاكم يضم كلا من "النهضة" و"المؤتمر" و"التكتل"؛ ولقد تم تقاسم الرئاسات الثلاث بينها، بحيث تم تكليف حمادي الجبالي (النهضة) بتأليف الحكومة، وتسمية منصف المرزوقي (المؤتمر) رئيسا مؤقتا للجمهورية، ومصطفى بن جعفر (التكتل) مرشحا لرئاسة الجمعية التأسيسية، فيما اختارت الأحزاب الأخرى موقع المعارضة.

وبدأ الائتلاف الثلاثي يواجه مقتضيات تجديد الخطاب والانتقال من موقع المعارضة إلى موقع الحكم، وهي عملية عسيرة شابتها مزالق وزلات لسان كثيرة، اضطُرت زعماء الأحزاب الثلاثة إلى التصحيح حينا والاعتذار حينا، والنفي حينا آخر، أسوة بالتصريح الذي أدلى به الجبالي، مُعتبرا أنّ التجربة التونسية دشنت الخلافة الراشدة السادسة، وهو ما نفاه لاحقا؛ أو تلك التصريحات التي أدلى بها المرزوقي لصحيفة "الأخبار" اللبنانية ثم كذبها، ما حمل الصحفيَّ على بث التسجيل الصوتي للمقابلة. والأرجح أنّ فترة التدريب على العمل السياسي ستستغرق وقتا من أحزاب لم تُعط فرصة التمرس على اللعبة السياسية في ظل احتكار بن علي للسياسة بجميع أبعادها وفي كل ملاعبها.

ومن غير المستبعد أن تتجدد في الفترة المقبلة صراعات الحلفاء مع تنامي التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي سيتعين على حكومة التحالف الثلاثي مجابهتها وإيجاد حلول عاجلة لها. ولن تقتصر عناصر التباعد على إدارة الملفات وحسب، فبقاء الحكومة نفسه سيطرح في المستقبل عنصر خلاف بين حزبي "النهضة" و"التكتل" من جهة وحزب "المؤتمر" من جهة ثانية؛ إذ إنّ الأخير رفض التوقيع على الإعلان السياسي الذي حدد سقفا زمنيا للجمعية التأسيسية لا يتجاوز سنة واحدة، وأكد رئيسه المرزوقي مرارا أنه لن يقبل بأقل من ثلاث سنوات، ما يعني أن الرئاسة المؤقتة ستستمر- حسب رأيه- طيلة الفترة نفسها. وقد يطفو هذا الخلاف على السطح بشكل أوضح بعد استكمال تحرير الدستور. كما أن الحزبين وافقا في الوثيقة إياها (والتي وقعا عليها مع تسعة أحزاب أخرى) على أن الأولوية بالنسبة للجمعية التأسيسية هي وضع الدستور والإعداد لانتخابات عامة، فيما اعتبر المرزوقي أن على أعضاء الأغلبية أن يتسلموا الحكم أيضا.

ولاشك أن المهمات العاجلة المطروحة على الجميع حاليا، تتعلق بمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بتنامي البطالة وتراجع الصادرات وكساد السياحة وتفاقم الدين الخارجي، ما يستوجب حلولا عاجلة لا يفهمها سوى التكنوقراط، الذين لا يوجدون بالضرورة في قيادات أحزاب الائتلاف الثلاثي. ويتخذ هذا الموضوع أهمية أكبر مع تزايد مخاطر اهتزاز الاستقرار الاجتماعي وحتى الفلتان الأمني، بسبب تفاقم العجز في الميزانية واستفحال البطالة والفقر والتهميش. وكان يمكن لأعضاء الجمعية التأسيسية أن يتخففوا من أعباء الحكم والصراعات التي تترتب عليها، بإلقائها على كاهل الوزير الأول الانتقالي الباجي قائد السبسي، بعدما استطاع تجنيب العملية السياسية الوقوع في مطبات عديدة طيلة أكثر من ثمانية أشهر، أو أي خبير اقتصادي يحظى بكفاءة القيادة، من أجل التفرغ للدور الذي انتخبهم الشعب من أجله أي وضع دستور.

ومن هنا فالمسألة ليست ترفا فكريا، وإنما هي في صميم نجاح التجربة الديموقراطية التي يخوضها البلد، فإذا ما تحقق الاستقرار الأمني والوفاق الاجتماعي، سيمضي التونسيون بالتجربة إلى نهايتها محطة بعد أخرى. أما إذا سادت قلة الصبر والسعي إلى المغانم الحزبية السريعة، فقد يتخذ المناخ السياسي منحى تجاذبيا وسجاليا يعطل العملية السياسية أو يربكها على الأقل.

في المحصلة، ستشهد تونس فترة مليئة بالتحديات والتغييرات التي ستُبدل ملامح الخارطة السياسية، فتُبرز لاعبين جددا وتُهمش ربما آخرين، لكنها ستكون مرحلة انتقالية في انتظار تبلور خارطة شبه نهائية مع الاستحقاق الانتخابي المقبل، الذي يُفترض أن يكون في خريف العام القادم... إذا ما سارت الأمور بشكل سلس.


الخارطة الجديدة بحسب عدد المقاعد

حزب النهضة          89

حزب المؤتمر           29

العريضة الشعبية         26

حزب التكتل            20

الديموقراطي التقدمي     16

القطب الحداثي           5

حزب المبادرة             5

آفاق تونس               4

البديل الثوري             3

حركة الديموقراطيين       2

حركة الشعب             2

حركة الوطنيين            2

حزب المستقبل            2

أحزاب صغيرة ومستقلون 15

المجموع:          217