العنوان هنا
مقالات 14 يونيو ، 2011

قراءة في دلالات أزمات إيران المتتالية

الكلمات المفتاحية

محمد عباس ناجي

باحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية.- منسق تحرير مجلة "مختارات إيرانية" بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، له عدة مؤلفات ودراسات.

تكاد إيران لا تخرج من أزمة سياسية حادّة حتى تدخل غيرها بشكلٍ سبَّب إنهاكًا لنظام الجمهورية الإسلامية في وقت يواجه فيه تحدّيات ليست قليلة تفرضها البيئتان الدولية والإقليمية. فبينما يشهد ملفّ إيران النووي صعوباتٍ عديدة بسبب المشكلات الفنيّة والتكنولوجية المعقّدة التي يواجهها وعلى رأسها انتشار فيروس "ستوكسنت" الذي تسبب في خروج عددٍ كبير من أجهزة الطرد المركزي عن نطاق السّيطرة، وبسبب القيود الشديدة التي باتت تتعرّض لها إيران لاستيراد بعض المعدّات والموادّ الخاصّة بالبرنامج بفعل اتّساع نطاق التزام دول العالم بتطبيق العقوبات الدولية المفروضة على إيران من داخل مجلس الأمن ومن خارجه، تشير المؤشّرات إلى أنّ "موجات التسونامي الثوري" التي تجتاح العديد من الدول العربية في الوقت الحالي يمكن أن تنتج في النهاية تداعياتٍ سلبيّة على مصالح إيران وطموحاتها النوويّة والإقليميّة.

صحيح أنّها نجحت في إسقاط النّظاميْن التونسي والمصري اللذيْن يُعدّان من حلفاء الغرب بشكل يصبّ في مصلحة إيران على أساس أنّ ذلك يقدّم مؤشّرات على فشل الجهود التي تبذلها الولايات المتّحدة الأمريكية لفرض عزلة دولية وإقليميّة عليها، وهزيمة ما يسمّى بـ"محور الاعتدال" الذي سعت واشنطن إلى تأسيسه في مواجهة "محور الممانعة" الذي تقوده إيران، إلاّ أنّ الصّحيح أيضًا أنّ المسألة ما زالت في بدايتها وأنّ المكاسب التي يمكن أن تصبّ في صالح إيران ربّما تكون مؤقّتة في انتظار تبلْور معالم الشّرق الأوسط الجديد بعد أن تحطّ الموجات الثورية الحاليّة أوزارها.

المهم في كلّ ذلك هو أنه بينما انشغل العالم أجمع بما يحدث في منطقة الشّرق الأوسط التي تحظى باهتمام خاصّ لاعتبارات استراتيجيّة واقتصادية وأمنيّة عديدة، بدت إيران منهمكة في تداعيات أزماتها الداخلية، وكان آخرها الأزمة التي اندلعت بين المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي والرئيس محمود أحمدي نجاد، على خلفيّة رفض الأوّل القرار الذي اتّخذه الثاني بإبعاد وزير الاستخبارات حيدر مصلحي من منصبه، الأمر الذي دفع الرئيس إلى التّفكير في الاستقالة من منصبه.


منصب الرئيس صداع مزمن

وصول الأزمة إلى هذه الدرجة غير المسبوقة من التوتّر بين المرشد والرئيس، رغم العلاقة القويّة التي ربطتهما في السابق والتي دفعت المرشد إلى دعم الرّئيس في عددٍ من الصّراعات الداخلية سواء مع الإصلاحيّين، أو بمعنى أشمل المعتدلين، أو مع خصومه من داخل التيار المحافظ الذين يهاجمون باستمرار السّياسة التي ينتهجها على صعيد الملفّيْن الاقتصادي والنووي، والتي دفعت أيضًا الرئيس إلى تشبيه علاقته مع المرشد بأنّها "علاقة الأب بابنه"، كلّ ذلك يطرح دلالة مهمّة مفادها أنّ الأزمة الحاليّة التي تعيشها إيران ليست جديدة وإنما متجدّدة، بفعل عددٍ من الأسباب التي تتّصل بالعلاقة بين المؤسّسات المكوّنة لنظام الجمهوريّة الإسلامية. فمنذ تأسيس هذا النظام، ومنصب رئيس الجمهورية تحديدًا يمثّل صداعًا شديدًا في رأسه، بسبب الموقع الحسّاس الذي يشغله فضلاً عن التداخل الشّديد في صلاحياته مع سلطات بعض المناصب الأخرى مثل منصب المرشد الأعلى للجمهورية، ومنصب رئيس الوزراء الذي تمّ إلغاؤه بمقتضى تعديل الدستور عام 1989 بعد أن تبيّن أنّ النزاع المتكرّر على الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء تسبّب في حدوث مشكلات عديدة في إدارة شؤون الدولة.

لكن ولأسباب عديدة، لم تبرز هذه المشكلة بشكل جدّي خلال العقد الأوّل للجمهورية الإسلامية، أوّلاً بسبب الكاريزما التي حظي بها الإمام الخميني قائد الثورة ومؤسّس الجمهورية بشكل ضيّق من حريّة الحركة وهامش المناورة المتاح أمام رئيس الجمهورية، وثانيًا بسبب كون معظم مؤسّسات النظام كانت خاضعة للجيل الأوّل من الثّورة الإيرانية، أي حين كانت إيران في مرحلة الثورة، بما تعنيه من طغيان التوجّه الثوري على عمل النظام.

لكن وعلى خلفيّة تطوّرات داخلية عدّة، أهمّها وفاة  مؤسّس الجمهورية الإسلاميّة الإمام الخميني عام 1989، وما رافقها من تطوّرات على السّاحة الدولية وعلى رأسها انهيار الاتّحاد السوفييتي وانتهاء حالة الاستقطاب الدولي، وتقلّص تأثير الخطاب الأيديولوجي على الساحتين الداخلية والخارجية، بدأت إيران في التحوّل من حالة الثورة إلى حالة الدولة، بكلّ ما يقتضيه ذلك من تفعيل دور دولة المؤسّسات، ومن هنا بدأت بعض الاتّجاهات داخل إيران في الدّعوة إلى زيادة صلاحيّات رئيس الجمهورية لاسيّما في ظلّ التوافق العام الداخلي على أنّ السلطات الواسعة أو ربّما المطلقة التي منحها الدستور للوليّ الفقيه كانت استثناءً في حالة الخميني فقط، ولا يمكن نقلُها لخلفائه.

وقد انعكس هذا التوافق في التعديلات التي أدخلت على الدستور وعلى مؤسّسات النظام، والتي لم يعد بموجبها منصب المرشد كما كان خلال فترة الخميني، أي لم يعد المرشد بالقوّة نفسها التي حظي بها في السابق، رغم أنه ما زال الأقوى وفق الدستور الجديد، لكن التعديلات الدستورية فرضت في النهاية شركاء في معادلة صنع القرار في مقدّمتهم رئيس الجمهورية، الذي تدعّم موقعه بوصول شخصية لها ثقلها داخل النظام مثل هاشمي رفسنجاني، بشكل دفع البعض إلى تصوير عملية التغيير السياسي التي شهدتها إيران بعد مرور عقد على قيام الثورة على أنها تحوّل من "قيادة فرديّة" إلى "قيادة ثنائية"، رغم أنّ ذلك الاستنتاج لا يتسامح مع الواقع السياسي الإيراني الذي يقول إنّ المرشد الأعلى للجمهوريّة ما زال يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق كلّ السلطات، وأنّ رئيس الجمهورية يأتي في المرتبة الثانية وربما في الثالثة في حالة مزاحمته من قبل شخصيّات قويّة وصلت إلى رئاسة مؤسّسات لها دور مهم في عمليّة صنع القرار السياسي.