العنوان هنا
دراسات 09 يوليو ، 2011

الرأي العام السوداني بعد الانفصال*

الكلمات المفتاحية

أُجري الاستفتاء حول انفصال جنوب السودان دون أخذ رأي السودانيين في الشمال وبهذا أبدى سكان الجنوب رأيهم وقرّروا الانفصال فيما غاب رأيُ أهل الشمال. ولملْء هذه الفجوة في المعرفة حول الرأي العام السوداني في الشمال في مرحلة ما بعد الاستفتاء، سنعرض ونحلّل في هذه الورقة بيانات دراسة ميدانية للرأي العام السوداني نُفذّت في الفترة ما بين 8 - 26 شباط / فبراير 2011 في جميع ولايات السودان، حيث تمّ إجراء 1200 مقابلة وجاهية[1] للوقوف على ماهيّة الرأي العام السوداني واتجاهاته في مرحلة ما بعد الانفصال؛ ومحاولة التعرف على الأسباب الكامنة وراء تأييد الانفصال أو رفضه وانعكاساته على مستقبل السودان بشماله وجنوبه معاً.

أثار تصويت الجنوبيّين لصالح انفصال جنوب السودان عن شماله أسئلةً إشكاليةً جديدةً حول هويّة السودان، في مجالٍ جغرافي- اقتصادي- اجتماعي وبشري زُرعت فيه الدولة أكثر ممّا كانت نتاجاً طبيعياً لتطوّره. ولعلّ أهمّ هذه الأسئلة هو السؤال المرتبط بعروبة السودان ووحدته، وما إذا كانت هناك حاجة لإعادة تعريف هويته، وإعادة النظر إليها في ضوء إخفاق تجربة السودان الموحّد.

وتتوالى الأسئلة حول مدى نجاعة السياسات التي اتّبعتها الحكومات السودانية المتعاقبة في مجال التكامل الاجتماعي أو ما يُعرف ببناء الأمّة، والتي أدّت إلى أن يُصبح خيار الانفصال مفضّلاً لدى 99% من الجنوبيين بحسب نتائج الاستفتاء الذي أُجريَ في كانون الثاني/ يناير من سنة 2011. وفيما أخبرنا الاستفتاء بموقف أهل جنوب السودان، لم نعرف رأي أهل شمال السودان في انفصال الجنوب، هل يؤيّدون الانفصال أم يعارضونه؟ ومن يتحمّل مسؤولية الانفصال من وجهة نظر الرأي العام السوداني؟ وكيف يرى الرّأي العام السوداني مستقبل العلاقات بين الشّمال والجنوب في مرحلة ما بعد الانفصال؟

هذه الأسئلة في حاجة إلى إجابات لكي نستشرف صورة السودان بعد الانفصال، ولكي نتمكّن من تحديد القضايا التي ستحتلّ مساحة مهمة في مستقبل العلاقات بين الشّمال والجنوب.

 لقد اتّسم المجتمع السوداني بسمات المجتمع المُركّب الهويّة. وأثارت عملية بناء الدولة الحديثة التي يتّسم منطقها -بطبيعته- بميله لخلق هويّةٍ موحّدةٍ تمثل المضمون القومي للمواطنة، مشاكل العلاقة بين التنمية والقوميّات المتعدّدة والمتداخلة في السودان، إضافةً لمشكلة تعيين هويّة السّودان السياسية والثقافية منذ استقلاله في 1 كانون الثاني/ يناير 1956.

 ولم توفّق الحكومات السودانية منذ ذلك الوقت في بناء دولة حديثة تقوم وحدتها الأساسية على المواطنة التي يتساوى فيها الجميع بغضّ النظر عن انتماءاتهم العرقيّة واللغوية والثقافية. كما لم تتمكّن هذه الحكومات من صوغ هويّة سودانية مركبة، تنظر فيها كلّ جماعة لهويّتها الخصوصية عبر محور الهويّة السودانية الجامعة. وبقيت نسب الفقر[2]، ومعدّلات الإعالة العمرية والاقتصادية مرتفعةً بفعل ارتفاع معدّل النموّ السكّاني الذي قد يحتاج في ظروف السودان إلى تحقيق ثلاثة أمثال ما يحققه الناتج المحلّي الإجمالي حاليا.

وشكلت هذه العوامل إلى جانب انخفاض معدّلات التعليم، وضعف البنية التحتية أبرز التحديات التي واجهتها الخطط والسياسات التنموية للحكومات السودانية في ظلّ استنزاف الحرب المزمنة واليائسة في الجنوب لمواردها وقدراتها على حساب عمليّة التنمية، وعسكرتها لقوى المجتمع السوداني، وجعل المجتمع السوداني يعيش في فترةٍ طويلةٍ منهكةٍ من الإحساس بهشاشة الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي الذي يمثّل شرطاً لنجاح خطط التنمية.

وترافق مع بروز هذه التحدّيات ظهور حركات تمرّد مسلّح في عدّة أقاليم أخرى على خلفيّة تمييزات قوميّة وتنموية، وضعتها في خانة الطرفيّة والتهميش، ممّا ساهم في الإخفاق التنموي والسياسي للدولة السودانية الحديثة، وتآكل منجزاتها النسبيّة الناتجة عن عملية التّحديث التي دخلها السودان مثل كافّة دول مرحلة ما بعد الاستعمار. وساهمت هذه العوامل في تهيئة البيئة السياسية المحلية والإقليمية والدولية للانفصال من جهة ولتشجيع قوى وتجمّعات جهويّة أخرى على التمرّد والمطالبة بالانفصال عن الدولة المركزية كما هي الحال في دارفور.

ولأنّ هذه القضايا ترتبط بشكل أساسي بالإنسان/الفرد السوداني وطموحاته وآماله ورؤيته لمجتمعه والعالم من حوله، فإنّ رأي هذا الإنسان هو الذي يجب أن يُعرَف ويُعلن لرسم صورة الرأي العام السوداني في مرحلة ما بعد الانفصال، تجاه الراهن والمستقبل.


أودّ أن أشكر كلاًّ من الدكتور النور حمد، والدكتور عبد الله البشير، والدكتور المغيرة السيد من السودان على ملاحظاتهم القيّمة حول الورقة ومساهماتهم في تطويرها وإضافة بعض المقترحات المعرفية المتعلقة بالخصوصية السودانية. وأود أنْ أشكر الدكتور عبد الوهاب القصاب، والدكتور وجيه كوثراني، والأستاذ جمال باروت على ملاحظاتهم ومقترحاتهم على النسخة الأولية من هذه الورقة.

[1] تم تنفيذ الدراسة في السودان ضمن مشروع مؤشر الرأي العام العربي الذي ينفذه برنامج الرأي العام في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ونُفذت الدراسة على عينة احتمالية طبقية عنقودية متعددة المراحل من 1200 منزل في أقاليم السودان الستة الرئيسة متضمنة 12 ولاية و 39 محلية موزعة بين الريف والحضر بحسب توزيع تعداد السكان في السودان لسنة 2008. وشملت العينة 226 مقابلة وجاهية في إقليم الخرطوم، و290 في الإقليم الأوسط، و 72 في الإقليم الشمالي، و 173 في الإقليم الشرقي، 167 في إقليم كردفان، 271 في إقليم دارفور. ولضمان الجودة تمت إعادة مقابلة 10% من مجمل العيّنة. ويبلغ حجم هامش الخطأ في هذه الدراسة نحو ±2.4%.

[2] انظر الشفيع خضر سعيد، مستقبل السودان بعد الانفصال، في هذا الكتاب.