العنوان هنا
تقدير موقف 14 أبريل ، 2016

زيارة أردوغان واشنطن تكشف التوتر المكتوم مع إدارة أوباما

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

كشفت زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الأخيرة واشنطن، للمشاركة في قمة الأمن النووي، حجم الخلافات الأميركية - التركية حيال العديد من الملفات الإقليمية، وعلى رأسها الملف السوري. ووجدت هذه الخلافات تعبيرها العلني في تصعيدٍ سياسي مبطن قامت به الإدارة الأميركية؛ إذ أعلن البيت الأبيض غداة وصول أردوغان يوم الثلاثاء (29 آذار/ مارس)، أنّ لقاءه مع الرئيس باراك أوباما سيقتصر على اجتماع غير رسمي، في رسالةٍ الغرض منها التعبير عن استياء واشنطن من سياسات تركيا الإقليمية[1]. وواكب الزيارة حملة إعلامية شرسة قادتها صحف أميركية كبرى تركّزت حول اتهام أردوغان بالتعدّي على الحريات الصحفية والإعلامية، وتقليص مساحة الهامش الديمقراطي في بلاده، واستخدمت وسائل الإعلام الأميركية ألقابًا تتهم أردوغان بـ "الدكتاتور" و"المستبد"[2].


رسائل سلبية متبادلة

ليست هذه الاتهامات بعيدة عن تعبيراتٍ استخدمها مسؤولون في الإدارة الأميركية، وعلى رأسهم أوباما نفسه الذي صرّح أنّه حثّ أردوغان خلال اجتماعه معه على ألّا يقمع النقاش الديمقراطي في بلاده، وهو الأمر الذي استنكره أردوغان ورأى فيه محاولة لتوظيف سجلّ الحريات الصحفية في بلاده لضبط السياسة التركية في منطقة الشرق الأوسط ضمن المقاربة الأميركية، وسعيًا وراء "تقسيم تركيا وتحطيمها إذا ما استطاعوا وابتلاعها"[3]. ويمكن تلمّس التوظيف السياسي الأميركي قضايا الحريات العامة والتضييق على الديمقراطية في تركيا في تصريحات أوباما الأخيرة لمجلة "ذا أتلانتيك" The Atlantic، عندما وصف أردوغان بـ "الفاشل والسلطوي الذي يرفض أن يستخدم جيشه الهائل لتحقيق الاستقرار في سورية"[4]. وكان ملفتًا هنا ربط "سلطوية" أردوغان بالسياسات التركية في المنطقة.

وأمام توصيف الإدارة الأميركية لقاء أوباما - أردوغان بـ "غير الرسمي"، بذريعة ضيق وقت برنامج الرئيس الأميركي، حاول أردوغان من جانبه توجيه رسائل تعبّر عن استيائه من السياسات الأميركية في لقاءٍ دعا له وجمعه بباحثين في مراكز دراسات أميركية، وأكاديميين، ومسؤولين سابقين. في ذلك اللقاء قال أردوغان إنّ حاجة الولايات المتحدة إلى تركيا هي حاجة إستراتيجية، وعلى الولايات المتحدة ألّا تنظر إلى الدور التركي باستخفاف وكأنّه "في جيبها". وانتقد أردوغان أيضًا السياسة الأميركية في سورية، وعدم مراعاتها الحساسيات التركية، كما في حالة دعم إدارة أوباما "حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي" السوري، الذي تعدّه تركيا امتدادًا لـ"حزب العمال الكردستاني" التركي[5]، المصنَّف إرهابيًا في تركيا والولايات المتحدة وأوروبا، غير أنّ الولايات المتحدة تزعم إنّه لا رابطَ بين الحزبين.


اختلافات كبيرة

يرجع الاستياء المتبادل بين إدارة أوباما وحكومة أردوغان إلى اختلاف مقاربة البلدين لقضايا منطقة الشرق الأوسط، والسياقات التي ينظر كلٌ منهما إليها؛ فبينما تراها "الولايات المتحدة في سياق دولي، فإنّ تركيا، وحتى قبل الحرب في سورية، تراها في سياق المصالح الإقليمية"[6]. وتتعلق التجاذبات بين الطرفين بجملة كبيرة من القضايا، منها الموقف من الثورات العربية والانقلاب عليها، وموضوع علاقة تركيا مع إسرائيل التي ساءت كثيرًا في السنوات الأخيرة، وانفتاح أنقرة على بعض القوى الإسلامية، كالإخوان المسلمين وحركة حماس؛ فبعد عدوان إسرائيل على قطاع غزة في صيف عام 2014 قام أعضاء في الكونغرس الأميركي بشنّ حملة ضد تركيا، ووصفوها بـ "العدو الذي يتخفى بثياب صديق" وطالبوا بفرض عقوبات عليها[7]. وقد ترافق ذلك حينها، مع تصعيد إعلامي ضد تركيا وبروز دعوات إلى إعادة النظر في وضعها في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، بل وحتى "طردها" منه، خصوصًا في ضوء تركيز خصوم تركيا على ما يزعمون أنّه نزعة "تسلطية" و"إسلامية متشددة" لدى الرئيس أردوغان[8]. وقد ألمح أردوغان في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2013، عندما كان رئيسًا للوزراء، إلى دورٍ أميركي محتمل، في الحملة الأمنية التي شنّتها جهات في الشرطة التركية على مقرّبين منه بمزاعم فساد، وهدّد، حينئذ، بطرد السفير الأميركي من أنقرة[9].


سورية: عقدة المنشار في العلاقات التركية - الأميركية

ومن ضمن جميع الملفات الخلافية بين البلدين، تمثّل الأزمة السورية نقطة الافتراق الأبرز بين تركيا والولايات المتحدة؛ فإدارة أوباما التي ظلت تعدّ سورية، قبل ظهور داعش، قضية هامشية نظرًا لعدم وجود مصالح كبرى لها فيها، ما زالت لا تملك إستراتيجية واضحة لحلّ الأزمة السورية، وهو الأمر الذي سمح لإيران بالتمدد في هذا البلد العربي في السنوات الأولى من الثورة، ثم ظهر "داعش" وأخذ يتمدد من العراق في الفراغ الذي خلفه انحسار سلطة النظام السوري في شرق البلاد وشمالي شرقها، ثم دخول روسيا في مرحلة تالية على الخط، وتحوّلها إلى صاحب النفوذ الأكبر في سورية. وعلى الرغم من ذلك كلّه، بقيت إستراتيجية أوباما قائمة على التركيز على إضعاف "داعش" وحرمانه من الحصول على ملاذٍ آمن. لكن، بينما تقوم واشنطن بمحاولة إضعاف داعش، تسعى اليوم بالاتفاق مع روسيا إلى الضغط على قوى المعارضة السورية وفصائلها للدخول في مفاوضات مع النظام السوري لاجتراح حلٍ سياسي يسمح لبشار الأسد بالبقاء في السلطة رئيسًا "شرفيًا"، من خلال تعديل الدستور وتحويل نظام الحكم في سورية من نظام رئاسي إلى نظام برلماني، وهو أمر يبدو قائمًا على وهمٍ أكثر منه حقيقة، لأنّ سلطة الديكتاتور لا تتأتى من الورق والصياغات والدساتير، كما تبين في التجربة اليمنية. أبعد من ذلك، يبدو واضحًا أنّ إدارة أوباما، وبالتوافق مع الروس، تسعى إلى تحييد الدورين التركي والسعودي في سورية، عبر احتكارهما قيادة جهود التسوية تحت مظلة أممية رمزية.

في المقابل، تعدّ تركيا الصراع في سورية أولوية؛ فهو الأكثر تأثيرًا في أمنها القومي، وتحديدًا في بعده الكردي الانفصالي، خصوصًا بعد أن أعلن أكراد سورية في منتصف شهر آذار/ مارس الماضي نظامًا فدراليًا في شمال سورية على الحدود مع تركيا. أضف إلى ذلك أنّ تركيا تستضيف اليوم أكثر من مليونَي لاجئ سوري، كما أنّها ترى أنّ الفشل الدولي في التعامل مع وحشية النظام السوري ودعم الثوار السوريين سمح بتحوّل سورية إلى ملاذٍ آمن للتنظيمات "الإرهابية" التي بدأت تستهدف العمق التركي. ومن أجل ذلك، فإنّ تركيا طالبت، دون نجاح، بإنشاء منطقة "آمنة" على حدودها مع سورية، يحظر فيها الطيران، بالنسبة إلى حلف الناتو، وتقام فيها مخيمات للّاجئين السوريين؛ وذلك في سياق إستراتيجية أوسع لإسقاط نظام الأسد. غير أنّ هذا المطلب التركي لم تتمَّ الاستجابة له، ولم ترغب تركيا في تنفيذه وحدها خشية قيام حلفاء النظام (روسيا، وإيران) بردة فعل قوية، ولم يعد هذا الأمر ممكنًا على أيّ حال بعد التدخّل العسكري الروسي في سورية.

انعكس اختلاف المقاربتين التركية والأميركية في سورية على اختلاف الأولويات بين الطرفين؛ فالولايات المتحدة ترى أنّ الأولوية هناك تتمثّل بمحاربة "داعش" وهزيمته. وفي المقابل، ترى تركيا أنّ الأولوية هي إحداث تغيير سياسي في سورية ينهي حكم الأسد، ويؤسس لدولة مدنية ديمقراطية كفيلة بهزيمة التيارات الإرهابية كـ "داعش". ونتيجة هذا التناقض في الأولويات تبدي الولايات المتحدة استياءً من تركيز تركيا، في الوقت الحاضر، جهدها العسكري على مواجهة حزب العمال الكردستاني الذي يقود عملية تمرد انفصالي في جنوب البلاد، في حين تريد واشنطن أن تدع موضوع الأكراد جانبًا وتركّز على محاربة تنظيم الدولة. من المنطلق نفسه يعدّ دعم الولايات المتحدة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي من نقاط الافتراق الأساسية بين مقاربتَي الطرفين؛ فأنقرة تعدّ الحزب وجناحه العسكري "قوات حماية الشعب" امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، في حين أنّ واشنطن ترى فيهما حليفيْن في الحرب على "داعش"[10]، ومستقلَين تنظيميًا عن حزب العمال، وتقوم بمدّهما بالسلاح مع أنّهما يمثّلان تيارًا يساريًا انفصاليًا متطرفًا.

وأخذ هذا التناقض في قراءة الطرفين الأوضاع في الإقليم ينعكس بوضوح على العلاقات الإستراتيجية والعسكرية بينهما، على الرغم من أنّ هذه العلاقة يفترض أن تكون راسخة في حلفٍ يمتد عقودًا، منذ أن انضمّت تركيا إلى حلف الناتو عام 1952؛ فمنذ إسقاطها طائرة عسكرية روسية في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، قالت أنقرة إنّها اخترقت أجواءها السيادية، لم تجد تركيا الإسناد الكافي بوصفها عضوًا في الحلف. بل إنّ رسالة واشنطن والحلف إلى أنقرة شددت على ضرورة التهدئة ووقف طلعات طائراتها العسكرية فوق سورية، وعدم التصعيد مع الروس، مخافة الانجرار إلى حربٍ واسعة معهم[11]. بينما جرى إخبار تركيا أنّ الحلف سوف يهبّ لنجدتها فقط في حال كانت في وضع دفاعي. وفي سياق تداعيات هذا القرار، أخذ تأثير تركيا يضعف في الساحة السورية، خصوصًا في المناطق الحدودية، في حين أخذ نفوذ الأكراد يتنامى بدعمٍ أميركي وروسي مشترك.

إنّ تنامي الخلاف مع واشنطن، والحاجة إلى ملْء الفراغ الذي يتركه نأي إدارة أوباما بنفسها عن قضايا المنطقة، دفعَا تركيا إلى البحث عن حلفاء إقليميين، ما يفسّر التقارب الكبير الذي حصل مؤخرًا مع المملكة العربية السعودية، على الرغم من اختلاف الأولويات معها أيضًا؛ فاهتمام السعودية يكاد يكون منصبًّا بصورة مطلقة على الخطر الإيراني، بينما تركّز تركيا من جهتها كليًا على خطر الحركات الانفصالية الكردية (وهو موضوع سيتم تناوله في تقدير موقف منفصل عن زيارة الملك سلمان لتركيا).


خاتمة

ثمة توترٌ لا تخطئه العين في العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا. وهذا التوتر غير مرتبط بالخلفية الأيديولوجية لأردوغان وحزبه، بقدر ما هو مرتبط باختلاف حسابات الطرفين الإقليمية وسياساتهما الخارجية. غير أنّ ذلك لا ينفي حاجة كلٍ من البلدين إلى الآخر؛ فتركيا تعتمد إلى حدٍ كبير على المظلة الأمنية لحلف الناتو، بخاصة في ضوء توتر علاقتها مع روسيا. في حين أنّ الولايات المتحدة ليست في وارد التخلّي عن حليف مهمٍ وكبير في المنطقة، يملك ثاني أكبر جيش في الناتو، والعضو المسلم الوحيد فيه، بخاصة في سياق حربها على تنظيم الدولة ومواجهة تنامي السلوك العدواني لروسيا. وفضلًا عن موقعها الإستراتيجي بالنسبة إلى الناتو، بوصفها جسرًا واصلًا بين الشرق والغرب، وآسيا وأوروبا، وتأثيرها المباشر في ساحات صراع ملتهبة، كالعراق وسورية، وأرمينيا، وحدودها المشتركة مع إيران.. إلخ، فإنّ تركيا، في ظل حكومتها الحالية قد تكون في مرحلة مقبلة "أحد عوامل التهدئة" في الأراضي الفلسطينية المحتلة ومصر، بحكم العلاقة الجيدة التي تربطها بحماس والإخوان المسلمين، هذا فضلًا عن العلاقات الاقتصادية المزدهرة بين البلدين، بما في ذلك قطاع صناعة السلاح الأميركي، والذي تعدّ تركيا سوقًا مهمة بالنسبة إليه.



[1] Oren Dorell, “Turkey's President Erdogan visits Washington amid policy rifts,” USA TODAY, March 31, 2016, at: http://goo.gl/kUnJy0

[2] Eli Lake & Josh Rogin, “How Washington Got Turkey's Dictator So Wrong,” Bloomberg View, March 30, 2016, at: http://goo.gl/RQHyjW

[3] "أردوغان: تقارب في الموقفين التركي والأمريكي بشأن أكراد سوريا"، رويترز، 3/4/2016، في:

http://ara.reuters.com/article/worldNews/idARAKCN0X00G9

[4] Jeffrey Goldberg, “The Obama Doctrine,” The Atlantic, April 2016, at:

http://www.theatlantic.com/magazine/archive/2016/04/the-obama-doctrine/471525/

[5] John Hudson, “Erdogan Uses Closed-Door Meeting to Blast Obama Administration,” Foreign Policy, March 30, 2016, at:

http://foreignpolicy.com/2016/03/30/erdogan-uses-closed-door-meeting-to-blast-white-house/

[6] Natasha Bertrand, “'Insecure, unpredictable, and more willing to lash out': Turkey's relationship with the US is reaching its breaking point,” Business Insider, Apr. 1, 2016, at:

http://www.businessinsider.com/erdogan-us-visit-turkey-relationship-2016-4

[7] Julian Pecquet, “Congress Goes After 'Frenemies' Turkey, Qatar,” U.S. News, September 10, 2014, at:

http://www.usnews.com/news/articles/2014/09/10/congress-goes-after-frenemies-turkey-qatar

[8] Jonathan Schanzer, “Time to Kick Turkey Out of NATO?,” Politico Magazine, October 09, 2014, at:

http://goo.gl/vEjWBy

[9] Selcuk Gokoluk & Benjamin Harvey, “Turkey’s Erdogan Says Foreign Ambassadors Could Be Expelled,” Bloomberg News, December 21, 2013, at: http://goo.gl/kiVkR6

[10] David Barchard, “US-Turkey gap more visible during Erdogan's visit to Washington,” Middle East Eye, March 31, 2016, at: http://goo.gl/RXyYDt

[11] Bertrand.