العنوان هنا
تقدير موقف 02 يناير ، 2014

الصراع في جنوب السودان: خلفياته وتداعياته المحتملة

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

أعلن الرئيس سلفا كير ميارديت، رئيس جمهورية جنوب السودان، في الـ 15 من كانون الأول / ديسمبر 2013 محاولة انقلابية، قام بها نائبه المقال رياك مشار ومجموعة من مناصريه. وقد قاد هذا الإعلان إلى نشوب نزاع مسلّح بدأ في العاصمة جوبا ثم تمدّد، وبسرعة شديدة، إلى مدينة بور عاصمة ولاية جونقلي، وإلى مدينة  بانتيو في ولاية الوحدة، حيث حقول النفط. ثمّ ما لبث أن وصل إلى مدينة ملكال، عاصمة ولاية أعالي النيل، حيث توجد مجموعة أخرى من حقول النفط، لتدخل بذلك جمهورية جنوب السودان الوليدة في أتون مواجهات تتشابك فيها كلّ عناصر الصراع على السلطة والثروة، فضلًا عن الانقسامات القبلية.


خلفيات الأزمة

في تموز / يوليو 2013 أعفى الرئيس سلفا كير نائبه رياك مشار وجميع أعضاء الحكومة، في أكبر تغيير وزاري شهده جنوب السودان منذ استقلاله قبل نحو عامين. وأحال إلى التحقيق، في قرارٍ آخر منفصلٍ، الأمين العامّ للحركة الشعبية لتحرير السودان، الحزب الحاكم في جمهورية جنوب السودان، باقان أموم، عقب تصريحات علنية انتقد فيها أموم أداء الحكومة. جاءت تلك القرارات نتيجة لصراعٍ خفيٍّ ظلّ يتصاعد بين قيادات "الحركة الشعبية لتحرير السودان" منذ تموز / يوليو 2005، بُعيد موت الزعيم التاريخي للحركة جون قرنق في حادث تحطّم مروحية غامض.

تفجّرت النزاعات بين القيادات الجنوبية، بصورة علنية، بعد أن أعلن رياك مشار، عقب إعفائه من منصبه، أنّه ينوي الترشُّح لمنصب الرئيس في الانتخابات المزمع إجراؤها في 2015. وقف إلى جانب مشار في إعلانه هذا عددٌ من المسؤولين السابقين الذين أطاحهم الرئيس سيلفا كير في إطار جهده للتخلّص من القيادات التاريخية التي قادت معه حرب التحرير؛ ومن أبرز هؤلاء باقان أموم، الأمين العام للحركة الشعبية، ودينق ألور، وزير الدولة الأسبق لخارجية السودان قبل الانفصال، وربيكا قرنق، أرملة مؤسّس الحركة الراحل جون قرنق. ولقد تطابقت رغبة هذه المجموعة، في ما يبدو، مع رغبة رياك مشار في ألّا يحصل الرئيس سلفا كير على فترةٍ رئاسية ثانية.

في العاشر من تشرين الثاني / نوفمبر 2013، أوردت صحيفة "سودان تريبيون" التي تصدر باللغة الإنكليزية في العاصمة جوبا، أنّ اجتماعًا للقادة الجنوبيين سوف ينعقد في الفترة من 23 إلى 25 من الشهر نفسه؛ لتدارس وثائق طال انتظار مناقشتها وإجازتها، من بينها الدستور والتشريع. ولقد ظلّ معارضو الرئيس سلفا كير يتّهمونه بتفصيل دستور يركّز السلطات في يده، وأنّه يتحوّل، وبسرعة شديدة، إلى ديكتاتور مطلق السلطات. وكان من المفترض أن يُعاد انتخاب رئيس الحزب بناءً على اللوائح التي تنصّ على انتخابه كلّ خمسة أعوام. وكان من المفترض أن يُتّخذ هذا الإجراء منذ نيسان / أبريل عام 2010. غير أنّ ذلك لم يحدث. فما كان من المجموعة التي أخذت أصواتها تعلو، منتقدةً الرئيس سلفا كير وأداء حكومته، إلا أن قادت حراكًا مكثّفًا داخل الحزب، أرادت من خلاله تغيير قيادة الحزب والحكومة عن طريق عملٍ سياسي تعبوي صاحبَتْه حملات إعلامية وسلسلة من التصريحات والانتقادات التي ركّزت على أنّ سلفا كير يدير الدولة بعقلية أمنيّة، وأنّه يضيّق الخناق على الصحافة، وعلى حرية الرأي.


الصراع القبلي الجنوبي الجنوبي

توجد في جنوب السودان عشرات القبائل، غير أنّها تعود في أصولها إلى ثلاث مجموعاتٍ رئيسة، أكبرها المجموعة النيلية التي تمثّل 65% من مجموع السكان، والتي تضمّ القبائل ذات النفوذ السياسي الأكبر؛ فقبائل الدينكا تمثّل ما نسبته 40% من المجموعة النيلية، وهي القبيلة التي ينتمي إليها الرئيس سلفا كير. وتأتي قبيلة النوير في المرتبة الثانية بما نسبته نحو 20%، وهي القبيلة التي ينتمي إليها رياك مشار نائب الرئيس المقال. ثمّ تأتي قبيلة الشلك بنسبة 5%، وهي القبيلة التي ينتمي إليها كلّ من باقان أموم الأمين العامّ للحركة الشعبية، ولام أكول أجاوين، أحد قياداتها التاريخية. وكان هذا الأخير اختلف مع جون قرنق وأصبح حليفًا للخرطوم. وظلّ هناك حتى بعد أن انفصلت الحركة الشعبية في جنوب السودان. ولم يعد إلى جوبا إلا مؤخرًا بعد أن نال تطمينات جنوبية.

انضمّ رياك مشار إلى الجيش الشعبي والحركة الشعبية لتحرير السودان في عام 1984، مع بدايات الحرب الأهلية بين الجنوب والشمال، في حقبتها الثانية التي قادها جون قرنق عقب انهيار اتفاقية أديس أبابا  1972 في عهد الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري. غير أنّ مشار قاد انقسامًا داخل الحركة الشعبية نفسها في عام 1991 بعد أن اختلف، ومعه آخرون من بينهم لام أكول، مع جون قرنق الذي كان ينادي بوحدة السودان بشرط إقامة الدولة المدنية. هذا، في حين كان مشار ومن ناصروه يرون أن يتّجه الجنوبيون إلى الانفصال التامّ. دارت حرب دموية بالغة الفظاعة نتيجة لذلك الخلاف بين الفصائل الجنوبية، استمرّت لعدة سنوات، فاق فيها عدد القتلى، عددهم طوال سنوات الحرب بين الشمال والجنوب. وبعد ستّ سنوات من الخلاف مع قرنق، عقد مشار اتّفاقًا مع حكومة الخرطوم عام 1997، استفادت منه حكومة الرئيس البشير في حربها ضدّ الحركة الشعبية، كما استعانت بقوات مشار في تأمين حقول النفط في الجنوب. غير أنّ مشار عاد مرةً أخرى إلى حركة قرنق في بدايات الألفية الجديدة، وأصبح أحد نوّاب جون قرنق. وبعد موت قرنق، اختير نائبًا للرئيس الحالي سلفا كير، في قيادة الدولة والحزب.


تداعيات الصراع المحتملة

ما زالت المواجهات المسلّحة مستمرّة منذ أسبوعين، على الرغم من قبول الطرفين اللقاء للمفاوضات في أديس أبابا بتأثير ضغوط إقليمية ودولية. فقد استعاد المتمردون مدينة بور عاصمة ولاية جونقلي من جيش الحكومة، بعد أن كان استردّها منهم. وكان الرئيس سلفا كير قد قبل التفاوض دون شروط كما أطلق ثمانية مسؤولين من أصل أحد عشر مسؤولًا كان قد اعتقلهم، على أثر ما وصفه بأنّه انقلاب عسكري.

 إذا تتبّعنا سير المواجهات على امتداد الأسبوعين الماضيين، يبدو واضحًا أنّ حقول النفط، وتأكيد الوجود العسكري على الأرض هما أبرز أهداف المتمرّدين؛ ففي حالة انشطار الجنوب إلى أكثر من دولة تصبح حقول النفط مرتكزًا أساسيًّا لاقتصاد الجهة التي تسيطر عليها، بخاصّة أنّ النفط هو مصدر الدخل الوحيد في جمهورية جنوب السودان. وفي حالة التفاوض، تصبح السيطرة على حقول النفط ورقة مهمّة للحصول على تنازلات سياسية، في أيّ اتفاق يُبرم. وتسيطر قوات رياك مشار الآن على مناطقَ بالغة الحيوية، ما يقوّي موقفها في المفاوضات. ومن الواضح أنّ الصراع الحالي قد أظهر وجود مركزَي قوّة رئيسيْن في دولة الجنوب، سيتقاسمان السيطرة على البلد؛ بغضّ النظر عمّا ستخرج به المفاوضات. ولذلك ستظلّ بنية الدولة في جنوب السودان منقسمة وفقًا لخطوط قبلية، بين قوّة عسكرية تملكها حكومة الرئيس كير، وأخرى يملكها خصومها بقيادة نائبه السابق مشار.

ويؤكّد هذا الاستنتاج مسارعة الرئيس سلفا كير الذي كشفت المواجهات ضعف قوّته العسكرية، إلى طلب الدعم من دول الجوار التي هدّدت، وعلى رأسها يوغندا، بالتدخل لمنع إزاحة الرئيس سلفا كير بالقوّة. وعليه، يبدو أنّ المفاوضات ستجري في إطار الحفاظ على حكومة الرئيس سلفا كير، من جهة، وإعطاء المتمرّدين جزءًا من مطالبهم، من الجهة الأخرى.


التأثير في جمهورية السودان

تأثّر اقتصاد جمهورية السودان بانفصال الجنوب تأثّرًا كبيرًا؛ إذ فقدت جمهورية السودان ما يزيد عن 70% من عائدات النفط، واعتمدت في سدّ الفجوة في موازنتها السنوية نتيجة ذلك على رسوم عبور نفط دولة جنوب السودان أراضيها إلى ميناء التصدير. ويقدّر المبلغ السنوي الذي يمكن أن يعود على جمهورية السودان من رسوم العبور، بمليارَي دولار سنويًّا. وتأكّدت أهمية هذا المورد، حين أوقف الرئيس البشير عبور نفط الجنوب أراضي الشمال؛ بسبب قيام دولة جنوب السودان بدعم الحركات المتمردة في ولايتَي جنوب كردفان والنيل الأزرق. ودخل السودان، نتيجة لذلك في أزمة اقتصادية؛ إذ تراجعت قيمة الجنيه السوداني أمام الدولار حتى وصلت اليوم إلى 13%. ودفع التردّي الاقتصادي، وعجز الموازنة، الحكومة السودانية إلى رفع الدعم عن المحروقات، ما تسبّب في زيادة الأسعار، واندلاع تظاهرات احتجاجية واسعة، في أيلول / سبتمبر 2013، أخمدتها السلطات، بعد أن سقط فيها مئات القتلى.

ستواجه جمهورية السودان على الأرجح مزيدًا من الصعوبات الاقتصادية؛ بسبب احتمال توقّف ضخّ النفط مرةً أخرى نتيجة الصراع الدائر في الجنوب. وسوف يكون متعذّرًا على الحكومة اتّخاذ أيّ إجراء اقتصادي لسدّ الفجوة، مثل فرض مزيد من الضرائب، بخاصة بعد تظاهرات أيلول / سبتمبر الماضي. ولا يبقى بذلك أمام حكومة السودان سوى طلب العون المالي العربي، في وقتٍ لم تعد الحكومة السودانية تتمتّع فيه بقبولٍ عربي واسع، نتيجة لسياساتها الخارجية ومنظومة تحالفاتها.

من جهةٍ أخرى، سيقود احتدام الصراع على حقول النفط في ولاية الوحدة، وفي ولاية أعالي النيل اللتين لهما حدود طويلة مع السودان، إلى نزوح عددٍ كبير من المواطنين الجنوبيين إلى أراضي جمهورية السودان، ما يحمِّل حكومة السودان أعباء مالية وإدارية وأمنيّة، لا قبلَ لها بها. وقد أخذت ولايات النيل الأبيض وجنوب كردفان في السودان، في استقبال جموع الفارّين من الحرب في دولة جنوب السودان. كما سيقود الاضطراب في المنطقة الحدودية إلى التأثير سلبيًّا في انسياب التجارة الحدودية التي يستفيد منها البلَدان.

وكانت هذه المنطقة شهدت العام الماضي توترًا كبيرًا بين الشمال والجنوب؛ فقد حدثت صدامات مسلّحة حول منطقة أبيي، وهجوم من جيش جنوب السودان على منشآت النفط السودانية في هجليج. وشهدت أيضًا، اتهام حكومة السودان حكومةَ جنوب السودان بدعم الجبهة الثورية التي تحارب حكومة الخرطوم في ولايتَي جنوب كردفان والنيل الأزرق. وأدّت تلك النزاعات إلى إيقاف ضخّ النفط عبر أنابيب الشمال، ما قاد إلى تدهورٍ شديد في الحالة الاقتصادية في الجنوب، وفي الشمال معًا. غير أنّ الجنوب تأثّر أكثر من الشمال، بحكم هشاشة اقتصاده. وبعد جولات من المفاوضات، جرى استئناف ضخّ النفط. وبدا أنّ موقف الرئيس سلفا كير أصبح بعد هذه الأزمة أميلَ إلى الواقعية، وإلى التفاهم مع الخرطوم. في حين اتّخذ خصومه الحاليون بخاصة باقان أموم، ودينق ألور، موقفًا متشددًا من الشمال.


مواقف القوى الدولية والإقليمية

يمثّل جنوب السودان نقطة تقاطع مصالح بين الولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية، والصين؛ فبالنسبة إلى الولايات المتحدة، يمثّل جنوب السودان أهمية خاصة من الناحية الجيوستراتيجية، بخاصة بعد إنشاء القيادة العسكرية لأفريقيا "آفريكوم". في حين يمثّل وجود الشركات الصينية في المنطقة تحدّيًا اقتصاديًّا لنظيرتها الأميركية التي تبدو مهتمّة بفرص الاستثمار في هذه الدولة البكر، في قطاعات الزراعة، والمعادن، والثروة الغابية وغيرها، خصوصًا وأنّ حكومة السودان قبل الانفصال، أبرمت مع الصين عقودًا طويلة الأجل قطعت عليها الطريق إلى قطاع النفط الحيوي في الجنوب. وللبريطانيين مصالحهم أيضًا، بحكم كونهم القوة الاستعمارية السابقة في السودان، وأوغندا، وكينيا. تتحرّك كلّ هذه الأطراف ومعها شركاؤها الإقليميون الآن وبسرعة؛ لاحتواء الأوضاع في جنوب السودان، حتى لا تخرج عن نطاق السيطرة، بخاصة أنّ دول الجوار تشهد بدورها اضطرابات، مثل جمهورية الكونغو، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وكلاهما جاران لجنوب السودان. كما أنّ اندلاع حرب جديدة في جنوب السودان وخروجها عن السيطرة، سوف تكون له آثاره الكبيرة في كلٍّ من أوغندا، وكينيا، وإثيوبيا؛ وهي دول لها حدود مشتركة مع جنوب السودان، وأصبح لها بعد الانفصال، مصالح اقتصادية متنامية معه. لذلك، سوف تضغط هذه الجهات الدولية والإقليمية، بكلّ ما لديها من قوة، لإعادة جنوب السودان إلى حالةٍ من التوافق الداخلي والاستقرار. كما ستحرص هذه الأطراف على استمرار ضخّ النفط الجنوبي عبر أراضي الشمال؛ إذ من دون إنتاج النفط وتسويقه، سوف يصبح الجنوب عبئًا وعالةً على المجتمع الدولي.

من الواضح أنّ دولة جنوب السودان تواجه أخطر أزماتها الداخلية منذ ولادتها قبل عامين، كما يبدو أنّها حملت بذور أزمتها معها عندما انفصلت عن الشمال؛ فالانفصال الذي جرى تسويقه بوصفه حلًّا لقرونٍ من هيمنة الشمال العربي المسلم على الجنوب المسيحي الأفريقي، لا يبدو أنّه أنهى مشاكل الدولة الجنوبية الوليدة، ما يعني أنّ مقاربة الحلّ هو الانفصال، لم تكن صحيحة أصلًا؛ فالحلّ كان وسيبقى في دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. ولا يحتاج جنوب السودان إلى الدخول في صراع مرير وطويل مرةً أخرى، حتّى تتبيّن له هذه الحقيقة.