/ACRPSAlbumAssetList/2023-daily-images/why-did-tunisian-talks-with-the-imf-fail.jpg
تقييم حالة 19 يناير ، 2023

لماذا فشلت مفاوضات تونس مع صندوق النقد الدولي؟

زهير معلم

​أستاذ مساعد في القانون العام بجامعة جندوبة بتونس. حاصل على الدكتوراه في القانون العام من جامعة ليل الفرنسية ومن جامعة سوسة التونسية. تتركز أبحاثه في مجال السياسات العمومية والدراسات الدستورية والانتقال الديمقراطي. مهتم بتجارب التحولات السياسية في منطقة المغرب العربي.

مقدمة

تعيش تونس على وقع أزمة مركبة يختلط فيها المالي بالسياسي والاجتماعي، وقد زاد لجوء رئيس الجمهورية قيس سعيد إلى الإجراءات الاستثنائية في 25 تموز/ يوليو 2021 من غموض الوضع وتعقده؛ فقد بات الانهيار المالي للدولة الاحتمال الأبرز في ظل عجزها عن الخروج إلى الأسواق المالية الثنائية والمؤسساتية، وفي ظل الفشل الذي بات متأكّدًا عبر صدور قانون المالية لسنة 2023 في إقناع صندوق النقد الدولي بحزمة الإصلاحات التي تفرّدت بإقرارها حكومة الرئيس.

تحلّل هذه الورقة دواعي إرجاء البت في مآل مطلب القرض الذي تقدمت به تونس إلى صندوق النقد الدولي رغم صدور قانون المالية لسنة 2023، والذي من المفترض أن يترجم مضمون الاتفاق الحاصل بين الخبراء Staff-Level Agreement في تشرين الأول/ أكتوبر 2022. ولم يشفع في ذلك للحكومة الإجراءات التي اتخذتها لتلبية الشروط التقنية لصندوق النقد الدولي، ولا الاستجابة لرؤيته في ملفات حساسة تمس الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي، ومنها مثلًا: تحقيق توازن مالي قادر على استدامة المالية العمومية، ومراجعة سياسة دعم أسعار المواد الأساسية؛ مثل: الخبز والمواد الغذائية والسكر والزيت النباتي والتي تحظى بدعم مباشر من الدولة يمكّن من عرضها في السوق بسعر أقلّ من سعر تكلفتها، ومراجعة دعم أسعار المحروقات؛ كالبنزين والديزل والغاز السائل، التي زادت الحكومة أسعارها في خمس مناسبات متتالية في سنة 2022، وإلغاء الأسعار التفاضلية عن الكهرباء والماء الصالح للشرب والغاز الموجّه إلى الاستعمال المنزلي.

ويعود فشل الحكومة في الحصول على موافقة الصندوق إلى سببين: أولهما عجز قانون المالية لسنة 2023 عن تحقيق الإصلاحات المنشودة على المستوى الجبائي وعلى مستوى تعديل منظومة دعم الأسعار وإصلاحها، وثانيهما عجز القانون المذكور عن تحقيق التوازن المالي المطلوب.

أولًا: عجز قانون المالية لسنة 2023 عن تحقيق الإصلاحات المنشودة في مجال العدالة الجبائية ودعم الأسعار

قدّم قانون المالية لسنة 2023 رؤية الحكومة للإصلاحات الكبرى التي تعتزم إدخالها بمناسبة إبرام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. ويمكن حصر هذه الرؤية في: تحقيق توازن المالية العمومية عبر الزيادة في المداخيل الجبائية بما يفترض تنفيذ رؤيتها الإصلاحية للمسألة الجبائية، وتنزيل برنامجها لإصلاح منظومة الدعم القائم على "إعادة صياغة سياسات الدعم وآليات التعويض أساسًا عبر المرور من دعم الأسعار إلى الدّعم المباشر"[1]. غير أنّ هذا القانون، على المستوى التقني، أوقع الحكومة في مأزق مع الصندوق؛ إذ لم يقدّم عرضًا مقنعًا لرؤيته للتوازنات المالية المستقبلية للدولة، والتي رغم الزيادة الكبيرة في الجباية بقيت مرتكزة على الاقتراض الداخلي والخارجي، كما وأد نهائيًّا الأمل في انتعاش اقتصادي على المدى القريب أو المتوسّط.

1. محدودية الحلول الجبائية المقترحة

عكس قانون المالية لسنة 2023 محدودية كبيرة في الحلول المتاحة أمام الحكومة؛ حيث التجأت إلى الزيادة في الموارد الجبائية للدولة، من دون أن تأخذ في الحسبان القدرات الحقيقية للمُطالبين بالضريبة، فضلًا عن حالة الركود التي يمر بها الاقتصاد التونسي. فقد صيغ محتوى هذا القانون على فرضية تحقيق نسبة نمو تصل إلى 1.8 في المئة (رغم أنّ البنك الدولي يتوقع نموًا لا يتجاوز 1.3 في المئة لتونس في سنة 2023). وهي فرضية تبيّن عجز منوال التنمية الحالي عن خلق الثروة، ومع ذلك توجّه القانون إلى إقرار أداءات ورسوم جديدة سترهق المُطالبين بالضريبة، ولن تحقق الإصلاحات التي ترمي إلى تطبيق العدالة الجبائية؛ إذ تهدف هذه الإجراءات إلى الزيادة في نسب الضرائب، ولا تسعى إلى توسيع قاعدة المطالبين بالضريبة والحد من التهرب الضريبي كما يدعو صندوق النقد الدولي.

وتظهر قراءة الأرقام الواردة في قانون المالية أنّ الحكومة تعتزم زيادة قدرها 12 ألف مليون دينار (يعادل الدولار الأميركي 3 دينارات تونسية) في الموارد الجبائية في سنة 2023، لتُطوِّر هذه الموارد من 28 ألف مليون دينار، بحسب توقع الميزانية التعديلية لسنة 2022، إلى 40.5 ألف مليون دينار في سنة 2023. إنّ زيادة تناهز الثلث في الموارد الجبائية لدولةٍ أنهكتها الأزمة الصحية (وباء فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19")، ونال الركود الاقتصادي من قدرة فاعليها الاقتصاديين، يثير التساؤل عن جدوى إدراجه، خاصة أنّ تقرير النتائج الوقتية لتنفيذ ميزانية الدولة لسنة 2022 إلى نهاية أيلول/ سبتمبر[2] يفيد أنّ الإدارة الجبائية، رغم التقدم الحاصل بنسبة 17 في المئة في تعبئة الموارد الجبائية (مقارنة بالسنة السابقة)، لم تنجح إلا في تعبئة 25 ألف مليون دينار منها.

وبالعودة إلى محتوى قانون المالية لسنة 2023، يتبين أنّ الزيادة في الموارد الجبائية ستتحقق عبر الوسائل التالية: خلق موارد جبائية جديدة، وتوحيد نسب الضريبة على المؤسسات، ومضاعفة الحد الضريبي الأدنى على فئة النظام التقديري مع الزيادة في نسب الضريبة التضامنية الاجتماعية المفروضة على المؤسسات التي تحقق أرباحًا، والزيادة في الحد الأدنى لهذه الضريبة لجميع أصناف المؤسسات التي لا تحقق أرباحًا، وتوحيد نسب الأداء على القيمة المضافة بالزيادة فيها من 13 إلى 19 في المئة على المهن الحرة، وإحداث ضريبة بنسبة 0.5 في المئة على الثروة العقارية لكل مالك عقارات تفوق قيمتها 3 ملايين دينار، على أن يوكل للإدارة تحديد القيمة التجارية للعقارات.

ممّا تقدّم يتبين أنّ جميع هذه الإجراءات تدور حول الزيادة في قيمة الأداء أو فرض ضرائب جديدة، بما يجعلها تساهم مباشرة في زيادة الضغط الجبائي لدولة مصنفة هي الأعلى على هذا الصعيد في منطقتها[3].

إن الإجراءات المتخذة، علاوة على كونها لا تشكل إجماعًا مع المكون الاجتماعي وممثلي القطاعات المذكورة، على اعتبار رفض الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمات المهن الحرة للإصلاحات المذكورة، فإنّها لن تغري صندوق النقد الدولي الذي يطالب بتوسيع قاعدة المطالبين بالضريبة والحد من التهرب الضريبي وإدراج الاقتصاد الموازي الذي يشكل 52 في المئة من مجموع الاقتصاد الوطني في الاقتصاد الرسمي للدولة[4] ولا يطالب بالزيادة في قاعدة الأداء؛ ذلك أنّ "الإفراط في الضرائب يقتل الضرائب"[5]، والزيادة في نسب الأداء لا تحقق العدالة الجبائية المطلوبة، وإنّما تعمق الشعور بالظلم وعدم المساواة أمام الأعباء العامة، والذي ما فتئ يتعاظم؛ ما قد يدفع إلى المزيد من التهرب الجبائي أو حتى إلى عصيان جبائي كما دعا إليه العديد من ممثلي أصحاب المهن الحرة.

2. قانون المالية يقطع الأمل في انتعاشة اقتصادية قريبة

يغيب عن قانون المالية لسنة 2023 أي توجّه اقتصادي دافع للاستثمار؛ إذ جاء بوصفه قانون "مجبى" يحاول تعبئة المزيد من الموارد الجبائية، بقطع النظر عن أثرها الاقتصادي المدمّر. في هذا السياق، تكفي الإشارة إلى الضريبة الجديدة المسلّطة على تصدير المنتجات المنجمية مثل تصدير الرمل الذي ضُربت عليه أتاوة تصل إلى ضعفين ونصف ثمن قيمته في السوق، أو تصدير الرخام الذي ضُربت عليه أتاوة تصل إلى ضعف ثمنه. وقد كانت ردّة فعل المستثمرين في هذه المجالات الغلق الفوري لمصانعهم؛ ما سيزيد في رفع نسبة البطالة وتأزّم الوضع الاجتماعي. وعمد قانون المالية أيضًا إلى الزيادة في غرامات التأخير في خلاص الضرائب إلى أكثر من ثلاثة أضعاف، وجعل الزيادة تتبع نسقًا شهريًا؛ ما يجعل الغرامة تتعاظم بسرعة لتفوق المبلغ الأصلي المستحق بأضعاف في أقلّ من سنة واحدة؛ وهو ما يعسّر أصلًا واجب خلاص الضرائب نظرًا إلى الانكماش الاقتصادي الحاصل.

يضاف إلى ذلك مراجعة العديد من الامتيازات التحفيزية للمستثمرين؛ فقد كان من المفترض أن يتوجه قانون المالية بإجراءات تحفيزية لاستقطاب الصناعات المعملية المتعثرة من جرّاء الحرب الروسية على أوكرانيا، وتشجيع انتقال عدد مهم من الشركات الأميركية والأوروبية التي تبحث عن ملاذ خارج دوائر التشنجات العالمية؛ إذ تشكل الخبرات التونسية المتعددة واليد العاملة المختصة فرصة مهمّة لهذه الشركات، إلا أن القانون توجّه إلى الحدّ من التحفيز على الاستثمار وغلق الطريق أمام إمكانية الاستفادة من الفرص التي تتيحها التحولات الاستراتيجية العميقة لعدد من دول العالم والمنطقة.

3. محدودية البرنامج الإصلاحي المقترح لمنظومة الدعم

عبر قراءة الأرقام المقدمة في وثيقة "إطار الميزانية متوسّط المدى 2022-2024" والمعطيات الواردة في قانونَي المالية لسنتَي 2022 و2023، يتبين أنّ الحكومة ترغب في توجيه الدعم المباشر إلى الفئات الفقيرة والضعيفة، مقابل رفع الدعم عن المنتجات الأساسية والمحروقات. ورغم أنّ خانات الجداول المعروضة بالميزانية لا تمكّن من فرز الاعتمادات المخصصة لدعم المنتجات الأساسية والمحروقات، بحكم أنها ترد مشتركة في قسم واحد مع الدعم الموجّه إلى المؤسسات العمومية غير الإدارية تحت اسم "نفقات التدخّل"[6]، فإنّ الاستعانة بالوثائق المصاحبة لقانون المالية وبتصريح نايلة القنجي المُكلّفة بوزارة الصناعة والطاقة والمناجم[7]، يمكننا من الوقوف على المعطيات التالية:

  • تراجع تقديرات ميزانية دعم أسعار المنتجات الأساسية والمحروقات إلى أكثر من النصف بين سنتَي2021 و2023، حيث كانت تناهز 6 آلاف مليون دينار في سنة 2021 وقُدّرت بما يقارب 2.5 ألف مليون دينار في سنة 2023. كما أنّ ميزانية الدعم قفزت عمليًّا من 3 آلاف مليون دينار إلى 8 آلاف مليون دينار، على الرغم من لجوء الحكومة إلى تعديل أسعار المحروقات بالزيادة فيها خمس مرات متتالية في سنة 2022.
  • أمّا سياسة الحكومة المتوخاة في توجيه الدعم إلى مستحقيه، فليس لها أثر مالي ملموس في قانون المالية لسنة 2023، باستثناء الزيادة في المنحة الشهرية لجزء من الفئات الفقيرة[8]؛ ما يجعل من السهل الوقوف على عدم التناسب بين حجم رفع الدعم عن المنتجات الأساسية والمحروقات ونسقه وبين توجيهه إلى مستحقيه.

ثانيًا: عجز قانون المالية لسنة 2023 عن تحقيق التوازن المالي المطلوب للمالية العمومية التونسية

لم ينجح قانون المالية في الإجابة عن الأسئلة المتأكّدة والمستعجلة للوضع المالي للدولة الآيل إلى الانهيار؛ فالمبالغ المتوقّعة للتداين سواء من السوق الداخلية أو الخارجية حتى إن تحقّقت فلن تكون كافية إلا لخلاص بعض الديون التي حان أجل سدادها سنة 2023، فضلًا عن عدم واقعية هذه التوقعات. كما لم يقدّم هذا القانون توقّعًا لإيقاف النزيف المالي الذي تتسبّب فيه المؤسسات العمومية المملوكة جزئيًّا أو كليًّا للدّولة؛ إذ استمرّ في تخصيص ما يفوق 20 في المئة[9] من حجم ميزانية الدولة لهذه المؤسّسات عبر دعم مالي مباشر أو ضمانات للاقتراض.

1. عجز ثابت عن تحقيق بدايات التوازن المالي المنشود للدولة

ظهرت بوادر عجز الدولة عن تحقيق التوازنات المالية المنشودة عبر توقعات قانون المالية التعديلي لسنة 2022، وتعزّزت بتوقعات قانون المالية لسنة 2023 الذي نصّ على الزيادة في موارد خزينة الدولة[10] بـ 1017 مليون دينار، لتصل إلى 19690 مليون دينار عوضًا عن 18673 مليون دينار. وأوكل للتداين الداخلي مهمة استخلاص 9278 مليون دينار، في حين ترك للتداين الخارجي استخلاص 11619 مليون دينار. إلّا أنّه بالعودة إلى النتائج الوقتية لتنفيذ ميزانية الدولة في أيلول/ سبتمبر 2022، يتبين أنّ الدولة لم تنجح إلّا في استخلاص نصف تقديراتها للتداين الخارجي. ويزداد الأمر تعقيدًا بالعودة إلى النتائج الوقتية لتنفيذ ميزانية الدولة في حزيران/ يونيو 2022؛ إذ يتضح أنّ الدولة تقريبًا في حالة عجز تام عن الاقتراض الخارجي؛ إذ لم يرتفع رقم استخلاص موارد الاقتراض الخارجي بين حزيران/ يونيو وأيلول/ سبتمبر إلّا بـ 1000 مليون دينار، مسجلًا ارتفاعًا طفيفًا لا يعكس قدرة الحكومة على إقناع الجهات المانحة أو الدول المقرضة. ويزداد الأمر تعقيدًا، إذا أضفنا توقعات قانون المالية لسنة 2023، فقد التجأ في إطار رؤيته للتوازن المالي المنشود إلى توقع تعبئة 14859 مليون دينار من الاقتراض الخارجي و9533 مليون دينار من الاقتراض الداخلي بما يراكم الاحتياجات من الاقتراض الخارجي إلى 20000 مليون دينار، وهي موجّهة جميعها إلى سداد أصول ديون موعدها في سنة 2023؛ أي الاقتراض من أجل سداد ديون سابقة.

إن قراءة الأرقام وحدها كفيلة بإظهار أنّ سياسة الحكومة في تحقيق التوازنات المالية للدولة لن تقنع مجلس إدارة الصندوق؛ إذ من المفترض أن يوجه الاقتراض في جزئه الأكبر إلى الاستثمار من أجل خلق الثروة للخروج السريع من الحلقة المفرغة، وليس إلى سداد النفقات العامة التي لا تعود على الناتج المحلي الإجمالي بأي فائدة.

2. تعمّد إغفال مسألة إصلاح المؤسسات العمومية المملوكة جزئيًّا أو كليًّا للدولة

على المستوى التقني للميزانية، يمكن قراءة سياسة الحكومة تجاه المؤسسات العمومية المملوكة جزئيًّا أو كليًّا للدولة، من خلال خانتين في الميزانية: الأولى تحت عنوان "الموارد غير الجبائية"، والثانية تحت عنوان "نفقات التدخّل". تُعرّف الموارد غير الجبائية بأنّها الموارد المتأتية من استغلال ملك الدولة العام، ومن استثمارات الدولة المالية في مؤسساتها العمومية، ومن الخصخصة. إن النظر في التوقعات التي أقرها قانون المالية في خانة الموارد غير الجبائية، وإن سجلت ارتفاعًا طفيفًا مقارنة بالسنوات السابقة، يُظهر أنّ ذلك يعود إلى ما أقرّه القانون من زيادة في بعض تعريفات استغلال الملك العمومي، وليس من جرّاء تخلّي الدولة عن جزء من أسهمها في بعض المؤسسات العمومية. ويتأكّد هذا التفسير بقراءة الأرقام الواردة في خانة نفقات التدخل التي سجّلت ارتفاعًا بسيطًا، وتنقسم بين نفقات دعم المنتجات الأساسية والمحروقات التي تراجعت إلى النصف وبين التحويلات المالية لفائدة المؤسسات العمومية والتي تتحملها مباشرة ميزانية الدولة والتي زادت بقرابة 3000 مليون دينار في توقعات سنة 2023. من المؤكّد أنّ هذا السبب بالذات يثير قلق خبراء صندوق النقد الدولي؛ إذ ما الفائدة من دعم مؤسسّات موغلة في الإفلاس وليس أمامها أفق للتدارك والإصلاح إلا عبر توافر مشروع إصلاحي جامع يشكّل قاعدة توافق بين فرقاء الوطن الواحد؟

يبدو أنّ قانون المالية لسنة 2023 لم يتطرّق إلى موضوع إصلاحات المؤسّسات العمومية المملوكة للدولة جزئيًّا أو كليًّا لاعتبارين: أولهما أنّ الصندوق يتمسّك، بحسب العديد من التسريبات، بضرورة إمضاء رئيس الدولة على الاتفاق، غير أنه ما فتئ يصرّح بأنّ المؤسّسات العمومية لا تشكّل جزءًا من الاتفاق مع الصندوق وأنّها ليست مطروحة للتداول. إنّ هذا الغموض الذي يعتمده الرئيس مقصود لطمأنة الرأي العام الداخلي، ولكنه مضر بفحوى الاتفاق؛ وهذا ما دفع الحكومة إلى تأخير موضوع إصلاح المؤسسات العمومية على الأقل لفترة أخرى. وثانيهما أنّ الحكومة بصدد إعداد قانون جديد لهذه المؤسسات يحلّ مكان القانون الأساسي لسنة 1989، والذي يطالب الصندوق بتعديله بما يسمح بخوصصة جزء من هذه المؤسسات، وربما يكون من الأرجح أنّ الرئيس ينتظر تصديق مجلس الوزراء على مشروع القانون الجديد حتى يتنصل من تبعاته السياسية.

3. النتائج المتوقعة لفشل اللجوء إلى التداين الخارجي

ليس أمام الحكومة إلا تفعيل اللجوء إلى التداين الخارجي للخروج من مأزق سنة 2023، والتي تتسّم بتزاحم مواعيد استرجاع أصول بعض الديون الخارجية التي جرت الاستفادة منها سابقًا، من دون الحديث عن الفوائض. فإذا كان متاحًا أمام الحكومة المزيد من تفعيل سياسة سندات الخزينة[11]، والتي سجّلت زيادة قدرها 3800 مليون دينار مقارنة بسنة 2021[12]، فإنّ هذا التفعيل سيكون له آثار مدمرة في الاقتصاد الوطني؛ ذلك أنّ الدولة ستستأثر بالسيولة المالية الموجودة من أجل خلاص الرواتب على حساب تمويل الاستثمار، وستساهم أيضًا في زيادة نسب التضخم، والتي ستبلغ أوّل مرّة منذ عقود 11 في المئة سنة 2023، كما توقع البنك المركزي التونسي في بيانه الذي أصدره للعموم بتاريخ 31 كانون الأول/ ديسمبر 2023.

خاتمة

لا يمكن فهم فلسفة قانون المالية إلا من زاوية واحدة، وهي أنّ الحكومة ترجّح احتمال رفض مجلس إدارة الصندوق لمطلبها؛ لذلك راوح محتوى القانون بين محاولة إقناع الصندوق بتبني جزء من اشتراطاته على أمل أن يحظى بموافقة مجلس إدارته حتى بصفة متأخرة وأخذ إمكانية عدم الحصول على دعم الصندوق في الحسبان. والتجأ قانون المالية إلى إثقال كاهل المواطن التونسي، المثقل أصلًا بارتفاع الأسعار والانكماش الاقتصادي، بمزيد من الأداءات التي سيتحملها في نهاية المطاف. وإضافة إلى هذه الهنات التقنية الواردة في قانون المالية لسنة 2023، آلت الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المركّبة إلى آثار سلبية كبيرة، ولم يكن أمام المالية العمومية التونسية إلا نادي باريس حلًّا لجدولة ديونها. فهل سينجح هذا القانون في نفاذ ما رسمه من سياسات مالية للدولة في سنة 2023؟


[1] ينظر: الجمهورية التونسية، "مشروع قانون المالية 2022"، ص 9، شوهد في 13/1/2023، في: https://bit.ly/3QDXFK1

[2] ينظر: الجمهورية التونسية، وزارة المالية، "نتائج وقتية لتنفيذ ميزانية الدولة إلى موفّى سبتمبر 2022"، شوهد في 13/1/2023، في: https://bit.ly/3X6z8zV

[3] "Etudes économiques de l’OCDE, Tunisie," Synthèse (Mars 2018), p. 30, accessed on 13/1/2023, at: https://bit.ly/3ZxcHFy

[4] World Bank & African Development Bank, "Tunisie: Revue des dépenses publiques: Un nouveau pacte pour la transition – Réformer l’Etat pour des dépenses publiques plus efficaces et équitables," Rapport de synthèse (Juin 2020), pp. 16-17, accessed on 13/1/2023, at: https://bit.ly/3iymydF

[5] نظرية للمفكّر الاقتصادي الأميركي Arthur Laffer.

[6] يُقصد بنفقات التدخل، كما ورد في القانون الأساسي للميزانية لسنة 2019، مجموع نفقات دعم الأسعار والتحويلات الموجّهة إلى المؤسسات المملوكة للدولة جزئيًا أو كليًّا، حيث تحدّد لكل وزارة ميزانية باسم نفقات التدخل.

[7] صرّحت القنجي يوم الاثنين 26 كانون الأول/ ديسمبر بمناسبة ندوة صحفية عقدتها حول قانون المالية لسنة 2023 أنّه جرى خلال عام 2022 رصد 5660 مليون دينار لدعم المحروقات. وهذا المبلغ يشكل ضعف التوقعات المرصودة في قانون المالية لسنة 2022.

http://bit.ly/3HcWxtH

[8] تخصّص الدولة التونسية دعمًا ماليًا بسيطًا (بين 150 و250 دينارًا شهريًا) لـ 970 ألف عائلة مصنّفة معدمة وفقيرة، وقد قرّر قانون المالية لسنة 2023 الزيادة في هذه المنحة بـ 20 دينارًا لثلث المعنيين بالدّعم.

[9] ينظر في هذا الصدد التقارير التالية:

The World Bank, "Pour une meilleure gouvernance des entreprises publiques en Tunisie," Rapport, no. 78675-TN (Mars 2014), accessed on 13/1/2023, at: https://bit.ly/3iu1yEY; Fonds monétaire international, “Evaluation de la transparence des finances publiques," Rapport, no. 16/339 (Mai 2016), accessed on 13/1/2023, at: https://bit.ly/3CHKqT2; République tunisienne. Présidence du gouvernement. Livre blanc, rapport de synthèse sur la réforme des entreprises publiques en Tunisie (Mars 2018), accessed on 13/1/2023, at: https://bit.ly/3vYJ7en

[10] تتكوّن موارد الخزينة من موارد الاقتراض الداخلي والخارجي ومن الهبات.

[11] تُعرف سندات الخزينة بأنها سياسة مالية تمكن الحكومة من توفير سيولة مالية بالاستناد إلى سندات تصدرها وزارة المالية، ويقع تصريفها نقدًا عبر البنوك المحلية، وتتحمل آثارها المالية خزينة الدولة.

[12] ينظر: إحصائيات البنك المركزي التونسي بتاريخ 31 كانون الأول/ ديسمبر 2022، شوهد في 13/1/2023، في: https://bit.ly/3HdZc6E