العنوان هنا
دراسات 11 أبريل ، 2019

هل تحكم تكنولوجيا المعلومات على الرأسمالية بالاندثار؟

معالجة منطلقة من تحليل نقدي لكتاب بول ماسون: ما بعد الرأسمالية

إبراهيم العيسوي

أستاذ الاقتصاد المتفرغ بمعهد التخطيط القومي بالقاهرة. عمل سابقًا وكيلًا للمعهد العربي للتخطيط بالكويت. تتركز اهتماماته البحثية في مجالات مبادئ الاقتصاد والإحصاء والاقتصاد الرياضي والاقتصاد القياسي ونظريات التنمية والتخطيط. حاصل على الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة أكسفورد عام 1969.

ملخص

تسعى هذه الدراسة للتعرف إلى أثر تكنولوجيا المعلومات في مستقبل الرأسمالية، انطلاقًا من فحص الحجج التي قدمها بول ماسون في كتاب ما بعد الرأسمالية: دليل لمستقبلنا باعتباره أنموذجًا للتفكير في هذه المسألة. وتبدأ الدراسة بعرض أسس الادعاء بأن الرأسمالية قد دخلت مرحلة الأفول، خاصة أنها تعاني تناقضًا جوهريًا بين نظام للسوق يقوم على الندرة واقتصاد قائم على المعلومات التي تتميز بالوفرة. وقد ناقشت الدراسة ما قدمه ماسون وآخرون من حجج وتنبؤات، وفحصت "الأنماط الجديدة للاقتصاد ما بعد الرأسمالي". وتبين أن المجال لم يزل رحبًا للتعايش السلمي بين الرأسمالية وتكنولوجيا المعلومات وما أفرزته من نماذج جديدة للأعمال. وهذا الاستنتاج لا ينفي أن للرأسمالية تناقضات جسيمة تهدد مستقبلها.

مقدمة

بعدما انتهيت من قراءة كتاب بول ماسون ما بعد الرأسمالية: دليل لمستقبلنا، قررت أن أكتب مراجعة للكتاب على النمط الموجز المعتاد. وعندما شرعت في الكتابة وجدت أنني في حاجة إلى قراءة ثانية للكتاب، بل إلى قراءة ثالثة لبعض أقسامه. وأثناء إعادة القراءة كنت أرجع إلى كتابات أخرى كثيرة ذات صلة بموضوع الكتاب وإلى بعض ما أثاره الكتاب ذاته من تعليقات، وذلك لاستيضاح بعض القضايا، وللتعرف على وجهات نظر مؤيدة أو معارضة لتحليلات الكتاب ونتائجه. وأدركت حينئذ أن هذا الكتاب يحتاج إلى ما هو أوسع وأكثر تفصيلًا من المراجعات المعتادة. ولا يرجع هذا فقط إلى كثرة ما تناوله الكتاب من قضايا وسعي المؤلف لتأسيس مقولاته وتنبؤاته على أساس من بعض نظريات تطور النظم الاجتماعية، واستنادًا إلى معرفته الواسعة بتطورات تكنولوجيا المعلومات، ولا إلى ما أثارته هذه القضايا لدي من كمٍّ وفير من الملاحظات. بل إنه يرجع أيضًا إلى أن الكتاب لا يقدم أفكارًا ينفرد بها مؤلفه، بل إنه يمثل نمطًا من أنماط التفكير في علاقة التطور التكنولوجي بتطور النظم الاجتماعية يتشارك فيه مع كُتّاب آخرين بدرجة أو بأخرى.

إن موضوع الكتاب هو المصير المتوقع للنظام الرأسمالي، وذلك بالنظر إلى ما يظهر فيه من مستحدثات تكنولوجية، ولا سيما تكنولوجيا المعلومات، وكذلك بالنظر إلى ما يعانيه من أزمات اقتصادية وتحديات اجتماعية وبيئية. وهو موضوع قديم وجديد في آن معًا. فقد توالى طرحه منذ الثورة الصناعية وما صاحبها من مآسٍ اجتماعية وما تبعها من تقلبات وأزمات اقتصادية. كما أن الموضوع يطرح في كثير من الأوقات التي يتعرض فيها النظام الرأسمالي لأزمات حادة. وقد تناوله كتّاب ومعلقون وناشطون سياسيون كثر، ذوو نزعات اقتصادية واجتماعية متنوعة. نذكر منهم الاشتراكيين المثاليين/ الطوباويين، والاشتراكيين الماركسيين، والتعاونيين، ودعاة الإصلاح الداعين إلى اقتصاد سوق اجتماعي والداعين إلى دولة الرعاية الاجتماعية Welfare State المعروفة خطأً بـ "دولة الرفاه"، أو إلى الديمقراطية الاجتماعية، والمروجين فكرة الاقتصاد التشاركي أو فكرة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني. ومنهم أيضًا المهمومون بقضايا البيئة والتغير في مناخ العالم الذين بحثوا هذا الموضوع وطرحوا تساؤلات مهمة حول إمكانية استدامة الرأسمالية. وثمة تنبؤات بأن الرأسمالية إلى زوال عاجلًا أو آجلًا. منها ما هو قديم كتنبؤ كارل ماركس وتنبؤ جوزيف شومبيتر، ومنها ما هو حديث كتنبؤ جيريمي ريفكن، وإن تباينت أسباب توصلهم إلى هذه التنبؤات. بل إن لفظ "ما بعد الرأسمالية" Postcapitalism الذي جعله ماسون عنوانًا لكتابه ليس بالجديد. فقد استعمله آخرون من قبل، أبرزهم بيتر دركر الذي قدم في سنة 1994 استشرافًا مستقبليًا لمجتمع ما بعد الرأسمالية. كما أن هذا اللفظ صار متواترًا في الكثير من الكتابات الحديثة مثل كتاب بيتر فريز: أربعة مستَقبَلات: الحياة ما بعد الرأسمالية (2016)، وكتاب نيك سرنسيك وألكس وليامز: اختراع المستقبل: ما بعد الرأسمالية وعالم بلا عمل (2016)، وكتابَيْ أنتوني سنيوريللي: تأملات في ما بعد الرأسمالية، ومانفيستو ما بعد الرأسمالية. ومع ذلك؛ ثمة خلاف بين هذه الكتابات حول ما إذا كان نظام "ما بعد الرأسمالية" يعدّ نظامًا لارأسماليًا أم هو نوع جديد من الرأسمالية. كما أنه لم يزل هناك من الكتابات ما يعارض هذه التنبؤات ويذهب إلى أن الرأسمالية تمتلك القدرة على الصمود أمام التحديات الراهنة.

وثمة سبب آخر للانطلاق من كتاب بول ماسون في مناقشة السؤال الذي اتخذته عنوانًا لهذا المقال، وهو التميز في أسلوب تناول المؤلف للموضوع. ومصدر هذا التميز هو أن ماسون يجمع بين خَصلتين: الأولى هي القدرة على متابعة الأحداث الاقتصادية والسياسية وتحليلها بحكم عمله الصحفي والإعلامي. فالكاتب صحفي بريطاني صاحب عمود في جريدة ذي غارديان The Guardianالشهيرة، كما أنه إعلامي اقتصادي مرموق، حيث يعمل منذ سنة 2014 محررًا للشؤون الثقافية والرقميات في القناة الرابعة البريطانية، ويقدم برنامجًا تلفزيونيًا يكتسب نسبة مشاهدة عالية، وكان قد عمل ثلاث عشرة سنة محررًا للشؤون الاقتصادية في قناة BBC2. ومن خلال عمله الصحفي والإعلامي أتيحت للمؤلف تغطية كثير من الأحداث الاقتصادية والسياسية في عديد من دول العالم، مثل أزمة سنة 2008 المالية والاقتصادية العالمية، والأزمة الاقتصادية في اليونان - وهو ما جعله على معرفة عملية دقيقة بكيفية عمل النظام الرأسمالي بوجه عام وبدقائق عمل النظام المالي في الرأسماليات المعاصرة بوجه خاص- وكذلك الثورات العربية في سنة 2011، وغيرها من الأحداث الجسام. أما الخصلة الثانية فهي القدرة على البحث العلمي الدقيق والعميق. فالكاتب وإن لم يكن من الأكاديميين، فهو باحث متمكن كما يظهر من طريقة كتابته وأسلوب تحليله ومن تعدد مصادر الكتاب الذي بين أيدينا وتنوعها، فضلًا عن كتب أخرى ألفها وذاع صيتها. والجمع بين ممارسة الصحافة الاستقصائية والبحث العلمي جعل المؤلف يتحرر من كثير من القيود التي عادة ما تكبل الأكاديميين وتجعلهم يتحرجون من نقد مفاهيم أو فروض ونظريات مستقرة في الفكر السائد وإن كانت بعيدة عن الواقع. ولذا فهو يظهر في سياق تناوله لمستقبل الرأسمالية جرأة محمودة في التعامل مع الفكر الاقتصادي السائد وفي الكشف عن مثالبه وتناقضاته.

ولعل ما تقدم ذكره بشأن تميز ماسون ضاعف من أهمية كتابه إلى درجة جعلت جيليان تت الكاتبة ومحررة شؤون التمويل في جريدة فايننشال تايمز Financial Times المعروفة بتوجهاتها الرأسمالية تنهي مراجعتها للكتاب بقولها: "حتى إذا كنت تعشق النظام الرأسمالي القائم، فإنه سيكون من الخطأ أن تتجاهل هذا الكتاب"، لأن بول ماسون "ينسج خيوطًا ثقافية عديدة معًا وينتج منها مجموعة من الأفكار المدهشة" ويقدمها "بطريقة جذابة وذكية"، ولذا فإن ما يطرحه ماسون بشأن ما بعد الرأسمالية "جدير بالقراءة المتمعنة من جانب اليمين واليسار على السواء".

وبالنظر إلى الاعتبارات المذكورة آنفًا، وجدت من الملائم التحول من فكرة مراجعة الكتاب إلى اتخاذه مرتكزًا لدراسة القضية التي طرحها، ولفحص ما قدمه من تنبؤات بشأن النظام الجديد الذي سيخلف الرأسمالية.


* هذه المراجعة منشورة في العدد 27 (شتاء 2019) من مجلة "عمران" (الصفحات 25-51)وهي مجلة فصلية محكمة متخصّصة في العلوم الاجتماعيّة، يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

** تجدون في موقع دورية "عمران"  جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.