العنوان هنا
دراسات 30 أبريل ، 2019

نيتشه: الحس النقدي أساس المعرفة المرحة

المولدي عزديني

أستاذ في جامعة صفاقس - تونس، وعضو الهيئة العلمية للمركز العربي للتربية والديمقراطية بتونس. حاصل على الدكتوراه في الفلسفة الحديثة والمعاصرة. له العديد من المقالات والمساهمات والمداخلات باللسانَين العربي والفرنسي، وله عدّة مؤلفات من بينها: "النقد الفلسفي للذات المفكِّرة عند ديكارت" (2008)، و"اليقظة والالتباس عند موريس مرلو-بونتي" (2013)، و"دراسات في فلسفة نيتشه" (2013)، و"تساوق الأنطولوجي والسياسي في الأثر الفني: كيان الفنان وسؤال الأوطان" (2021)، و"تدبير النقد وتحرير الإنسان عند هربرت ماركوز" (2022).

ملخص

يسعى هذا المقال إلى بيان ما في "المعرفة المرحة" عند نيتشه من استفهامات فلسفية ذات نسب بالحياة، سواء أكان جحودًا لها مع العقل المجرد، أم اعترافًا بها مع "الفكر الحر". وقوام فلسفة الحياة مع نيتشه جملة الردود النقدية التي تشكك في القول بإرادتي المعرفة والحقيقة، ومرادها تثبيت الرابطة الفلسفية الناشئة معه، بين المعرفة والحياة. فكلتاهما تخدم الإنسان، من جهة أسلوب الحياة ونمط المعرفة التي تتخطى التجريد الكلاسيكي لصورة الإنسان. والفكر الحر هو الذي سيشكل الحيّز الأرحب، ومنه درب "العقل الحصيف" الذي يشتغل، على نحو نقدي متجاسر، على الدغمائيات التي من شأن الفعل الحيوي "بضربات المطرقة" جعلها متهافتة. وعليه، يطرح العقل الفاعل بحس نقدي أسئلة الإنسان المقدر لذاته، من جهة جدارته بالحياة فيما وراء الخير والشر.

"في أصل مفهوم ’المعرفة‘: لقد استوحيت هذا التفكير في الشارع عندما سمعت رجلا من الشعب يقول: ’لقد عرفني‘! وتساءلت عند سماعي هذه الكلمات ما الذي يقصده العوام بالمعرفة. إلى ماذا يسعى عندما يسأل عنها؟ لا شيء غير ذلك: إرجاع شيء ما غريب إلى شيء ما ’معروف‘. ونحن معشر الفلاسفة، ما هو الشيء الذي نضيفه إلى هذه الكلمة؟ المعروف أي ما معناه الأشياء التي اعتدنا عليها بشكل لا تعود معه تدهشنا".

مقدمة

كان زرادشت الفيلسوف قد استخلص من عالم الفكر والحياة أن "لكل واحة أصنامها". ومما يتعافى به عالم تطوقه قداسة التصنيم انتهاج مسلك النقد. غير أن الفعل النقدي لم يكن حكرًا على فلسفة فريدريش نيتشه (1844-1900) لوحدها. ولعلنا نرى في كامل تاريخ الفلسفة تقريبًا ومنذ سقراط وأفلاطون مقدرة الفيلسوف على التوجه نقديًا في التفكير، فلقد تعمق هذا التوجه تخصيصًا في الفلسفة الحديثة مع الفيلسوف الألماني إيمانويل كنط (1724-1804). غير أن "نيتشه يقدم نفسه ناقدًا للنقد الكنطي" في معظم الأحيان. وذلك من خلال محاورته الفلسفية في أكثر من نص له. ومع ذلك، يظل منعطف الفلسفة النقدي في التاريخ المعاصر مقترنًا، إلى حد كبير، بما أودعه نيتشه في عالم الأفكار من أسلوب متميز في الممارسة النقدية، وبخلاف ما عهدناه فيها، من صورة كان قد رسمها المشروع الكنطي، أو حتى في صورها السابقة، واللاحقة، على نقد العقل لذاته. ويرد ألق جذرية الحس النقدي النيتشي مقارنة بالكنطي، أنه تعدى المستوى المعرفي المحض ليتواشج مع الحياتي.

إن الحياة منتجة لجملة القيم، ومتى كانت هذه الحياة في تهاوٍ حد الوهن، صارت القيم على غاية من الانحطاط. غير أن القيم تستحيل، في المقابل، إلى رفيعة، متى كانت منظوريتنا بشأنها أكثر تعظيمًا للمتعافى منها، فالحس النقدي الذي تحتاجه استقامة الفكرة الفلسفية هو الذي يمسك بما في الكتابة من عدم وضوح، وما في الفكر من عفن، وبما ليس من الحياة في شيء. ففي الوثوقي من عالم الأنساق الفلسفية، لطالما تفرد الدغمائيون بحمل الكثير من الأقنعة؛ لتكون حجابًا مانعًا للحياة نفسها. وعليه، تجاسر الفيلسوف الألماني نيتشه، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، على التوجه بالنقد المزلزل ضد من حال دون التواؤم بين الفلسفي والحياتي، فأنكر عليه بعضهم حدة كلمته لما تتوفر عليه من جرأة في القول والكتابة، حد اتهامه بالمارق عن مملكة النسق. إذ مارست هذه الأخيرة الكثير من الغواية على بعض العلماء والميتافيزيقيين واللاهوتيين والفلاسفة ما مارسته. وهكذا، كان يقول فيهم: "لقد وصفوا أعمالي بمدرسة الشك، بل أكثر من ذلك، بمدرسة الازدراء، كما وصفوها، لحسن الحظ، بمدرسة الشجاعة، بل بمدرسة الجسارة. في الحقيقة، إنني أعتقد أنا أيضًا أن لا أحد قد نظر إلى العالم بشك في عمق شكي، وليس فقط كمحامي الشيطان، عند الاقتضاء، بل كذلك، وحتى أتكلم مثل الفقهاء، كعدو الإله ومتهمه". تتمثل الفضيلة المبدئية للحس النقدي في تعرية ما في الخانة الرمادية من حداثة أوروبا، من نزوع نحو العدمية السلبية.


* هذه المراجعة منشورة في العدد 28 من مجلة "تبيّن" (ربيع 2019، الصفحات 7-34)، وهي مجلة فصلية محكّمة يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات وتُعنى بشؤون الفكر والفلسفة والنقد والدراسات الثقافية.

** تجدون في موقع دورية "تبيّن" جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.