العنوان هنا
تقييم حالة 06 سبتمبر ، 2020

إعلان وقف إطلاق النار في ليبيا: الدوافع والدلالات

أحمد قاسم حسين

باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومدير تحرير دورية "سياسات عربية"، ومدير تحرير الكتاب السنوي "استشراف للدراسات المستقبلية". عمل أستاذًا مساعدًا في كلية العلوم السياسية بجامعة دمشق. حاصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة فلورنسا بإيطاليا. له العديد من الأبحاث والدراسات المنشورة في مجال العلاقات الدولية. تتركز اهتماماته البحثية في نظريات العلاقات الدولية. صدر له كتاب "الاتحاد الأوروبي والمنطقة العربية: القضايا الإشكالية من منظور واقعي" (المركز العربي، 2021). حرّر العديد من الكتب، منها: "ليبيا: تحديات الانتقال الديمقراطي وأزمة بناء الدولة" (المركز العربي، 2022)؛ "حرب حزيران/ يونيو 1967: مسارات الحرب وتداعياتها" (المركز العربي، 2019)؛ "استراتيجية المقاطعة في النضال ضد الاحتلال ونظام الأبارتهايد الإسرائيلي: الواقع والطموح" (المركز العربي، 2018).

مقدمة

أعلنت حكومة الوفاق الوطني الليبية، المدعومة من الأمم المتحدة، وقفَ إطلاق النار في جميع أنحاء ليبيا، وأصدر رئيسها فايز السراج تعليماتٍ إلى القوات التابعة لحكومته مفادها الالتزام الفوري بوقف إطلاق النار، وإنهاء جميع العمليات القتالية في جميع أنحاء الدولة[1]. وتزامنت دعوة السراج مع طلب رئيس مجلس النواب في طبرق، عقيلة صالح، المتحالف مع اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يتخذ من الشرق الليبي مقرًّا له، وقفًا لإطلاق النار، على نحو فوريّ، وكل العمليات القتالية في جميع أنحاء البلاد، وأبدى تطلعه إلى أن تكون مدينة سرت مقرًّا مؤقتًا للمجلس الرئاسي الجديد، يجمع كل الليبيين ويقربهم[2].

لاقت هذه الدعوة من طرفَي النزاع الليبي ترحيبًا من بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا[3] وعدد من الدول ذات التأثير في مسار الأزمة الليبية، وهو ما بدا بمنزلة "إعلان هدنة" بين طرفَي النزاع، وهذا الأمر يثير مجموعةً من التساؤلات حول دوافع الطرفين إلى إعلان وقف العمليات العسكرية في ليبيا على نحو متزامنٍ، واحتمالات أن تشكّل الدعوة إلى وقف إطلاق النار أساسًا يمكن البناء عليه في إطلاق عملية سياسية في بلد مزَّقته الحروب والتدخلات الخارجية.

أولًا: نقاط التوافق والتباين في إعلانَي وقف إطلاق النار

مثّلت الدعوة إلى وقف إطلاق النار من جانب السراج وصالح "بارقة أمل" لدى الليبيين بشأن الخروج من أتون الحرب الأهلية التي تعصف بالبلاد، منذ الانقسام السياسي عام 2014؛ إذ جاء في مقدمة كِلا البيانين، طلب الحكومة ومجلس النواب وقف إطلاق النار فوريًّا، وكافة العمليات القتالية في جميع أنحاء البلاد[4]. وعلى الرغم من أن الخطوط العامة في البيانين تكاد تكون مشتركة ومتوافقة؛ كالدعوة إلى وقف إطلاق النار، واستئناف تصدير النفط، واسترجاع السيادة الوطنية وخروج القوات الأجنبية والمرتزقة، فإن صياغة العبارات الواردة في كليهما تحمل تفسيرات وتأويلات مختلفة، تعكس عمق الخلافات والتناقضات في مقاربة الطرفين لحل الأزمة، انطلاقًا من وقف العمليات العسكرية في البلاد.

1. سرت والجفرة

ورَد في البيانَين ذكرٌ لسرت والجفرة اللتين تسيطر عليهما قوات حفتر لأهميتهما الاستراتيجية، فهما تشكلان خطوط المواجهة الحالية بين قوات حفتر وقوات حكومة الوفاق الوطني، ذلك أنّ مَن يبسط سيطرته العسكرية على سرت يستطيع أن يتحكم في الطريق الساحلي الممتد نحو 350 كيلومترًا مرورًا بالهلال النفطي ذي الأهمية الاستراتيجية، ومن يسيطر على الهلال النفطي، الذي يمتد من ميناء الزويتينة شمال شرق أجدابيا مرورًا بالبريقة وراس لانوف وصولًا إلى ميناء السدرة على الطريق الساحلي المؤدي إلى سرت والمنطقتين الوسطى والغربية[5]، يحكم قبضته على الاقتصاد الليبي. أما الجفرة التي تقع فيها قاعدة جوية مهمة عسكريًا، فتتيح السيطرةُ عليها تأمينَ المنطقة الشرقية والوسطى، وكذلك المدن التي تقع غرب مدينة سرت.

دعا بيان رئيس حكومة الوفاق الوطني إلى أن تصبح "مدينتَا سرت والجفرة منزوعتَي السلاح وتقوم أجهزة شرطية من الجانبين بالاتفاق على الترتيبات الأمنية داخلهما"، في حين جاء بيان رئيس مجلس النواب في هذا الصدد كما يلي: "[...] وقف إطلاق النار وجعل مدينة سرت مقرًّا مؤقتًا للمجلس الرئاسي الجديد ويجمع كل الليبيين ويقربهم، وتقوم قوات شرطية أمنية رسمية من مختلف المناطق بتأمينها"، في محاولة لتحييد سرت وجعلها مدينة خارجة عن سيطرة الحكومة والبرلمان؛ وذلك تمهيدًا، وفق بيان صالح، لتوحيد مؤسسات الدولة باعتبارها مرحلة توافقية أساسية من مراحل البناء، على أن تستكمل الترتيبات العسكرية طبقًا للمسار التفاوضي (5+5)، برعاية بعثة الأمم المتحدة، فور الاتفاق عليها وإعلانها رسميًّا. وتجدر الإشارة إلى أن الترتيبات العسكرية التي جاءت في بيان صالح هي ذاتها التي جاء على ذكرها صراحة إعلان القاهرة[6]، وأنّ إشارته إلى ذلك الإعلان لم تأتِ عبثًا؛ إذ يحاول صالح جاهدًا أن يقنع المصريين بأنه قد آن الأوان لتخفيف الرهان على الحصان الخاسر (خليفة حفتر) وتقديم الدعم اللازم له؛ باعتباره الفاعل المؤثر في المنطقة الشرقية.

2. قطاع الطاقة في ليبيا

مثّل موضوع النفط واستئناف تصديره واحدًا من البنود الأساسية في البيانين؛ حيث جرَت الدعوة إلى استئناف إنتاج النفط وتصديره وتجميد إيراداته، لكن الاختلاف في هذا المجال يتمثّل في أن بيان السراج أشار، على نحو مباشر، إلى أنْ يتم إيداع إيرادات النفط في حساب خاص بالمؤسسة الوطنية للنفط لدى المصرف الليبي الخارجي، في حين لم يأتِ بيان صالح على ذكر المؤسسة الوطنية للنفط، وهي المؤسسة التابعة لحكومة الوفاق الوطني. وبحسب بيان السراج، فإنه يتمّ صرف هذه الإيرادات بعد التوصل إلى ما سماه السراج نفسُه "ترتيبات سياسية" جامعة، في محاولة منه للحفاظ على مخرجات اتفاق الصخيرات، باعتباره الاتفاق السياسي الليبي الذي يجب أن تجري المرحلة الانتقالية بناءً على مواده، في حين أشار صالح إلى "تسوية سياسية"؛ ما يفتح الباب أمام اتفاق جديد، وإلغاء ضمني لاتفاق الصخيرات الذي جاء بحكومة الوفاق الوطني. كما برز الخلاف في مرجعية تلك الترتيبات/ التسوية السياسية في كلا البيانين؛ ففي حين مثّل مؤتمر برلين في بيان السراج المرجعية الأساسية، بدعمٍ مِن بعثة الأمم المتحدة، أشار صالح في بيانه إلى إعلان القاهرة، بضمانٍ مِن بعثة الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية والدول الداعمة لإحلال السلام في محاولةٍ لإرضاء القوى الداعمة له.

3. القوات الأجنبية والمرتزقة

اتفق السراج وصالح على مسألة استرجاع السيادة الوطنية الكاملة على التراب الليبي وخروج القوات الأجنبية والمرتزقة، إلا أن بيان صالح جاء فيه ذِكْرٌ لـ "تفكيك الميليشيات"، في إشارة واضحة إلى الفصائل المسلحة في غرب ليبيا التي لها دور أساسي في تحقيق قوات حكومة الوفاق الوطني نصرها على حفتر، وذلك في محاولة لإبراز ضعف حكومة الوفاق كأنها أسيرةٌ لتلك الفصائل المسلحة التي تعتمد اعتمادًا أساسيًّا عليها. وفي هذا الصدد رحبت مبعوثة الأمم المتحدة إلى ليبيا بالإنابة، ستيفاني ويليامز، بالمبادرتين، وأعربت عن أملها في أن يفضي وقف إطلاق النار إلى الإسراع في تطبيق توافقات اللجنة العسكرية المشتركة "5+5"، وبدْء ترحيل جميع القوات الأجنبية والمرتزقة الموجودة على الأراضي الليبية. وبحسب ويليامز، فإنّ في تنامي النفوذ الروسي، خاصة عبر مجموعة "فاغنر"، خطرًا لا يهدد مصالح الولايات المتحدة في ليبيا فحسب، بل في شمال أفريقيا أيضًا[7].

4. الانتخابات

حدد السراج في بيانه موعدًا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية (آذار/ مارس 2021)، وذلك وفق قاعدة دستورية مناسبة يتم الاتفاق عليها بين الليبيين، في حين جاء في بيان صالح ذِكْرٌ لإطلاق عملية انتخابية غير محددة، سواء أكانت برلمانية أم رئاسية، وإتاحة الفرصة للجميع من دون تهميش أو إقصاء. لكن سرعان ما أعلن المجلس الأعلى للدولة في ليبيا على لسان المتحدث باسمه، محمد بن نيس، أن أي حوار سياسي يجب أن يكون بين هيئات وشخصيات منتخبة، وأن المجلس يرفض بشدة التفاوض مع حفتر[8]، كما عارض الناطق العسكري باسم حفتر، أحمد المسماري، هذه المبادرة واعتبر أنها مبادرة للتسويق الإعلامي فقط[9]. وهو ما يدل على الصعوبات في تطبيق وقف فوري لإطلاق النار بسبب تعقيدات المشهد السياسي والعسكري في ليبيا.

ثانيًا: الدوافع الداخلية لإعلان وقف إطلاق النار

مثّل انتصار القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني والفصائل العسكرية المتحالفة معها على قوات حفتر، بعد نحو عامٍ من شنّ الأخير حربًا على العاصمة طرابلس في 4 نيسان/ أبريل 2019، عاملًا مهمًا في تغيير المشهد السياسي والعسكري في ليبيا؛ إذ انتقلت قوات حكومة الوفاق من الدفاع إلى الهجوم، واستطاعت بسط سيطرتها على عدد من المدن الليبية غرب العاصمة[10]، واسترداد قاعدة الوطية العسكرية التي كانت تُعدّ أحد المواقع المتقدمة لـقوات حفتر في المنطقة الغربية ومركز إمداد لقواته وعناصر المرتزقة المتحالفة معه، كما كانت طائرات تابعة لحفتر تستهدف، انطلاقًا من الوطية، المدنيين في طرابلس والزاوية، ومدنًا ليبية أخرى تقع تحت سيطرة حكومة الوفاق الوطني[11].

شجّع هذا التقدم العسكري قوات حكومة الوفاق مواصلةَ تحريرها للمدن التي كانت قوات حفتر قد سيطرت عليها في المنطقة الغربية، بما في ذلك سرت والجفرة اللتان بات تحريرهما "أشد إلحاحًا من أي وقت مضى، وباتت سرت أكثر الأماكن خطورة على الأمن والسلم في ليبيا"[12]، كما قال الناطق باسم قوات حكومة الوفاق الوطني، محمد قنونو، خاصة بعد أن انتشر فيهما المئات من المرتزقة التابعين لشركة "فاغنر" الروسية، فضلًا عن مرتزقة من جنسيات أخرى.

من خلال نظرة فاحصة إلى المشهد العسكري في ليبيا، نخلص إلى أن القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني، والفصائل المتحالفة معها، ليس لديها القدرة العسكرية على تحقيق وبسط سيطرتها على سرت والجفرة، والاستمرار في التقدم شرقًا للسيطرة على المنطقة الممتدة من الهلال النفطي إلى الحدود المصرية. ويمكن إرجاع ذلك أساسًا إلى البنية العسكرية لقوات حكومة الوفاق الوطني، فهي ليست جيشًا نظاميًا، بل إنها مزيجٌ من بقايا الجيش الليبي، ومجموعة من الفصائل المتحالفة في طرابلس ومحيطها؛ إذ يوجد في المنطقة الغربية عدد كبير من الكتائب المسلحة ذات المشارب الأيديولوجية والسياسية والجهوية المختلفة، ويوجد فيما بينها خلافات وتناقضات كثيرة وصلت إلى حدِّ الاحتراب، على نحو يجعل رَصْد خريطة تحالفاتها وأسباب تحركاتها الميدانية أمرًا صعبًا. كما تميزت علاقتها بحكومة الوفاق بالتوتر؛ فتارة تكون قريبة منها، وتارة أخرى تدخل في نزاع وخلاف سياسي معها. لذا، فإنّ أقصى ما تطمح إليه قوات حكومة الوفاق، بعد دحر قوات حفتر، هو الدفاع عن المناطق التي تسيطر عليها والحفاظ عليها. إضافة إلى أن مغامرة حفتر في المنطقة الغربية مثّلت درسًا مستفادًا لقوات حكومة الوفاق الوطني؛ فقد أخفق حفتر في بسط سيطرته على طرابلس ومحيطها، على الرغم من محاولاته الحثيثة المتعلقة ببناء تحالفات قبلية - جهوية سهّلت آنيًّا سيطرته على بعض المناطق، وكذلك الدعم الكبير، العسكري والمالي والسياسي، من جهة الإمارات والسعودية ومصر، واستعانته بمرتزقة مجموعة "فاغنر" الروسية، وعناصر من قوات الدعم السريع السودانية التابعة لمحمد حمدان دقلو (حميدتي)[13].

وبناءً عليه، يدرك طرفَا الصراع في ليبيا أن بسط السيطرة على ليبيا هدفٌ بعيد المنال؛ فالدولة الليبية هشة فاقدة القدرة على ممارسة مهمّات الحكم الأساسية ووظائفه، وفاقدة أيضًا القدرة على تأسيس علاقة ذات معنى وإيجابية مع المجتمع، كما أنها تعرّضت لهزّات داخلية شديدة أدّت إلى انهيار معظم مؤسساتها؛ ما تسبب في استياء شعبي واسع في الأقاليم الثلاثة التي تشكل ليبيا؛ برقة، وطرابلس، وفزان.

لقد قاد الصراع الدائر في ليبيا إلى استنزاف أصول الاقتصاد الليبي ومقدراته، وتراجعت إيرادات النفط على خلفية تدني الإنتاج، وساهمت معارك السيطرة على الهلال النفطي في ازدياد تدهور الوضع الاقتصادي للبلاد؛ إذ قدرت المؤسسة الوطنية للنفط خسائر ليبيا بنحو 9 مليارات دولار أميركي من جرّاء إغلاق حقول ومنشآت نفطية من جانب قوات تابعة لحفتر منذ كانون الثاني/ يناير 2020[14]، في بلد معظم إيراداته من قطاع النفط، وأصبح المواطن الليبي يفتقد أبسطَ مقومات الأمن والاستقرار، ويعاني أزمات شحّ المياه وانقطاع التيار الكهربائي، وشبه انهيار في النظام الصحي بسبب أزمة كورونا؛ إذ شهدت ليبيا تفاقم الوضع الوبائي خاصة في مدينتَي طرابلس ومصراتة، وكذلك الجنوب[15]، وفق بيانات المركز الوطني لمكافحة الأمراض، وهو ما يعرض شرعية طرفَي الصراع الليبي للخطر.

في هذا السياق، جاءت دعوة وقف إطلاق النار انطلاقًا من ثقة طرفي الصراع بعدم قدرتهما على الحسم بالقوة؛ فلا حكومة الوفاق الوطني في طرابلس قادرة على ذلك، ولا مجلس نواب طبرق المدعوم من حفتر لديه القدرة العسكرية على تحقيق النصر الكامل، وهذا ما قد يمثل أرضية مناسبة للعودة إلى مسار الحل السياسي، ويسهم في الوقت ذاته في عقلنة حسابات الأطراف المحلية في ليبيا، في ظل تقاطع مصلحة رئيس حكومة الوفاق الوطني، فايز السراج، ورئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، من خلال القبول بوقف إطلاق النار.

ثالثًا: مواقف القوى الدولية والإقليمية

لا يخفى حجم التدخلات الدولية والإقليمية في مسار الأزمة الليبية من خلال الدعم العسكري والسياسي الذي تقدمه العديد من الدول إلى الفرقاء الليبيين. وتسود حالة من التناقض في مقاربات تلك الدول لحل الأزمة الليبية، وتوجد مؤشرات عديدة على حالة عدم التوافق فيما بينها تجاه مسار الأحداث في ليبيا.

دوليًّا، لم تُظهر الولايات المتحدة علامات التأثير الفعلي في مسار الأزمة الليبية يتناسب مع حجمها وثقلها بوصفها قوةً عظمى، وبدا الموقف الأميركي تجاه ليبيا غير مبالٍ؛ ما ساهم في زيادة حجم اللاعبين الدوليين والإقليميين، ومن بينهم حلفاء لواشنطن (تركيا، ومصر، والإمارات، وفرنسا، وإيطاليا)، وفي تعقيد المشهد الليبي. وفي حين لم تُبدِ إدارة الرئيس دونالد ترامب أي اهتمام في تحقيق تسوية سياسية، فإن إدارته رحّبت ببيانَي وقف إطلاق النار، على غرار ترحيبها بمبادرات وبيانات صدرت حول الأزمة الليبية، ودعت جميع الفصائل في ليبيا إلى دعم المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة، من أجل وقف إطلاق نارٍ مستدام والموافقة على العودة الفورية إلى المفاوضات السياسية التي تسهّلها الأمم المتحدة[16]. أما الاتحاد الأوروبي، فعلى الرغم من تأييده وقف جميع الأنشطة العسكرية في جميع أنحاء ليبيا، وتشديد الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة والأمنية، جوزيف بوريل، على مغادرة جميع المقاتلين والمرتزقة الأجانب الموجودين في ليبيا، واستئناف عملية التفاوض في إطار عملية برلين التي تقودها الأمم المتحدة[17]، فإن بروكسل لم تستطع تقديم مبادرة سياسية متكاملة عبر المؤتمرات التي تناولت الشأن الليبي في عدد من عواصم ومدن دول الاتحاد الأوروبي (باريس، وباليرمو، وبرلين)؛ ذلك أن التنافس الفرنسي - الإيطالي على النفوذ والسيطرة في ليبيا مثّل عاملًا حاسمًا في عدم قدرة الاتحاد، بوصفه منظمة دولية، على تحقيق تقدم في مسار الأزمة الليبية. وقد اكتفى الاتحاد بالحفاظ على مقاربة أمنية بحتة تجاه الأزمة الليبية، من خلال ضبط حدود ليبيا الجنوبية والشمالية والسيطرة عليها؛ بهدف ضبط الهجرة غير النظامية وما يرتبط بها من تهديدات أمنية وتداعيات اقتصادية، باعتبارها أولوية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء. وفي ظل غياب الدور الأميركي، وارتباك في الدور الأوروبي، دخلت روسيا على خط الأزمة الليبية من خلال دعمها قوات حفتر، وهي ترى في وقف إطلاق النار مصلحة لها من خلال حفاظها على نفوذها في إقليم برقة، ثمّ إنّ روسيا، في هذه الفترة، لا تطمح إلى تصعيد علاقاتها بتركيا، وهو أمر حيوي بالنسبة إلى دور روسيا في سورية، حيث بدد الجانبان، التركي والروسي، خلافاتهما بشأن الأزمة الليبية في مطلع عام 2020، من خلال مباحثات مطولة بين مسؤولي الدولتين حول الأزمة الليبية، وكانت نتائج هذا التنسيق دعوة روسيا طرفَي النزاع في ليبيا إلى محادثات في كانون الثاني/ يناير 2020، لكن من دون توصلٍ إلى اتفاق بينهما.

إقليميًّا، تسعى كل من مصر والسعودية والإمارات، من خلال تقديم كامل الدعم السياسي والعسكري لحفتر، إلى الحفاظ على الوضع القائم حاليًّا، وتثبيت خطوط المواجهة مع قوات حكومة الوفاق الوطني في سرت والجفرة بعد هزيمة حفتر في طرابلس ومحيطها. أما تركيا، الحليف السياسي والعسكري لحكومة الوفاق الوطني، فهي راضية عن التقدم العسكري الذي حققته قوات الوفاق والفصائل المتحالفة معها. وبناءً عليه، لا توجد مصلحة لدى تركيا ومصر لرفع مستوى المواجهة العسكرية استنادًا إلى تقديراتهما القوة العسكرية لحلفائهما في ليبيا، ولا سيما أن رفع مستوى هذه المواجهة بين قوات الوفاق وقوات حفتر في سرت ومحيطها سيتطلب من تركيا ومصر، ومن يساند الأخيرة (الإمارات والسعودية)، زيادة الدعم المالي والعسكري لحلفائهما، وهو ما قد يؤدي إلى مزيد من التأزم في العلاقات بين مختلف الأطراف، ولا سيما أنها في أسوأ مراحلها نتيجةً للاختلافات تجاه قضايا عديدة في المنطقة، أهمها التصعيد بين تركيا من جانب، وقبرص واليونان وإسرائيل ومصر من جانب آخر، بشأن الحقوق الاقتصادية في شرق البحر المتوسط. لذا، لا تطمح تركيا إلى مزيد من التصعيد في المرحلة الحالية في الساحة الليبية، وخصوصًا أنها حققت هدفين استراتيجيين من تدخلها في الشأن الليبي؛ هما اتفاقية تعيين حدود المناطق الاقتصادية الخالصة، والامتياز المحتمل لاستخدام قاعدة مصراته البحرية[18]. كما أن مصر، الداعم العسكري والسياسي الرئيس لحفتر، راضية أيضًا عن الحفاظ على خط المواجهة الحالي والسيطرة الكاملة لقوات حفتر على منطقة الهلال النفطي؛ فمصر لا تريد الزج بوحدات جيشها في صراع طويل الأمد، وهو ما سيكون له تداعيات على نظام الحكم السلطوي الذي يعتمد على نحو أساسي على إحكام قبضة الجيش على كافة النشاطات الاقتصادية والسياسية في الدولة. وبناءً على ذلك، تُعدّ الإمارات الفاعل الوحيد الذي يمكن أن يكون غير راضٍ عن الهدنة، وهي التي تجد في التقسيم الفعلي للبلاد السبيل الأمثل لتعزيز مصالحها الاقتصادية.

خاتمة

على الرغم من وجود مجموعة من العوامل المحلية والإقليمية والدولية التي تدفع نحو تثبيت خطوط المواجهة ووقف العمليات العسكرية، فإنها لا تدل على أننا سنكون أمام تسوية سياسية وحل للأزمة الليبية، ونتبيّن ذلك من خلال صياغة كل طرف لبيانه على نحو يتمسك بمقاربته لحل الأزمة الليبية. لذا، فإن الدعوة إلى وقفٍ فوري لإطلاق النار ترتبط بالحسابات السياسية والعسكرية للطرفين المتصارعين في ليبيا؛ فمن غير المرجح أن تتمكن حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، ومجلس النواب في طبرق من إقناع الفصائل والكتائب المسلحة بتسليم أسلحتها لتشكيل جيش موحد وقوة أمنية، وتخفيف التوتر في خطوط المواجهة الجديدة في سرت ومحيطها. من ناحية أخرى، يرتبط وقف العمليات العسكرية في ليبيا بالتحولات في المشهد الإقليمي والدولي؛ إذ لا يمكن أن يتمَّ تنفيذٌ فعليٌّ لوقف إطلاق النار في ليبيا من دون كف يد القوى الإقليمية والدولية، فعليًّا، عن التدخل في الشأن الليبي، وإفساح المجال لجهود بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، كي تتواصل مع القوى السياسية والعسكرية في ليبيا؛ لفتح حوار شامل يفضي في نهاية المطاف إلى اتفاقية تسوية Settlement تؤسس لمرحلة انتقالية، على غرار توقيع الاتفاق السياسي الليبي في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2015، في مدينة الصخيرات المغربية، الذي جاء بتوافقٍ نسبيٍّ بين القوى المحلية والإقليمية والدولية، داعمٍ للعملية السياسية في ليبيا.


[1] “Libya: Rival Authorities Declare Immediate Cease-fire,” DW, 21/8/2020, accessed on 25/8/2020, at: https://bit.ly/3b3CY5u

[2] "عقيلة صالح يدعو إلى وقف إطلاق النار واستئناف إنتاج النفط وإجراء انتخابات"، ليبيا أوبزرفر، 21/8/2020، شوهد في 25/8/2020، في: https://bit.ly/2YJbSf4

[3] Stephane Dujarric, “Statement Attributable to the Spokesman for the Secretary-General on Libya,” United Nations Support Mission in Libya, 21/8/2020, accessed on 25/8/2020, at: https://bit.ly/3b7hy7m

[4] ينظر: "بيان رئيس مجلس النواب"، موقع مجلس النواب الليبي، 21/8/2020، شوهد في 25/8/2020، في: https://bit.ly/2EEfisF؛ "بيان رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني"، صفحة المكتب الإعلامي لرئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، فيسبوك، 20/8/2020، شوهد في 25/8/2020، في: https://bit.ly/31HuDBf

[5] "معركة الهلال النفطي في ليبيا: صراع النفوذ ومسارات التشظي"، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 10/7/2018، شوهد في 25/8/2020، في: https://bit.ly/2QRWed7

[6] وسام عبد العليم، "ننشر تفاصيل بنود مبادرة ’إعلان القاهرة‘ بشأن ليبيا"، بوابة الأهرام، 6/6/2020، شوهد في 26/8/2020، في: 

https://bit.ly/2YMbf4p

[7] "الممثلة الخاصة في ليبيا بالإنابة وليامز ترحب بشدة بالتوافق الهام بين بياني رئيسي المجلس الرئاسي ومجلس النواب الرامي لوقف إطلاق النار وتفعيل العملية السياسية"، موقع بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، 21/8/2020، شوهد في 25/8/2020، في: 

https://bit.ly/3b8WQnO

[8] "بعد اتفاق السراج وصالح.. المجلس الأعلى: لا حوار مع حفتر والهيئات المنتخبة هي المعنية به"، الجزيرة نت، 22/8/2020، شوهد في 26/8/2020، في: https://bit.ly/32EwA0H

[9] "قوات شرق ليبيا ترفض إعلان حكومة الوفاق الوطني وقف إطلاق النار"، DW، 23/8/2020، شوهد في 26/8/2020، في: 

https://bit.ly/3gHAdIb

[10] “Forces Aligned with Tripoli Government Advance Along West Libyan Coast,” Reuters, 13/4/2020, accessed on 16/4/2020, at: https://reut.rs/2VDN2uy

[11] "ليبيا: مسارات ما بعد سقوط الوطية، وأسئلة التدخل الروسي"، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2/6/2020، شوهد في 26/8/2020، في: https://bit.ly/34JSt1s

[12] "قوات الوفاق الليبية: تحرير سرت والجفرة أصبح ملحًّا"، الجزيرة نت، 28/6/2020، شوهد في 26/8/2020، في: 

https://bit.ly/32zbPnh

[13] “Letter Dated 29 November 2019 from the Panel of Experts on Libya Established Pursuant to Resolution 1973 (2011) Addressed to the President of the Security Council,” United Nations Digital Library, 6/12/2019, accessed on 16/4/2020, at: https://bit.ly/2RPPQ70

[14] جعفر قاسم، "خسائر قطاع النفط الليبي تتجاوز 9 مليارات دولار جراء إغلاق الحقول منذ يناير على أيدي مليشيا الانقلابي حفتر بحسب المؤسسة الوطنية للنفط"، وكالة الأناضول، 28/8/2020، شوهد في 29/8/2020، في: https://bit.ly/32Abm4e

[15] للمزيد حول انتشار فيروس كورونا في ليبيا، ينظر: "منصة مراقبة فيروس كورونا في ليبيا"، المركز الوطني لمكافحة الأمراض، شوهد في 29/8/2020، في: https://bit.ly/31CLGVd

[16] ميشال غندور، "الخارجية الأميركية تعلق على تصريحات قوات حفتر حول وقف إطلاق النار"، الحرة، 25/8/2020، شوهد في 26/8/2020، في: https://arbne.ws/32HpjNw

[17] “Declaration by the High Representative Josep Borrell on behalf of European Union on the Political Announcements by the Libyan Presidency Council and the Libyan House of Representatives,” European Council, 22/8/2020, accessed on 26/8/2020, at: https://bit.ly/3jsNN3X

[18] "ليبيا.. تركيا تتطلع لقاعدتين عسكريتين وتوضح ملابسات التفاوض مع روسيا"، الجزيرة نت، 15/6/2020، شوهد في 25/8/2020، في:https://bit.ly/2YMH90s