/ACRPSAlbumAssetList/2021-Daily-Images/International-conferences-and-the-Libyan-crisis-contexts-and-outcomes.jpg
تقييم حالة 25 يوليو ، 2021

المؤتمرات الدولية والأزمة الليبية: السياقات والمآلات

أحمد قاسم حسين

باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومدير تحرير دورية "سياسات عربية"، ومدير تحرير الكتاب السنوي "استشراف للدراسات المستقبلية". عمل أستاذًا مساعدًا في كلية العلوم السياسية بجامعة دمشق. حاصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة فلورنسا بإيطاليا. له العديد من الأبحاث والدراسات المنشورة في مجال العلاقات الدولية. تتركز اهتماماته البحثية في نظريات العلاقات الدولية. صدر له كتاب "الاتحاد الأوروبي والمنطقة العربية: القضايا الإشكالية من منظور واقعي" (المركز العربي، 2021). حرّر العديد من الكتب، منها: "ليبيا: تحديات الانتقال الديمقراطي وأزمة بناء الدولة" (المركز العربي، 2022)؛ "حرب حزيران/ يونيو 1967: مسارات الحرب وتداعياتها" (المركز العربي، 2019)؛ "استراتيجية المقاطعة في النضال ضد الاحتلال ونظام الأبارتهايد الإسرائيلي: الواقع والطموح" (المركز العربي، 2018).

عقدت الدول المؤثرة في الأزمة الليبية سلسلة من المؤتمرات الدولية، منذ بداية المرحلة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام معمر القذافي، ولم تسهم في وضع حد للأزمة التي ما زالت تعصف بالبلاد. وقد شكلت موضوعات الانتخابات، والدستور، وقطاع الطاقة، وتوحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية، والهجرة غير النظامية ... إلخ، أجندة معظم المؤتمرات حول الأزمة الليبية (الصخيرات، ولندن، وباريس، وروما، وأبوظبي، وباليرمو، وبرلين، وتونس، وجنيف)، التي شاركت فيها قوى سياسية وعسكرية ليبية، إضافة إلى بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (UNSMIL)[1].

هدفت تلك المؤتمرات، التي كان آخرها مؤتمر برلين بنسختيه الأولى والثانية، ومسار جنيف، إلى وضع خارطة طريق يتفق الفرقاء الليبيون بموجبها على حل الأزمة المعقدة التي تعصف بالبلاد، لكن في كل مرة يخفق المجتمعون في التوصل إلى حل توافقي بسبب تعارض مصالحهم وتصوراتهم عن شكل الدولة وطبيعة النظام السياسي، والآليات التي من المفترض اتباعها من أجل تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في البلاد، إضافةً إلى التدخلات الخارجية التي تزيد المشهد السياسي والعسكري تعقيدًا، وهو ما يطرح مجموعة من التساؤلات عن جدوى المؤتمرات الدولية في اجتراح حلول للأزمة الليبية في ظل تعارض مصالح الدول المشاركة، حيث تمثّل تدخلاتها في الشأن الليبي عاملًا بنيويًا في الأزمة من ناحية، وعجز القوى السياسية الليبية ونخب المجتمع المدني عن الشروع في حوار ليبي داخلي يؤسس لتفاهمات سياسية قد تقود البلاد إلى الاستقرار السياسي والأمني من ناحية أخرى، في ظل نزاع أهلي بدأ منذ عام 2014 تسبّب في فشل الدولة، وإخفاق مؤسساتها المدنية والعسكرية في تحقيق الحد الأدنى من الاستحقاقات الخدمية والاقتصادية والأمنية، في بلد غني بالموارد والثروات الطبيعية.

يتركز اهتمام هذه الورقة في استعراض الجهود الدبلوماسية التي بذلتها الأطراف الدولية لحل الأزمة الليبية ولحماية مصالحها أيضًا؛ سواء من جهة تقليل الضرر الذي يمكن أن يمتد إليها من استمرارها، أو الحصول على مكاسب سياسية-اقتصادية، وتخلص إلى تحديد الأسباب التي أدت إلى فشلها في طيّ صفحة النزاع السياسي والعسكري الداخلي في ليبيا.

مرحلة انتقالية متعثرة

أعلن المجلس الوطني الانتقالي الليبي[2] في 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 أنّ ليبيا قد تحرّرت بعد 42 سنةً من الدكتاتورية، في إثر مقتل القذافي، في مدينة سرت، على يد كتائب الثوار. وبدأت في 23 تشرين الأول/ أكتوبر من العام ذاته المرحلة الانتقالية، وقد جرى انتخاب المؤتمر الوطني العام في 7 تموز/ يوليو 2012، وتميّزت هذه المرحلة بعدم الاستقرار، وتفاقم الأزمات نتيجةً لفراغ القوّة الذي خلّفه سقوط نظام القذافي، وقد ترافق ذلك مع وجود مخزون هائل من الأسلحة. وباتت السِّمة البارزة للبلاد هي فوضى السلاح المنتشر لدى الكتائب المسلحة التي لا تخضع لأيّ سلطة مركزية. وعززت حالة الفوضى التي شهدتها ليبيا افتقار الثورة إلى قيادة معترف بها وقادرة على إدارة البلاد في المرحلة الانتقالية؛ ما سمح للكتائب المسلحة بملء الفراغ الذي خلّفه انهيار الأجهزة المسلحة لنظام القذافي. وقد تعاقبت على ليبيا مجموعة من الحكومات، لكنّها فشلت في تحقيق الاستقرار وحلّ الأزمات السياسية والاقتصادية والانتقال نحو بناء الدولة الليبية. وجرت انتخابات تشريعية في ليبيا في عام 2014، جاءت نتائجها في غير مصلحة التحالف الثوري المُهيمِن، الذي يمثّله حزب العدالة والبناء وحزب الوطن وأحزاب وقوى عسكرية ذات توجه إسلامي، على المؤتمر الوطني العام. ونشبت في إثره أزمة دستورية بين مجلس النواب والمؤتمر الوطني العام[3] أثناء انعقاد الأول في طبرق في 2 آب/ أغسطس 2014، وهو ما عزّز الاستقطاب السياسي في البلاد، وهدّد مسار العملية السياسية. لقد مثّل الصراع على نقل السلطة من المؤتمر الوطني إلى مجلس النواب أحد أهمّ أسباب الأزمة السياسية. ودار محور الصراع حول السلطة التشريعية؛ لاعتقاد القوى السياسية الليبية أنّ مَنْ يسيطر عليها سيحدِّد ملامح الخارطة السياسية في ليبيا مستقبلًا.

تزامن ذلك مع إطلاق الكتائب المسلحة التي تتخذ من طرابلس مقرًّا لها، والمتحالفة مع قادة المؤتمر الوطني عملية "فجر ليبيا" للسيطرة على المناطق الحيوية في العاصمة. وفي المقابل، اجتمع أعضاء البرلمان الليبي في مدينة طبرق من دون أنْ تجري عملية تسليم رسمية من المؤتمر الوطني العام، في حين قاطع آخرون محسوبون على قوى سياسية وعسكرية إسلامية في المنطقة الغربية مجلس النواب بصفته غير دستوريّ. ورافق ذلك إطلاق اللواء المتقاعد خليفة حفتر، في أيار/ مايو 2014، عملية عسكرية أطلق عليها اسم "الكرامة"، لتدخل البلاد في أتون حرب أهلية. وساهم قانون العزل السياسي[4]، الذي جمع القوى المتضرّرة من القانون كافّةً لمقاومة مفاعيله وإسقاطه، في إعادة توزيع القوّة، وحافظ على الصراع القديم في ظلّ فاعلين جُدد يجدون أنفسهم في قلب عملية الاستبعاد، ومدعومين من قوى خارجية داعمة للثورات المضادّة، وهو ما أضعف الدولة الليبية وعزّز الانقسام. وبدا الصراع بين قوتين أساسيتين، هما: "الليبراليون" والفدراليون المنضوون إلى "عملية الكرامة"، والقوى السياسية والكتائب المسلحة المنضوية إلى عملية "فجر ليبيا". التطور اللافت للانتباه أنّ بيئة الانقسام السياسي، وفوضى الميليشيات والسلاح وعجز القوى السياسية والعسكرية الليبية عن تحقيق مصالحة وطنية، قد وفّر كلّه بيئةً ملائمةً لنشاط تنظيم الدولة الإسلامية[5]، الأمر الذي شكّل "ناقوس خطرٍ" يهدّد الدول المجاورة لليبيا، وهو ما ساعد جهود بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا على دفع الأطراف إلى الدخول في حوار، أفضى في نهاية المطاف إلى توقيع الاتفاق السياسي الليبي "الصخيرات".

اتفاق "الصخيرات" 2015: تعميق الانقسام السياسي والجغرافي

هدفت تلك المؤتمرات إلى وضع خارطة طريق يتفق الفرقاء الليبيون بموجبها على حل الأزمة المعقدة التي تعصف بالبلاد، لكن في كل مرة يخفق المجتمعون في التوصل إلى حل توافقي بسبب تعارض مصالحهم وتصوراتهم عن شكل الدولة وطبيعة النظام السياسي، والآليات التي من المفترض اتباعها من أجل تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في البلاد

بنى المغرب سياسته الخارجية تجاه ليبيا منذ بداية المرحلة الانتقالية على ضرورة دعم الاستقرار الداخلي وتشكيل حكومة جديدة في ليبيا تتبنى توجّهًا جديدًا تجاه قضية الصحراء. كما أنّ استقرار ليبيا يعني بالضرورة تحوّلها إلى بيئة آمنة للاستثمارات وسوق للعمالة المغربية، ومصدر مهمّ للطاقة التي يفتقر إليها المغرب. لذا، احتضنت المغرب الحوار الليبي، وذلك بعد دعوة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا القوى السياسية إلى حوار في مدينة الصخيرات بإشراف مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، الإسباني برنارد ليون، وأفضى الأمر إلى توقيع الاتفاق السياسي الليبي "الصخيرات" في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2015، ووقّع الاتفاق عن الأمم المتحدة المبعوث الألماني مارتن كوبلر الذي شغل منصب مبعوث الأمم المتحدة في ليبيا خلفًا لبرنارد ليون.

شكّل الاتفاق مدخلًا لحل الصراع السياسي والعسكري في ليبيا، وانبثقت منه مؤسسات المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني وكذلك حكومة الوفاق الوطني، وهي مؤسسات ما زالت تشكّل ملامح النظام السياسي الليبي في مرحلته الانتقالية. وترأّس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج، الذي واجهت حكومته سلسلة أزمات سياسية واقتصادية وأمنية لم تنجح في حل أيٍّ منها؛ إذ دخلت البلاد في أتون حرب أهلية بين شرق ليبيا وغربها، على الرغم من وجود تأييد ودعم إقليمي ودولي لها، تمثّل في قرار مجلس الأمن رقم 2259، الصادر في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2015، الذي أقرّ شرعية حكومة الوفاق الوطني وضرورة تقديم الدعم اللازم لها.

حافظ اتفاق الصخيرات على المؤسسات السيادية؛ مثل المؤسسة الليبية للنفط، والمصرف المركزي الذي يقوم بإدارة احتياطيات ليبيا من الذهب والعملات الأجنبية، باختيار الأدوات الاستثمارية المناسبة والقيمة التي يتم استثمارها من كل عملة، لكن سرعان ما أدى استمرار النزاع إلى انقسام في المصرف المركزي بين شرق ليبيا وغربها. واستثمر حفتر هذا الانقسام في تمويل حروبه في شرق ليبيا من خلال الاقتراض من بنوك المنطقة الشرقية الذي بلغ 35 مليار دينار ليبي (25.18 مليار دولار) خلال الفترة 2014-2019[6].

في هذا السياق، لم ينجح اجتماع لندن حول ليبيا الذي دعت إليه بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2016 - وضم فايز السراج، ونائبه أحمد معيتيق، ومحافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير، والمفوض بوزارة الخارجية والتعاون الدولي محمد الطاهر سيالة، وممثلين عن إيطاليا وفرنسا والإمارات والسعودية - في التوصل إلى آلية لمواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية التي تواجه حكومة الوفاق، وسبل إعادة الاستقرار للاقتصاد في ظل وجود محافظين متنافسين لمصرف ليبيا المركزي[7].

كما نشب خلاف قانوني ودستوري على الاتفاق السياسي ومواده، ولم تنَل حكومة الوفاق الوطني في إثره ثقة البرلمان الليبي في طبرق الذي نسج عددٌ كبير من أعضائه، وعلى رأسهم، رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، تحالفًا مع حفتر. وتمسّك هذا التيار بالمادة الثالثة عشرة من اتفاق الصخيرات التي تنص على أن البرلمان المنتخب في حزيران/ يونيو 2014 هو الذي يتولى سلطة التشريع للمرحلة الانتقالية، وأنه هو المخوّل بشأن منح الثقة للحكومة أو سحبها. كذلك، تُعتبر المادة الثامنة من الاتفاق نقطةً خلافيةً، بالنظر إلى أنها تمنح مجلس الوزراء اختصاصات واسعة بمجرد حصوله على ثقة البرلمان؛ ما يعني تقليصًا لصلاحيات ونفوذ البرلمان وقبائل من المنطقة الشرقية (العبيدات، والعواقير، وقسم من قبيلتي البراعصة والمغاربة) التي لم تعترف أصلًا بحكومة السراج، بل تتهمها بجرّ البلاد نحو مزيد من التدخلات الخارجية. وبناءً عليه، لم يسهم اتفاق الصخيرات في حلّ الأزمة الليبية ووجود سلطة مركزية، بل - على النقيض من ذلك - أسهم في تعميق الانقسام السياسي والجغرافي في البلاد؛ إذ أصبح في ليبيا آنذاك ثلاث حكومات؛ واحدة برئاسة خليفة الغويل، أسسها المؤتمر الوطني العام ومقرها في طرابلس، وثانية برئاسة فايز السراج، وهي حكومة الوفاق الوطني التي انبثقت من اتفاق الصخيرات، باعتبارها الحكومة الليبية الشرعية والمدعومة من الأمم المتحدة، وثالثة في شرق ليبيا، وهي منبثقة من مجلس النواب، وتتخذ من مدينة طبرق مقرًّا مؤقتًا لها، برئاسة عبد الله الثني المتحالف مع حفتر.

على مستوى موازٍ، ساهمت بيئة الانقسام والتشظي في ليبيا في صعود تنظيم الدولة الإسلامية في سرت المعروف بـ "داعش"، وشكّل ذلك اختبارًا حقيقيًا لحكومة الوفاق الوطني التي أطلقت عملية "البنيان المرصوص"، ولم تجد هذه الحكومة سوى دعم لوجستي محدود لمواجهة التنظيم من طرف الدول الداعمة لها (الولايات المتحدة، وإيطاليا، وبريطانيا، والجزائر، وتونس، والمغرب)؛ إذ اقتصر تدخّل الولايات المتحدة في ظل إدارة باراك أوباما، مثلًا، على تنفيذ ضربات جوية في سرت ومحيطها. وعلى الرغم من انتصار حكومة الوفاق الوطني والكتائب العسكرية المتحالفة معها على تنظيم الدولة، فإن هذا الأمر لم يمثّل عاملًا ضاغطًا في اتجاه التعاطي معها بوصفها حكومةً مركزية تدير البلاد وتنقلها نحو ضفة الأمان. كذلك، مارست بعض الدول المتدخلة في ليبيا (فرنسا، وروسيا، والإمارات، ومصر) سياسة مزدوجة المعايير؛ ففي الوقت الذي تعترف بحكومة الوفاق الوطني حكومةً شرعية في البلاد، كانت تقدّم الدعم المالي والعسكري لحفتر وقواته في إحكام سيطرته على شرق ليبيا.

وقد تزامن التدخل العسكري من قبل الدول المتصارعة (إيطاليا، وفرنسا، وروسيا، والإمارات، وتركيا) على النفوذ والسيطرة في ليبيا وحلفائها في الداخل الليبي مع طرح مبادرات في باريس والقاهرة والجزائر وتونس لجمع الأطراف المتنازعة، ولكنّ هذه المبادرات باءت بالفشل، في ظل غياب الدور الأميركي الفاعل في ليبيا واقتصاره على قضايا متعلقة بأمن الطاقة ومحاربة الإرهاب، وغياب دور القوى والأحزاب السياسية الليبية التي بقيت أسيرة الكتائب المسلحة المنتشرة في البلاد.

مؤتمر باريس 2018: اتفاق تحكمه المصالح الفرنسية

حاولت باريس جني مكاسب سياسية واقتصادية من خلال زيادة نفوذها في الساحة الليبية ذات الموقع الجيوسياسي المهم والموارد الطبيعة الهائلة، حيث يمثّل جنوب ليبيا نقطة ارتكاز أساسية في الاستراتيجية الفرنسية المعتمدة في جزء منها على قوات حفتر، وقد بدأت عملية عسكرية واسعة شرق البلاد تحت أهداف محاربة عناصر تنظيم الدولة الإسلامية، وضبط الحدود، وضرب شبكات تجار البشر، وتأمين المنشآت النفطية، ومواجهة تدفق المهاجرين المتجهين شمالًا نحو شواطئ البحر المتوسط. وواصلت فرنسا دعمها السياسي لحفتر على نحو علني، في حين حافظت على سرية الدعم العسكري له، حتى خرجت عن صمتها بعد الخسائر في صفوف جنودها عام 2016[8].

وتتويجًا لهذا التحرك الفرنسي، عُقد مؤتمر في باريس، في أيار/ مايو 2018، لبحث تطورات الأزمة الليبية برعاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وحضور الأطراف الأربعة الرئيسة الفاعلة في العملية السياسية الليبية، وهم: رئيس حكومة الوفاق فايز السراج، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، واللواء خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، إضافة إلى ممثلين من عشرين دولة؛ منها دول الجوار الجغرافي (تونس، ومصر، والجزائر)، ودول فاعلة في المشهد السياسي الليبي (مصر، والإمارات، والسعودية، وقطر، وتركيا)[9].

اتفق المجتمعون على ضرورة إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في نهاية عام 2018، بإشراف المفوضية الوطنية العليا للانتخابات وحكومة الوفاق الوطني، واقتراح جدول زمني لاعتماد الدستور الذي تعطل في آب/ أغسطس 2017، والمطالبة بتوحيد المؤسسة العسكرية، وعقد مؤتمر سياسي ليبي لمتابعة تنفيذ اتفاق باريس، وهو ما أثار حفيظة روما واعتراضها على عقد هذا المؤتمر. وقد سارع في إثره السفير الإيطالي السابق في طرابلس، جوزيبي بيروني، إلى لقاء السراج بهدف فهم تحركات باريس، وأكد أنّ بلاده تؤيد حكومة الوفاق ومبادرة مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة لحل الأزمة الليبية، ودعم المسار الديمقراطي الذي يفضي إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية، وفق الخطة التي أطلقها في 20 أيلول/ سبتمبر 2017، وليس وفق مسارات جديدة؛ في إشارة إلى مؤتمر باريس. لقد عدّت روما مؤتمر باريس محاولة فرنسية للالتفاف على دورها في ليبيا[10]. ولم يتم تنظيم انتخابات نهاية عام 2018 لصعوبة تحقيق ذلك من الناحية العملية في ظل فوضى السلاح وانهيار كامل لمؤسسات الدولة.

مؤتمر باليرمو 2018: التنافس الإيطالي - الفرنسي

استشعرت روما مبكرًا محاولات باريس تعظيم نفوذها في ليبيا منذ بدء العمليات العسكرية ضد نظام القذافي. وفي المقابل، سعت روما إلى الحفاظ على نفوذها في ليبيا لأسباب تاريخية (كانت ليبيا مستعمرة إيطالية حتى عام 1951)، وأمنيّة (بسبب قربها الجغرافي). وهناك عوامل اقتصادية أيضًا؛ إذ حافظت شركة إيني ENI للطاقة، الذراع الاقتصادية الإيطالية، على وجودها رغم الحصار والعقوبات الدولية التي فرضها المجتمع الدولي على نظام القذافي. لذا، تسعى روما جاهدة للحفاظ على مصالحها ونفوذها في ليبيا، والتقليل من نفود باريس التي ما فتئت تحاول الظهور بمظهر القوة الأوروبية الأكثر دينامية وقدرة على التحرّك في محيطها الإقليمي.

لقد كان الحراك الدبلوماسي الإيطالي في أروقة الاتحاد الأوروبي، على خلفية محاولات فرنسا الاستئثار بالملف الليبي، مكثفًا وذا فاعلية، وهدف إلى الحد من زيادة نفوذ باريس خاصة في الجنوب الليبي الذي يعتبر البوابة الأساسية لفرنسا على دول الساحل الأفريقية. وقد سارعت روما إلى عقد مؤتمر لبحث مآلات الأزمة الليبية في باليرمو، على اعتباره "منصة مفيدة لإظهار وحدة المجتمع الدولي في دعم عملية الاستقرار الليبية"[11]. ولا يمكن قراءة الدعوة لمؤتمر باليرمو إلا في سياق التنافس الإيطالي - الفرنسي على النفوذ في ليبيا، ولا غرو عند وصف المؤتمر من جهة إيطاليا بأنه نوع من "المناكفة السياسية"، وَرَدٌّ على مؤتمر باريس. لذا، جاءت توصياته عامة، ولا تتضمن بنودًا تجسد خارطة طريق لحل الأزمة الليبية، بل كان على عكس ذلك؛ إذ أضاف المؤتمر عنوانًا جديدًا للأزمة هو التنافس الفرنسي - الإيطالي على النفوذ والسيطرة، وهو ما ساهم في تعميق الانقسام وحالة التشظي في البلاد.

لقاء أبوظبي 2019: تمكين حفتر من المؤسسة العسكرية

لم يكن اللقاء الذي جمع اللواء خليفة حفتر وفايز السراج في أبوظبي في مستوى مؤتمر دولي يضمّ دولًا فاعلة في مسار الأزمة، وقوى سياسية وعسكرية ليبية، لكن تكمن أهميته في توقيت عقده؛ إذ إنه سبق هجوم حفتر على العاصمة طرابلس، كما تكمن في مخرجاته التي ركزت في توجه الإمارات نحو تمكين حفتر من السيطرة على المؤسسة العسكرية. وفي كل مرة، كان حفتر يخفق في بسط كامل سيطرته على الشرق الليبي؛ فقد خسر مناطق في مواجهات عديدة في منطقة الهلال النفطي، كما اتبعت قواته سياسة الأرض المحروقة، وارتكبت جرائم في حق المدنيين في سبيل السيطرة على مدينتَي بنغازي ودرنة[12]، ثمّ إنّ سيطرته على مناطق في الجنوب الليبي لم تكن مكتملة عشية اللقاء. لذا، لجأت الإمارات إلى الدبلوماسية بعد إخفاقه في حسم المعركة عسكريًا في ليبيا، ودعت أبوظبي إلى عقد لقاء، جمع بين حفتر والسراج، عرف بـ "لقاء أبوظبي".

وقد نص اتفاق أبوظبي على تشكيل مجلس أمن قومي مصغّر يرأسه حفتر، ويضم ثلاثة أعضاء. وطالب المجلس الأعلى للدولة في ليبيا بأن يضاف إليه كرسيّ رابع يشغله أحد أعضاء المجلس الأعلى، كما طالب بأن يشغل عضو آخر من المجلس الأعلى أحد كراسيّ المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، مثلما نص الاتفاق، على أن يتولى حفتر اختيار وزير الدفاع بالحكومة الجديدة، واختيار أحد أعضاء المجلس الرئاسي، مع رفضه وجود أي من قيادات التيار الإسلامي المهيمن في المجلس الأعلى للدولة في عضوية مجلس الأمن القومي المصغّر. واجه هذا الاتفاق معارضة شديدة من الكتائب المسلحة في طرابلس ومن المجلس الرئاسي، ولم يَجرِ تطبيق مخرجاته، حيث جاء بالتزامن مع محاولات بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا الدعوة إلى مؤتمر وطني في غدامس في الفترة 14-16 نيسان/ أبريل 2019. وكان الهدف المرجو من الملتقى، بحسب رئيس البعثة غسان سلامة، هو الشروع في حوار داخلي ليبي لنقاش البنود في خارطة الطريق التي طرحها سلامة لحل الأزمة الليبية.[13] لكن حفتر استبق الملتقى بإعلان الحرب على العاصمة طرابلس في 4 نيسان/ أبريل من الشهر نفسه، وتعطلت الجهود الدبلوماسية كافة.

حرب العاصمة وتعطيل المسار السياسي

أعلن حفتر بدء عملية عسكرية، في 4 نيسان/ أبريل 2019، باسم "طوفان الكرامة". وانطلق الهجوم على طرابلس بالتزامن مع وجود الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش فيها، واستطاعت حكومة الوفاق والقوى العسكرية المساندة لها امتصاص صدمة الهجوم، وتمكنت من صده، ودفعه إلى التراجع[14]. وقد استمرت المعارك بين الطرفين، ولكن لم يتم حسمها لصالح أي منهما.

تجدر الإشارة إلى طلب حكومة الوفاق الوطني رسميًا من تركيا مساعدة عسكرية كان لها بالغ الأثر في سير المعارك في محيط طرابلس؛ إذ أرسلت تركيا قوات عسكرية إلى ليبيا بعد شهر من توقيع مذكرتَي تفاهم بينهما في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، كانت إحداهما تتعلق بتحديد مناطق الصلاحية البحرية، والأخرى تخص التعاون في المجال الأمني والعسكري[15]، في وقت اعتمد فيه حفتر على الدعم العسكري الإماراتي والمصري إلى جانب شركة "فاغنر" الروسية. استمرت العمليات العسكرية، ولم يستطع أي طرف من طرفَي النزاع (حكومة الوفاق - حفتر وبرلمان طبرق) حسم المعركة لصالحه؛ ما دفعهما إلى إعلان وقف إطلاق النار. اللافت للانتباه عند العودة إلى القضايا التي جاءت في نصي إعلان وقف إطلاق النار الصادر عن كل طرف أنّ القضايا الخلافية ذاتها بين الفرقاء الليبيين المتمثلة في الالتزام بوقف إطلاق النار، وإجراء الانتخابات والقاعدة الدستورية التي تنظمها، واستئناف تصدير النفط، واسترجاع السيادة الوطنية، وخروج القوات الأجنبية والمرتزقة، التي ناقشها المجتمعون في ملتقى الحوار السياسي في جنيف كما سنبين لاحقًا، كانت محل خلافٍ وتناقضٍ في مقاربتهم لحل الأزمة الليبية.

برلين (2-1): ألمانيا والخوض في تضاريس الأزمة الليبية

قد يسهم الحوار الوطني الليبي في مجالات السياسات الدنيا Low Politics، مثل السياسات الصحية والتعليمية والتشغيل، تدريجيًا في الانتشار Spillover، ليشمل مجالات اقتصادية وسياسية في السياسات العليا High politics، وهو ما قد يُحدِث تحولًا تدريجيًا في ولاءات النخب الوطنية في الدولة الليبية التي تحتل مراكز السلطة

لم تكن برلين متحمسة للتدخل في الشأن الليبي على نحو مباشر، وهي التي اعترضت على التدخل العسكري ضد نظام القذافي ولم تعترف بالمجلس الوطني الانتقالي. ويعود ذلك إلى أسباب، منها ما يتعلق بتوجهاتها الاستراتيجية شرق أوروبا على اعتبارها منطقة نفوذ تاريخي لها، وكذلك الاختلالات الاستراتيجية التي رافقت عمل مؤسسات الاتحاد الأوروبي تجاه الأزمة الليبية في ظل التنافس الفرنسي - الإيطالي على النفوذ والسيطرة فيها، إضافة إلى حالة الإرباك والغموض في السياسة الخارجية الأميركية تجاه الملف الليبي. لذا، ركزت الدبلوماسية الألمانية خلال الفترة 2011-2020 على الحد من التداعيات الأمنية والاقتصادية للهجرة غير النظامية انطلاقًا من السواحل الليبية، وإدارة التناقضات الداخلية في مؤسسات الاتحاد الأوروبي.

واليوم، تسعى برلين إلى تعزيز وجودها في القارة الأفريقية عبر برامج التعاون والتبادل مع دول شمال أفريقيا وجنوب الصحراء في قضايا الاستثمار والأمن والهجرة، وذلك تحت مظلة أوروبية مشتركة. وفي سبيل ذلك، عقدت برلين، في 19 كانون الثاني/ يناير 2020، مؤتمرًا حول ليبيا، تمثلت أهدافه الرئيسة في التوصل إلى توافق في الآراء بين الدول الأعضاء المعنية بالأزمة الليبية، وتأمين مظلة دولية لحماية الحوارات الليبية حول مستقبل البلد. وقد جسّد البيان الختامي لمؤتمر "برلين 1" خارطة طريق لحل الأزمة الليبية من خلال التأكيد على احترام سيادة الدولة الليبية وإنهاء كافة التحركات العسكرية من قبل أطراف النزاع أو الأطراف الداعمة لها على نحو مباشر، وعملية تسريح المجموعات المسلحة والميليشيات في ليبيا ونزع الأسلحة منها، أو إدماجها في مؤسسات الدولة المدنية والأمنية والعسكرية. كذلك، جاء البيان الختامي على ذكر الاتفاق السياسي الليبي "الصخيرات" بوصفه إطارًا قابلًا للتطبيق من أجل الحل السياسي في ليبيا، مع الدعوة إلى تأسيس مجلس رئاسي وتشكيل حكومة موحدة وشاملة[16]. وتجدر الإشارة إلى أن مجلس الأمن صدّق على نتائج مؤتمر برلين، وشدد على الحاجة إلى وقف دائم لإطلاق النار، والتزام جميع الدول الأعضاء بالامتثال التام لحظر التسليح، وفق قرار مجلس الأمن رقم 2510 (2020)[17] الذي تقدمت به بريطانيا، وهو ما يعكس نوعًا من التنسيق بين برلين ولندن على ضرورة تطويق أي خيارات عسكرية قد تلجأ إليها أطراف النزاع الليبية.

وقد تشكلت لجنة متابعة لمسار برلين، وفي سبيل ذلك عقد مؤتمر "برلين 2"، في 23 حزيران/ يونيو 2021، الذي اتفق فيه المجتمعون على ضرورة أن تجري الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 24 كانون الأول/ ديسمبر 2021؛ في الموعد المتفق عليه في خارطة الطريق التي تبنّاها ملتقى الحوار السياسي الليبي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 في تونس، وتبني الترتيبات الدستورية والتشريعية الضرورية لذلك، كما يتعين على الجميع القبول بنتائج الانتخابات. وجاء في البيان أيضًا العمل على إصلاح قطاع الأمن ووضعه بكل حزم تحت سلطة مدنية موحدة وإشراف مدني موحد، وسحب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة[18] الذين وصل عددهم إلى 20 ألفًا من جنسيات مختلفة[19] من ليبيا دون تأخير، وهو ما قد يثير حفيظة تركيا، ويعقّد من المشهد السياسي في ليبيا، خاصة أن وزير الخارجية الألماني هايكو ماس قد أشار إلى أن الأطراف التي تعهّدت خلال اجتماع "برلين 1" بسحب قواتها لم تَفِ بوعودها، في إشارة غير مباشرة إلى روسيا، وتركيا، والإمارات[20].

مسار جنيف: إجراء الانتخابات وتعقيداتها القانونية والدستورية

انطلق مسار ملتقى الحوار السياسي الليبي في 26 شباط/ فبراير 2020، وقد جمع الأطراف الليبية المختلفة على طاولة حوار في كل من تونس وجنيف، رغم الصعوبات التي تسببت في بطء إطلاقه، وعلى رأسها موضوع المحاصصة واختيار ممثلين عن الفرقاء الليبيين[21]. وعلى الرغم من ذلك، انتظمت جلسات ملتقى الحوار، ونتج منها ثلاث لجان، هي: لجنة الصياغة التي تشكّلت خلال الاجتماعات في تونس، واللجنة القانونية التي بدأت أعمالها في 22 كانون الأول/ ديسمبر 2020[22]، ومهمتها وضع القاعدة الدستورية التي ستجري بموجبها الانتخابات الرئاسية والحكومية في كانون الأول/ ديسمبر القادم، وفق ما نصت عليه خارطة الطريق للحل في ليبيا التي أقرها الفرقاء الليبيون في تونس تحت مسمى وثيقة البرنامج السياسي الوطني للمرحلة التمهيدية للحل الشامل[23]، واللجنة الاستشارية التي بدأت أعمالها في 13 كانون الثاني/ يناير 2021 في جنيف[24].

قادت المشاورات في ملتقى الحوار السياسي الليبي في جنيف إلى اختيار محمد المنفي رئيسًا للمجلس الرئاسي وعبد الحميد الدبيبة رئيسًا للوزراء في الخامس من شباط/ فبراير 2021، وقد صوت البرلمان الليبي في 10 آذار/ مارس 2021، على خلاف ما قام به مع حكومة الوفاق الوطني، لصالح منح الثقة للحكومة الانتقالية التي شكّلها الدبيبة[25].

لكن سرعان ما تفجّر خلاف قانوني ودستوري حول موعد إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والقاعدة الدستورية التي ستجري بموجبها. وقد تركز الخلاف حول طريقة انتخاب رئيس الدولة؛ إما عبر الاقتراع المباشر، وإما بانتخابه بواسطة نواب البرلمان، وهو ما يعني أنه لن تُجرى انتخابات رئاسية، وأنه سيُكتفى بالانتخابات البرلمانية في حال انتخابه عبر نواب البرلمان. كما ثار جدل حول أسبقية إجراء الاستفتاء بشأن الدستور على إجراء الانتخابات. وحملت القاعدة الدستورية أيضًا شروطًا لترشح الرئيس، أبرزها ألّا يحمل جنسية أخرى، وألّا يكون مُدانًا في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان؛ ما يضع حدًّا لطموحات حفتر في تصدّر المشهد العسكري والسياسي في البلاد، لكن توجد ثغرة في مسودة القاعدة الدستورية قد تكون لصالحه متعلقة بالترشح لرئاسة الدولة في حال التخلي عن جنسيته الأجنبية، وهو ما قد يثير جدلًا دستوريًا جديدًا نظرًا إلى مخالفة تلك المادة لمواد في دستور 2017 التي تشترط عامًا كاملًا، وكذلك مشروع قانون الانتخابات الذي يشترط ألّا يكون المترشح حمل هو أو أي من والديه أو زوجته جنسية أخرى. كما شكلت قضية تسمية وزير الدفاع إحدى قضايا الخلاف التي ساهمت في فشل مسار جنيف؛ إذ يحتفظ رئيس الحكومة الدبيبة، بمنصب وزير الدفاع لنفسه منذ تولي مهماته في شباط/ فبراير المنصرم، في حين يسعى حفتر إلى تأكيد دوره في العملية السياسية في ليبيا من بوابة قدرته على بسط سيطرته العسكرية والأمنية في شرق ليبيا، وعلى وجه التحديد منطقة الهلال النفطي ذات الأهمية الجيوسياسية.

لقد فشل مسار جنيف في وضع ليبيا على مسار عملية انتقالية تبدأ بانتخابات رئاسية وبرلمانية في كانون الأول/ ديسمبر المقبل، وهو ما يُدخل البلاد في حالة من عدم اليقين، لكن المتغير الذي طرأ على مسار الأزمة هو الموقف الأميركي الذي يضع "فيتو" على العمليات العسكرية في ليبيا عبر تصريحات مسؤولين في الإدارة الأميركية[26] التي تشدد على تفعيل الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وداخل حلف الناتو، من أجل تصحيح الأخطاء التي قامت بها إدارة دونالد ترامب، والتي أثّرت تأثيرًا مباشرًا في العلاقات الأطلسية، إضافة إلى إعادة توجيه أهداف الاستراتيجية الأميركية في أفريقيا في ظل تنامي النفوذ الصيني والروسي، وهو ما قد يؤسس قاعدة جديدة في إدارة الأزمة الليبية تقوم على منع أي طرف من القيام بعمل عسكري، وإفساح المجال أمام حوارات داخلية بدعم القوى والأطراف المؤثرة في الملف الليبي؛ ما قد يسهم في التوصل إلى صيغة اتفاق سياسي أو نسخة محدثة من الاتفاق السياسي الليبي "الصخيرات"، خاصة في ظل ضغط بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا على الفرقاء الليبيين بهدف إجراء الانتخابات في موعدها.

خاتمة

باتت مخرجات المؤتمرات الدولية جزءًا من الأزمة السياسية في ليبيا، فما إن تهدأ جبهات القتال في البلاد حتى تندلع معارك سياسية وقانونية بين الفرقاء، نظرًا إلى الخلاف والجدل الذي يدور حول توصياتها وقراراتها (ينظر الجدول المتعلق بأهم المؤتمرات الدولية حول الأزمة الليبية). ويمثل الصراع على السلطة والمحاصصة المناطقية والقبلية بين القوى السياسية والعسكرية العاملَ الرئيس الذي يفجّر الخلافات والتناقضات فيما بينها، ويزيد من حدة التدخلات الخارجية وتأثيرها، وهو أمرٌ يستدعي إجراء حوار وطني ليبي على قاعدة الفصل الحادّ بين الجوانب السياسية والجوانب الوظيفية في عملية بناء الدولة ومؤسساتها الهشة، والتركيز على النهج الوظيفي في القطاعات المختلفة في هذه المرحلة، وإرجاء البحث في الجوانب السياسية التي عادةً ما تحكمها اعتبارات التنافس والنزاع على المصالح والنفوذ بين القوى السياسية والعسكرية المحلية.

في حال تحقيق حكومة الدبيبة حدًّا أدنى من الاستقرار الأمني والسياسي في البلاد، خاصة بعد أن صدّق البرلمان على حكومته التي باتت تحظى بإجماع داخلي، واعتراف دولي، قد يسهم الحوار الوطني الليبي في مجالات السياسات الدنيا Low Politics، مثل السياسات الصحية والتعليمية والتشغيل، تدريجيًا في الانتشار Spillover، ليشمل مجالات اقتصادية وسياسية في السياسات العليا High politics، وهو ما قد يُحدِث تحولًا تدريجيًا في ولاءات النخب الوطنية في الدولة الليبية التي تحتل مراكز السلطة، حيث تنقل تلك الولاءات إلى مراكز السلطة الجديدة التي توسّع من صلاحياتها في التأثير في بناء مؤسسات الدولة الليبية على نحو يمهد الطريق لمصالحة اجتماعية وسياسية تنهي حالة الانقسام والتشظي بين أقاليم ليبيا الثلاثة (طرابلس، وبرقة وفزان)، ويقلل من آثار التدخلات الخارجية في الشأن الليبي.

أهم المؤتمرات الدولية حول الأزمة الليبية والقضايا الخلافية

المؤتمر/ الاتفاق

التاريخ

القضايا الخلافية (دستورية، قانونية، سياسية)

الاتفاق السياسي الليبي "الصخيرات"

2015

  • المادة 8[27]
  • المادة 13[28]
  • لم يمنح البرلمان الثقة لحكومة الوفاق الوطني

مؤتمر باريس

2018

  • موعد الانتخابات
  • عدم الاعتراف بحكومة الوفاق
  • انحياز باريس إلى خليفة حفتر

مؤتمر باليرمو

2018

  • توصيات عامة لم تشتمل على قضايا تفصيلية
  • التنافس الفرنسي - الإيطالي على إدارة الملف الليبي

لقاء أبوظبي

2019

  • توحيد المؤسسة العسكرية على نحو يمكّن حفتر من السيطرة على القرار السياسي والأمني في البلاد
  • رفض المجلس الرئاسي

مؤتمر برلين (1-2)

2020/2021

  • الآجال الزمنية لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية وفق خارطة الطريق
  • خروج القوات الأجنبية والمرتزقة (روسيا، تركيا، الإمارات)

مسار جنيف

2/6/2021

  • القاعدة الدستورية التي ستجري الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بموجبها
  • توحيد المؤسسة العسكرية

المصدر: من إعداد الباحث.


[1] بعثة سياسية خاصّة متكاملة، تم إنشاؤها في 16 أيلول/ سبتمبر 2011، بقرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 2009 (2011)، بناءً على طلب من السلطات الليبية، لدعم المرحلة الانتقالية الجديدة في البلاد في جهودها خلال مرحلة ما بعد النزاع. وقام مجلس الأمن بتعديل ولاية البعثة وتمديدها من خلال القرارات 2022 (2011)، و2040 (2012)، و2095 (2013)، و2144 (2014)، و2238 (2015)، و2323 (2016). وينصّ قرار مجلس الأمن 2542 (2020) على ولاية البعثة الحالية، التي تم تمديدها إلى 15 أيلول/ سبتمبر 2021. للمزيد، ينظر: الأمم المتحدة، مجلس الأمن، القرار 2542 (2020) الذي اتخذه مجلس الأمن في جلسته 8758، المعقودة في 15 أيلول/ سبتمبر 2020، شوهد في 15/7/2021، في: https://bit.ly/2TvmVct

[2] تشكّل يوم الأحد 27 شباط/ فبراير 2011 بعد عشرة أيام من اندلاع الثورة في عدة مناطق من ليبيا للمطالبة بإسقاط نظام القذافي، وبناءً على التوافق بين المجالس البلدية في مختلف المناطق التي سقطت بيد الثوار، ولم يكن للسلطات الرسمية أي سيطرة عليها. وتم اختيار وزير العدل المنشق عن نظام القذافي مصطفى عبد الجليل رئيسًا للمجلس الوطني الانتقالي المؤقت في 5 آذار/ مارس 2011 ومحمود جبريل مديرًا للمكتب التنفيذي للمجلس. وقد انتخب المجلس في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 عبد الرحيم الكيب رئيسًا للحكومة الانتقالية.

[3] “Libya Faces Chaos as Top Court Rejects Elected Assembly,” Reuters, 6/11/2014, accessed on 7/7/2021, at: https://goo.gl/AogM6o

[4] هو القانون رقم (13) لعام 2013، أقرّه المؤتمر الوطني العام في 14 أيار/ مايو 2013، ودخل حيّز التنفيذ في 5 حزيران/ يونيو 2013، ويهدف إلى استبعاد كلّ الذين عملوا لدى نظام القذافي، على نحو مباشر أو غير مباشر، عن الساحة السياسية الليبية. ينظر: رومان ديفيد وهدى مزيودات، "إعادة النظر في قانون العزل السياسي في ليبيا: تغييرٌ في الوجوه أم تغييرٌ في السلوك؟"، سلسلة أوراق، رقم 4، مركز بروكنجز الدوحة (آذار/ مارس 2014)، شوهد في 5/7/2021، في: https://goo.gl/7zmCQh

[5] "’داعش‘ وذرائع تدخل عسكري غربي في ليبيا"، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وحدة الدراسات السياسية، 13/1/2016، شوهد في 5/7/2021، في: https://goo.gl/qnuSpb

[6] "12 موردًا مشبوهًا لحفتر تموّل حربه على طرابلس"، وكالة الأناضول، 2019/12/30، شوهد في 2021/7/6، في: https://bit.ly/2UDRNYm

[7] "مؤتمر لندن.. هل ينقذ اقتصاد ليبيا الهش؟"، ليبيا المستقبل، 2021/11/2، شوهد في 2021/7/8 ، في: https://bit.ly/3xFPP8m

[8] "مقتل ثلاثة عسكريين فرنسيين خلال مهمة في ليبيا"، فرانس 24، 20/7/2016، شوهد في 5/7/2021، في: https://goo.gl/jcUwTX

[9] "الفصائل الليبية تتفق في باريس على إجراء انتخابات في 10 ديسمبر"، القدس العربي، 29/5/2018، شوهد في 5/7/2021، في: https://bit.ly/3wKkTT8

[10] "السفير الإيطالي عن ’مؤتمر باريس‘: لا نعترف إلا بخطة عمل الأمم المتحدة"، بوابة الوسط، 4/8/2018، شوهد في 5/7/2021، في: https://goo.gl/SvTodg

[11] للاطلاع على نص البيان الختامي لمؤتمر باليرمو ينظر: https://bit.ly/2V7o5eC

[12] "القائد الليبي الذي يحظى بدعم الدول الأوروبية متهم بارتكاب جرائم حرب في معارك درنة"، القدس العربي، 2019/2/2، شوهد في 2021/7/8 في: https://bit.ly/3AXhzaB

[13] "سلامة: الملتقى الوطني الليبي 14 أبريل في غدامس"، وكالة الأناضول، 20/3/2019، شوهد في 5/7/2021، في: https://bit.ly/3hvA7pA

[14] أحمد قاسم حسين، "حرب العاصمة الليبية وتفاعلاتها الإقليمية والدولية"، تقييم حالة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وحدة الدراسات السياسية، 22/5/2019، شوهد في 5/7/2021، في: https://bit.ly/2TEX7dI

[15] محمود الرنتيسي، "تصاعد الدور التركي في ليبيا: مغامرة في الصحراء أم متطلبات الأمن القومي؟"، تقييم حالة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وحدة الدراسات السياسية، 15/1/2020، شوهد في 5/7/2021، في: https://bit.ly/3dJO7Lu

[16] بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، "خلاصات مؤتمر برلين"، 19/1/2020، شوهد في 5/7/2021، في: https://bit.ly/3hBmEwB

[17] للاطلاع على نص القرار الصادر في 12/2/2020، ينظر: الأمم المتحدة، مجلس الأمن، القرار 2510 (2020) الذي اتخذه مجلس الأمن في جلسته 8722، المعقودة في 12 شباط/ فبراير 2020، شوهد في 15/7/2021، في: https://bit.ly/3yt59W4

[18] بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، "خلاصات مؤتمر برلين الثاني حول ليبيا (برلين 2) - برلين - 23 يونيو 2021"، 23/6/2021، شوهد في 5/7/2021، في: https://bit.ly/36cVln3

[19] Samy Magdy, “UN: 20,000 foreign fighters in Libya are a ‘serious crisis’,” AP NEWS, 2/12/2020, accessed on 7/7/2021, at: https://bit.ly/3dMoSIl

[20] "ماس يعلن نجاح مؤتمر برلين بشأن ليبيا.. فما الذي تحقق؟"، دويتشه فيله، 23/6/2021، شوهد في 5/7/2021، في: https://bit.ly/2UnO6WA

[21] بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، "الممثل الخاص يعلن ’26 فبراير‘ الجاري موعد انطلاق المسار السياسي الليبي في جنيف"، 7/2/2020، شوهد في 5/7/2021، في: https://bit.ly/2TEPCDA

[22] الأمم المتحدة، "بعثة الأمم المتحدة في ليبيا تعلن بدء أعمال اللجنة القانونية المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي"، 22/12/2020، شوهد في 5/7/2021، في: https://bit.ly/3jOa3J4

[23] للاطلاع على نص وثيقة البرنامج السياسي للمرحلة التمهيدية للحل الشامل، ينظر: https://bit.ly/2TeVmnC

[24] بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، "ليبيا: ستيفاني وليامز تدعو اللجنة الاستشارية في جنيف إلى العمل بروح الجدية للخروج بتوصيات ملموسة إيجابية"، 13/1/2021، شوهد في 5/7/2021، في: https://bit.ly/3xkFi2v

[25] "حكومة الدبيبة: حيثيات التشكيل وتحديات الإنجاز"، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2021/3/16، شوهد في 2021/7/8 في: https://bit.ly/3i6iNIa

[26] "الولايات المتحدة تطلب السحب الفوري للقوات الروسية والتركية من ليبيا واحترام سيادة البلاد"، فرانس 24، 29/1/2021، شوهد في 5/7/2021، في: https://bit.ly/36n2f96

[27] المادة 8: اختصاصات رئيس مجلس رئاسة الوزراء: أ. تمثيل الدولة في علاقاتها الخارجية؛ ب. اعتماد ممثلي الدول والهيئات الأجنبية لدى ليبيا؛ ت. الإشراف على أعمال المجلس وتوجيهه في أداء اختصاصاته وترؤس اجتماعاته. أما اختصاصات مجلس رئاسة الوزراء، فهي أ. القيام بـمهام القائد الأعلى للجيش الليبي؛ ب. تعيين وإقالة رئيس جهاز المخابرات العامة بعد موافقة مجلس النواب؛ ت. تعيين وإعفاء السفراء وممثلي ليبيا لدى المنظمات الدولية بناء على اقتراح من وزير الخارجية وفقًا للتشريعات الليبية النافذة؛ ث. تعيين كبار الموظفين وإعفائهم من مهامهم؛ ج. إعلان حالة الطوارئ والحرب والسلم واتخاذ التدابير الاستثنائية بعد موافقة مجلس الدفاع والأمن القومي، على أن يعرض الأمر على مجلس النواب، خلل فترة لا تتجاوز عشرة (10) أيام من صدوره، لاعتماده؛ ح. عقد الاتفاقيات والمعاهدات الدولية على أن تتم المصادقة عليها من مجلس النواب. ينظر: بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، الاتفاق السياسي الليبي، 18/1/2016، شوهد في 5/7/2021، في: https://bit.ly/3hDm2Yk

[28] المادة 13: يتولى مجلس النواب المنتخب في يونيو 2014 سلطة التشريع للمرحلة الانتقالية، ومنح الثقة لحكومة الوفاق الوطني وسحبها وفقًا لبنود هذا الاتفاق، واعتماد الميزانية العامة، والرقابة على السلطة التنفيذية، وإقرار السياسة العامة المقدمة من الحكومة. ينظر: المرجع نفسه.