العنوان هنا
تقدير موقف 12 يونيو ، 2017

معركة الجفرة في ليبيا: التداعيات الميدانية والحسابات الإقليمية

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

بعد أيام من القصف الجوي المتواصل على منطقة الجفرة، وسط ليبيا، تمكنت القوات التابعة للواء المتقاعد خليفة حفتر، والتي تسمي نفسها قوات "الكرامة"، يوم 3 حزيران/ يونيو الجاري، من بسط سيطرتها على مدن ودان وسوكنة وهون، إضافة إلى قاعدة الجفرة الجوية. حدث التقدم في قاعدة الجفرة بالطريقة نفسها التي سيطرت بها قوات حفتر على منطقة الهلال النفطي في أيلول/ سبتمبر 2016، من دون قتال. وأمكن ذلك من خلال تسويات قبيلة وبناء تحالفات مع زعامات قبلية في تلك المنطقة قادت إلى انسحاب القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني، بعد أن تعهدت هذه الزعامات بحماية المنطقة[1]. وكان للقصف الجوي العنيف الذي نفذته، على مدار أيام، طائرات تابعة للواء حفتر وأخرى مصرية أثره أيضًا في القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني والمكونة أساسًا من كتائب "البنيان المرصوص" و"سرايا الدفاع عن بنغازي" وفي قرارها الانسحاب من المنطقة من دون قتال.

تُعد السيطرة على منطقة الجفرة مكسبًا ميدانيًا مهمًّا لقوات حفتر، بعد أيام من تحقيقها مكسبًا ميدانيًّا آخر بالسيطرة على قاعدة "تمنهنت" في سبها كبرى مدن المنطقة الجنوبية، بعد انسحاب "القوة الثالثة لتأمين الجنوب" منها بطريقة مشابهة لانسحاب الكتائب التي كانت تسيطر على الجفرة. وتكتسب منطقة الجفرة أهميتها من خلال موقعها الإستراتيجي. فالسيطرة عليها تعني أن الجغرافيا الممتدة من المنطقة الشرقية والهلال النفطي إلى غاية المنطقة الجنوبية أصبحت تحت تصرف قوات حفتر. كما أن انسحاب "سرايا الدفاع عن بنغازي" منها يعني فقدانها قاعدة خلفيةً ساعدتها، في مناسبات سابقة، على التحرك نحو الهلال النفطي ومباغتة قوات حفتر، ثمّ الانسحاب. وإضافة إلى تحقيقها هذا التواصل الجغرافي، فإن منطقة الجفرة تشرف على الأودية والمساحات الصحراوية جنوب سرت؛ ما يسمح لها بإمكانية التقدم لتضييق الخناق على قوات "البنيان المرصوص" التي تتمركز في المدينة، خاصة أن وحدات أخرى تابعة لقوات حفتر تتمركز شرق سرت وبدأت بمهاجمة إحدى البوابات الواقعة على مسافة قريبة من المدينة يوم الجمعة 2 حزيران/ يونيو الجاري. ويُعدّ أي تقدم نحو سرت رسالة موجهة إلى مصراتة التي تشكّل كتائبها العمود الفقري لقوات "البنيان المرصوص" التي خاضت حربًا طاحنة، على امتداد أشهر، لطرد تنظيم "داعش" من المدينة، ودفعت فيها ثمنًا يقارب 800 قتيل و3000 جريح.

على أن أهمية المكسب الميداني بالسيطرة على الجفرة لا تقف عند هذا الحد، فمن المحتمل أن تعمل قوات حفتر، مدعومة بمعطيات جغرافية واجتماعية، خلال الأيام المقبلة، على تحقيق تواصل مع منطقة بني وليد بحكم أن الطريق إليها مفتوحة في مجال صحراوي لا توجد فيه تجمعات سكانية تذكر. أضف إلى ذلك التركيبة الاجتماعية والقبلية للمنطقة من خلال انتساب أغلب سكانها إلى قبيلة ورفلة التي لم يعرف لها عداء واضح مع قوات حفتر منذ أطلقت الأخيرة عملية "الكرامة" مطلع عام 2014، واكتفت بنوع من الحياد المعلن تجاه القوى المتصارعة. وهذا التمدد، في حال حدوثه، سيكون أقرب إلى ضرب حصار على مصراتة من الجهتين الشرقية والجنوبية، وسيكون الوضع أشدّ حرجًا إذا اضطرت قوات "البنيان المرصوص" إلى الانسحاب من سرت لتأمين مصراتة.


حسابات العاصمة

لا يخفي اللواء حفتر أن هدفه الرئيس يتمثّل بدخول العاصمة طرابلس، والسيطرة على عموم المنطقة الغربية. وبمناسبة السيطرة على مدن منطقة الجفرة، لم يفوّت المتحدث باسم قوات حفتر، العقيد أحمد المسماري، الفرصة ليذكر بأن الانتصار في الجفرة يقرّب قواته من نصر أكبر وأهم في العاصمة. وبغض النظر عن الرغبات المعلنة والتصريحات الصادرة عن معسكر حفتر، فإن الحسابات التي سهلت الدخول السريع إلى الجفرة وقبلها إلى قاعدة تمنهنت بالجنوب قد لا تكون قابلة للتكرار في معادلة العاصمة المعقدة.

لقد كانت الجغرافيا أحد العوامل المساعدة لقوات حفتر في معارك الجفرة والجنوب؛ فوجود قواعد عسكرية منعزلة في الصحراء ومدن صغيرة نسبيًا وسط مجال مفتوح وواسع من شأنه تسهيل عمليات القصف الجوي العشوائي والانتقائي وعمليات الالتفاف والمحاصرة. وهو ما قامت به قوات حفتر حين وجهت طائراتها، بمشاركة الطائرات المصرية، لتنفيذ ضربات انتقائية على قاعدة الجفرة الجوية وأخرى عشوائية استهدفت البنية التحتية والمناطق المدنية والمزارع، خاصة في مدينة هون وجوارها، قبل أن تتحرك القوات البرية لتحاصر الكتائب المنهكة التي لم يعد أمامها خيار سوى الانسحاب للحفاظ على ما تبقى من آلتها العسكرية وعنصرها البشري.

يصعب تكرار هذا المعطى في العاصمة وجوارها؛ فهي مدينة كبيرة ممتدة أفقيًا ومحاطة بسلسة من التجمعات العمرانية المهمة شرقًا وغربًا وجنوبًا، وهو أمر يحدّ من سلاسة حركة الآلة العسكرية بعكس ما كان عليه الحال في المجالات المفتوحة بالجفرة والجنوب. كما أن التعويل على القصف الجوي لإنهاك الخصم يحمل محاذير كبيرة سواء أكان انتقائيًا أم عشوائيًا. فالقصف الانتقائي المركّز سيكون محدود النتائج في التعامل مع أهداف متحركة وكتائب ذات تسليح خفيف يمكنها تغيير مواضعها بسرعة. أمّا القصف العشوائي، على غرار ما حدث في الجفرة، وخاصة في مدينة هون، فيمكن أن يؤدي إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا بحكم الكثافة السكانية العالية للمنطقة، ومن ثمّ فإنه سيؤثر في المزاج العام في اتجاه رفض الانسياق في مشروع حفتر، حتى لدى الفئات التي ترى فيه حلًا للمشكلات الأمنية التي تتخبط فيها البلاد منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي.

وإلى جانب المعطيات الجغرافية التي تفرض تحديات حقيقية أمام إمكانية التقدم العسكري لقوات حفتر من الجفرة في اتجاه العاصمة، فإن المعطيات السياسية والاجتماعية، هي الأخرى، تزيد من حدة هذه التحديات. فكلما اقتربت الأحداث من العاصمة، ضعفت قدرة العامل القبلي الذي يمكّن من عقد مصالحات وصفقات ملزمة للمجموعة. وهذا خلافًا لمناطق الداخل التي ما زال الرابط القبلي والاجتماعي فيها يعلو على الروابط الأخرى؛ إذ من المعروف أن الكتائب المسلحة في الدواخل هي، في جوهرها، كتائب ذات ولاء مناطقي وقبلي، في حين أن الكتائب المنتشرة بالعاصمة وأطرافها يغلب عليها الولاء السياسي والشخصي. وهو ما ظهر جليًا في الاشتباكات التي دارت مؤخرًا بين الكتائب الموالية لحكومة الوفاق الوطني والكتائب الموالية لحكومة الإنقاذ والمؤتمر الوطني العام. ويجدر التنويه، في هذا السياق، أن المزاج الكتائبي العام في طرابلس، سواء كان مع حكومة الوفاق أو ضدها، عبّر في أكثر من مناسبة عن رفضه أي تعامل مع عملية "الكرامة" وقوات حفتر، وأي انخراط في ما تصفه بـ "حكم العسكر". هذا مع أنه لم يتمكن من تجاوز حالة الفوضى وعدم تمكين مؤسسات الدولة من بناء ذاتها.

هذه التحديات التي تواجه تقدم قوات حفتر في اتجاه العاصمة لا يمكن أن تحجب بعض الثغرات التي يستبعد أن تقلب الوضع، غير أنها يمكن أن تمثّل عاملًا مربكًا. فالمكون السكاني للعاصمة يتميز بخليط منحدر من مختلف المناطق، ويتبنى هذا الخليط مواقف سياسية مختلفة، بما فيها بعض المتعاطفين مع عملية "الكرامة" لأسباب جهوية. أضف إلى ذلك أن الوضع الأمني والاقتصادي والمعيشي المحبط وعجز حكومة الوفاق الوطني، وقبلها حكومة الإنقاذ، عن تحقيق حد مقبول من الأمن والاستقرار، كلها عوامل تدفع بعضهم إلى مجاراة الشعارات التي ترفعها عملية "الكرامة"؛ كبناء الجيش والشرطة، وحل المليشيات، وفرض الأمن. فقد ثبت أن الخصم الرئيس لقوى ثورة 14 فبراير هو التشظي والنرجسيات السياسية على اختلاف أنواعها، والصراع على الزعامة، وعدم القدرة على احترام أي هرمية مؤسسية في الدولة.

ولا بد من الإشارة إلى تمركز مجموعات مسلحة على علاقة بعملية "الكرامة" بتخوم جنوب غرب العاصمة، ومنطقة ورشفانة تحديدًا. وهي بمنزلة الخلايا التي يمكن أن تتحرك، إذا حدث تقدم من الجهة الجنوبية الشرقية.


سياق إقليمي مؤثّر

من نافلة القول إن أي تقدم عسكري في اتجاه العاصمة لن يكون بإدارة أو إرادة محليتين، مهما بلغت أهمية العوامل الداخلية. وقد ظهر ذلك جليًّا في أكثر من مرحلة من مراحل الصراع الليبي، وآخرها القصف المصري على مدينة درنة وإنزال قوات خاصة في جوارها استعدادًا لعملية برية، ومعركة الجفرة التي حسمت، أساسًا، بالقوة الجوية المصرية وبالدعم اللوجستي والمالي الإماراتي. وقد جرى هذا من خلال السفن المحملة بالذخيرة والمدرعات والآليات التي تصل تباعًا إلى ميناء طبرق، والتي أصبح أمرها علنيًّا، خاصة بعد أن أكدته تقارير صادرة أخيرًا عن الأمم المتحدة تدين خرق الإمارات المتواصل لحظر تصدير السلاح إلى ليبيا، فضلًا عن تمركز وحدة جوية إماراتية بقاعدة "بنينا" في بنغازي، باعتراف قادة عملية "الكرامة".

ويزداد شأن التدخل الأجنبي أهمية من خلال تزامن سيطرة قوات حفتر على الجفرة، وارتفاع نبرة التهديدات بالتقدم نحو مصراتة وطرابلس، مع قيام كتائب في الزنتان قريبة من القوات المنبثقة من برلمان طبرق التي يقودها حفتر بإطلاق سراح سيف الإسلام القذافي نجل العقيد القذافي (حليف أبوظبي أيضًا). الأمر الذي يرجح عودته للاضطلاع بدور سياسي في مستقبل ليبيا، ليشكل ذلك المرحلة الأخيرة في عملية إعادة ليبيا الى عهد ما قبل الثورة، وهي العملية التي تشرف عليها قوى الثورة المضادة لإعادة عقارب الساعة الى الوراء على امتداد المنطقة. فبعد إعادة مصر إلى معسكر الاستبداد، منذ أربع سنوات، بقوة الآلة العسكرية، تعتقد مكونات هذا التحالف الإقليمي أن ضبط الأوضاع في ليبيا على طريقتها يظل المدخل الرئيس لفتح ثغرات في تونس التي ظلت الأوضاع فيها خارج الحسم، حتى الآن، على الرغم من المسار الديمقراطي المتعثر، وربما مدخلًا لمحاصرة الجزائر التي ترفض أن تكون جزءًا من المعادلة المصرية في ليبيا، وترى نفسها قادرة على أداء "دور جزائري" يجمع مختلف الفرقاء الليبيين ضمن حل سياسي توافقي.


الخاتمة

مثّلت سيطرة قوات حفتر على منطقة الجفرة اختراقًا مهمًّا، بالمقاييس العسكرية والسياسية للصراع الليبي. وعلى الرغم من ترجيح تصاعد التدخل العسكري والمالي والسياسي الإقليمي، تزامنًا مع توجه محور الثورة المضادة نحو الاستفادة من وجود إدارة أميركية متعاطفة معه لحسم ملفات الدول التي شهدت ثورات أو تغييرات منذ العام 2011، فإن الحسابات التي حكمت معركة الجفرة لا تبدو قابلة للتكرار في أي معارك أخرى محتملة في المنطقتين الوسطى والغربية.



[1] "المسماري: سقوط سبعة قتلى في معارك الجفرة"، موقع عين ليبيا، 4/6/2017، شوهد في 12/6/2017، في:

 https://goo.gl/1Y6nrd