مع تعيين عضو مجلس الشيوخ الأميركي جون كيري وزيرًا للخارجيّة خلفًا لهيلاري كلينتون، تحاول إدارة الرئيس باراك أوباما إعطاء الانطباع بأنّ لديها مقاربة جديدة لحلّ "الأزمة السوريّة"، وذلك بعد اقتراب عمر الثورة في سورية من السنتين. فما هي هذه المقاربة؟ وهل هناك جديد في الموقف الأميركي الذي يبدو أنّه توقف زمنيًّا عند نقطة مطالبة الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي عن السلطة في آب / أغسطس 2011، وتحذيره من استخدام السلاح الكيماوي؟ وهل يحمل كيري في زيارته إلى المنطقة أفكارًا جديدة؟ وهل تدخل مهمّته ضمن سياسة التظاهر بأنّ الإدارة الأميركية تفعل شيئًا أو تريد أن تفعل شيئًا لوقف نزيف الدم السوري من دون أن تسعفها الظروف والأدوات وتعقيدات المشهد المحلي والإقليمي والدولي؟ وإذا كانت هناك أفكار جديدة بالفعل، كما يزعم كيري عندما صرح مرارًا بأنّه يريد أن يدفع بشار الأسد إلى تغيير حساباته، فهل تدخل هذه الأفكار ضمن اتجاه أميركي للتصعيد مع النظام أم هي ارتكاسة نحو تبني الموقف الروسي في التعامل مع الأزمة؟
الدعوات الأميركية: من الإصلاح إلى التنحي
في أول شهرين من عمر الثورة السوريّة؛ أي في الفترة الممتدة بين 15 آذار / مارس ومنتصف أيار / مايو 2011، راهنت الولايات المتحدة الأميركية على قيام النظام بإجراء إصلاحات تلبي مطالب المحتجين؛ لذلك ظلت التصريحات الأميركية مقتصرة - آنذاك - على الدعوة إلى وقف العنف وتلبية مطالبهم. وبعد ذلك، انتقلت إدارة الرئيس أوباما إلى ممارسة ضغوط على النظام السوري، تمثلت بفرض حزمة من العقوبات المالية والاقتصادية في 18 أيار / مايو 2011 شملت الرئيس بشار الأسد وعددًا من المسؤولين السياسيين والأمنيين في نظامه[1]؛ وهي عقوبات فردية ذات قيمة معنوية، ولكنّها لم تعن الكثير بالنسبة إلى النظام. لقد فرضت هذه العقوبات بعد أن قام النظام بزج الجيش مباشرة في عمليات عسكرية ضد الحركة الاحتجاجية واقتحامه المدن والبلدات والقرى المنتفضة.
بيد أنّ التمسّك بموقف يقتضي عدم الذهاب أبعد من فرض العقوبات في التعاطي مع الأزمة السوريّة، ومع محدودية فاعليّة أدوات الضغط المتاحة على النظام السوري، فقد دفع ذلك الولايات المتحدة إلى الاعتماد على تركيا التي تمتلك أدوات من شأنها التأثير في النظام والمعارضة في آن معًا. وعلى الرغم من أنّ الرئيس الأميركي اعتبر - خلال مقابلة تلفزيونية مع شبكة سي بي إس في 12 تموز / يوليو 2011 - أنّ بشار الأسد "فقد شرعيته لعجزه عن إنجاز التحول الديمقراطي"، فإنّه لم يدعه إلى التنحي عن الحكم[2]. ولم يقدم أوباما على ذلك الموقف إلا في 18 آب / أغسطس 2011[3] عندما تبيّن فشل مساعي وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو في إقناع الرئيس الأسد بإيقاف الحل الأمني خلال زيارة قام بها إلى دمشق في 9 آب / أغسطس 2011 [4] لكنّ الولايات المتحدة عادت وتبنّت موقفًا أكثر تحفّظًا من الثورة.
لقد كان موقف الولايات المتحدة من النظام السوري أقل حسمًا حتى من موقفها من نظام حليف مثل نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي دعاه أوباما إلى التنحي بعد عشرة أيام من اندلاع الثورة في مصر.
الانكفاء
تبنّى الرئيس باراك أوباما منذ انتخابه في تشرين الثاني / نوفمبر 2008 سياسة الانكفاء نحو الداخل، في قطيعة مع سياسة سلفه المرتكزة على التدخل العسكري المباشر؛ وذلك نتيجة لسياسة المحافظين الجدد الكارثية في العراق، وصعود شعبية مقاومة هذه السياسة عربيًا، وعدم رضى المؤسسة الأميركية عن فشل هذه السياسات، وغضب الشعب الأميركي عليها. وقد أدت سياسة أوباما إلى تجديد الاعتماد على حلفاء إقليميين في مناطق مختلفة حول العالم للتعامل مع قضايا يمكن أن تشكل تهديدًا للمصالح الأميركية أو لحلفائها.
من جهة ثانية، أخذت إدارة أوباما تولي اهتمامًا متزايدًا بتصاعد النفوذ الصيني أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا، مما وضع منطقة آسيا والمحيط الهادئ على رأس جدول أعمالها الخارجي. كما دفع التوجه نحو خفض الإنفاق العسكري إلى بعض الظواهر، مثل التركيز على تخطيط إنهاء الوجود العسكري في أفغانستان. وقد مال حلفاء أميركا إلى تفسير سحب إحدى حاملتي طائراتها من الخليج العربي في شباط / فبراير 2013 وكأنّه مؤشّر على تقلّص نسبي في أهمية منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط في الإستراتيجية الأميركية، وبخاصة مع الاكتشافات الهائلة من الغاز والنفط الحجري في الولايات المتحدة، إذ من المتوقع أن تصبح الولايات المتحدة أكبر منتج للغاز في العالم بحلول عام 2015، وأكبر منتج للنفط بحلول عام 2017. لكننا نميل إلى الاعتقاد بأنّ ما يظهر وكأنّه تناقص في اهتمام واشنطن بالمنطقة، ينحصر في أنّها لم تعد ترغب في خوض مواجهات عسكرية مباشرة فيها ما دامت مصالحها غير مهددة على نحو شامل.
جاءت الثّورات العربية لتبين بوضوح حال الانكفاء الأميركي عن التدخل المباشر كنهج واستراتيجية، لكنّها، من جهة أخرى، فرضت على واشنطن إعادة النظر في سياستها الخارجيّة في الشرق الأوسط، والتي بدأت في عهد أوباما تتجه نحو الحفاظ على الوضع القائم Status Quo في الأنظمة العربية. فمنذ وصوله إلى البيت الأبيض، اتجه الرئيس أوباما إلى إعادة الاعتبار لتحالفات بلاده مع نظم الاستبداد العربية، بعد أن أدت محاولات سلفه في فرض التغيير إلى توريط الولايات المتحدة في مغامرات عسكرية عالية التكلفة من ناحية، وإلى خلق أجواء توتر مع بعض الأطراف العربية الحليفة من ناحية أخرى. لكنّ الثورات العربية التي فاجأت الأميركيين وغيرهم، قلبت الوضع القائم، ودفعت نحو إعادة النظر في هذه السياسة للتأقلم مع التغيرات الحتمية وليس تشجيعًا لحصولها. وفي الوقت الذي تخلت فيه الولايات المتحدة عن تبرير سياساتها التدخلية بتصدير الديمقراطية، أضحى لزامًا عليها أن تبرر موقفها من ثورات وطنية تقوم بها شعوب تواقة إلى الديمقراطية. وحالما حاولت أميركا التأقلم مع الوضع الجديد، تعرضت سياستها لنقد حلفاء خليجيين يحذّرون من تساهلها مع صعود الإسلاميين، ومن عواقب تخلّيها بسهولة عن حليفها مبارك، بسبب انعكاسات ذلك على حلفائها الآخرين. ومن أولئك من جعل مهمته إفشال التجارب الديمقراطية.
لم يخرج موقف الولايات المتحدة الأميركية من الثورة السوريّة عن هذا الإطار، فهي لم تكن راغبة في التغيير، لكنّها لم تعمد أيضًا إلى منعه، بل حاولت التأقلم معه في سياق إستراتيجية لا تؤدي إلى جر واشنطن إلى تدخل عسكري مباشر، لكنّها، في الوقت نفسه، تمكنّها عبر أدوات مختلفة من التحكم بمسارات التغيير ونتائجه.
ومن هنا، لاحظنا فجوة كبيرة بين نشاط وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون والاتصالات الحثيثة لسفيرها السابق في سورية روبرت فورد مع المعارضة من جهة، ورفض البيت الأبيض تقديم أي شيء جدي لهذه المعارضة أو القيام برفع الحظر عن تزويدها بالسلاح من جهة أخرى. لقد حاولت واشنطن اختراق المعارضة السوريّة ووضع شروط سياسية عليها من دون أن تقدم أي شيء فعلي في المقابل، فهي لم تتحرر من نزعتها للبحث عن عملاء بدل التعامل بندّية مع الأطراف العربية.
الجمود الدبلوماسي الأميركي منذ اتفاق جنيف
توصلت مجموعة العمل حول سوريا في 30 حزيران / يونيو 2012 إلى اتفاق جنيف، والذي يتألف من ست نقاط لحل الأزمة السوريّة، لكن تنفيذ الاتفاق تعثر بسبب اختلاف التفسيرات حول مستقبل الرئيس الأسد في المرحلة الانتقالية؛ ففي حين أصرت روسيا على أنّ الاتفاق لا يشير إلى رحيل الأسد كنقطة انطلاق للتنفيذ، تمسكت واشنطن بموقفها الداعي إلى أنّ الأسد لا يمكن أن يكون جزءًا من أي مرحلة انتقالية. منذ ذلك الوقت، طرأت تغييرات على الموقف الأمريكي، فهو لم يعد يشير إلى وضع بشار الأسد، حتى إنّ الرئيس أوباما في خطاب "حال الاتحاد" في 12 شباط / فبراير 2013 لم يتطرق إلى هذه المسألة مطلقًا، بل اكتفى بالقول إنّه "سيواصل ضغوطه على النظام السوري وسيدعم قادة المعارضة"[5].
ونحن لا نعتقد أنّ الطرفين الروسي والأميركي اكتشفا سوء الفهم بعد موافقتهما على نقاط جنيف، بل كانا يعلمان أنهما يوقّعان على نقاط عامّة، لا اتفاق على أيّ تفسير لها.
وكان رفض البيت الأبيض توصيات وزاراتي الخارجية والدفاع وكذلك الاستخبارات بتسليح مقاتلي المعارضة السوريّة وتدريبهم، دليل آخر على رفض أوباما ترجيح كفة المعارضة السوريّة بما يؤدي إلى حسم الصراع عسكريًا[6].
ويمكن تحديد جملة عوامل ساهمت في تراجع الموقف الأميركي وزادت من تحفظه عن دعم الثورة السورية، وهي تشكّل في مجملها مؤشّرات على السياسة التي سوف تعتمدها إدارة أوباما في ولايتها الثانية:
- تخوّف واشنطن من التوجهات السياسية والأيديولوجية لجزء من المجموعات المسلحة المعارضة للنظام السوري؛ إذ لا ترغب إدارة أوباما بدعم هذه المجموعات بالسلاح بما يؤدي إلى حسم المعركة لصالحها. وغالبًا ما يعمد المسؤولون الأميركيون إلى استذكار تجربتهم في أفغانستان عندما سلّحوا جماعات المجاهدين لطرد القوات السوفيتية، ثم اتخذوا بعد ذلك أميركا نفسها هدفًا لهجماتهم. وقد تعمّقت هذه المخاوف بعد مقتل السفير الأميركي في بنغازي، وسيطرة حركات جهادية على شمال مالي. ولذلك قامت الولايات المتحدة بإدراج جبهة النصرة في قائمة المنظمات الإرهابية في 5 كانون الأول/ ديسمبر 2012.
- أمن المنطقة: تنظر الولايات المتحدة بريبة إلى واقع الثورة السوريّة ومسارها المسلّح، وما قد يخلفه الحسم العسكريّ لقوات المعارضة من نتائج محتملة، أبرزها فوضى السلاح، وانتشار الجماعات المتشددة، وغياب سلطة مركزيّة قويّة. وتنذر مثل هذه النتائج بتداعيات سلبية على أمن المنطقة وبخاصة على إسرائيل.
- نظرًا لتشرذم المعارضة السوريّة، وبخاصة العسكريّة منها، وغياب بديل ذي توجهات معقولة بالنسبة إلى الأميركيين ليحل محل النظام الحالي، وبسبب تأثير التجربة الأميركية في العراق أيضًا والنتائج الكارثيّة لانهيار الدولة هناك، نجد أنّ واشنطن تقترب أكثر من الموقف الروسي الهادف إلى إيجاد حل سياسي يضمن الحفاظ على النظام وفق بنيته الحالية ومؤسساته، ولا سيما الأمن والجيش. وقد عبّر وزير الخارجية الأميركي الجديد جون كيري بوضوح عن ذلك في شهادة أدلى بها أمام الكونغرس في 24 كانون الثاني/يناير 2013، إذ قال إنّ "التنسيق مع روسيا في الأزمة السوريّة هو أقل الشرور"[7]. وكانت وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون أكثر وضوحًا عندما صرحت عقب لقائها وزيرة خارجية جنوب أفريقيا في بريتوريا في 7 آب/أغسطس 2012 "أنّ على من يحاولون استغلال معاناة الشعب السوري سواء بإرسال أتباعهم أو بإرسال مقاتلين إرهابيين، أن يعلموا أنّ أيّ طرف، خاصة الشعب السوري، لن يسمح لهم بذلك". ولذلك يجب "علينا أن نضمن بقاء مؤسسات الدولة سليمة"[8]. ومن هنا يتضح سبب مسارعة الولايات المتحدة إلى الترحيب بمبادرة معاذ الخطيب رئيس "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة" السوريّة في 5 شباط/فبراير 2013 للحوار مع أطراف من النظام[9]. فكما تدعم واشنطن مهمات المبعوثين الدوليين إلى سورية، فإنّها تحاول أن تتبنى كل ما يُظهر أنّ ثمة عملًا وخطوات، ولو كان ذلك مجردًا من أي فاعلية أو نتائج.
تعدّ هذه أهم العوامل التي تحكم الموقف الأميركي من الثورة السوريّة، وهي العوامل ذاتها التي تؤثر أيضًا في قدرة الاتحاد الأوروبي على اتخاذ قرارات. فقد عارضت الإدارة الأميركية التدخل العسكري في ليبيا، لكنّ التدخل الفرنسي البريطاني جرّها إلى اتخاذ موقف داعم عبر حلف شمال الأطلسي "الناتو". أمّا في سورية، فإنّ الذي سيؤثر في صنع المواقف الدولية في النهاية تجاهها، هو تطور الوضع على الأرض المتمثل أولًا بالكارثة والعدد الكبير من الضحايا بسبب تمتع النظام بقدر غير مسبوق من حرية استخدام أنواع السلاح المختلفة وعدم وجود سقف يحدّ من استخدامه للعنف ضد شعبه، وثانيًا تقدّم الثوار على الأرض على الرغم من عنف النظام وحظر تسليحهم، ما يجعلهم يعتمدون فقط على تمويل بعض المصادر الإقليمية.
ومؤخرًا، حين قرر الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة مقاطعة اجتماع مجموعة أصدقاء سورية في روما المزمع عقده في 28 شباط / فبراير؛ لأنّ الاجتماعات أصبحت طقوسًا شكليّة تساعد دول المجموعة على الظهور بمظهر من يفعل شيئًا، لكن من دون يسفر ذلك عن أي فعل حقيقي، أدى ذلك إلى حملة أميركية للضغط على الائتلاف لحضور الاجتماع، ومنها اتصال هاتفي من وزير الخارجية الأميركي الجديد مع رئيس الائتلاف يعده فيها بأنّه يحمل جديدًا من أوباما إلى الاجتماع. وسوف تظهر الأحداث صحة هذا الوعد أو كذبه. ولكن من الواضح أنّ الولايات المتحدة باتت أكثر وعيًا بموقفها الحرج.
[1] "واشنطن تفرض عقوبات على الرئيس السوري وأركان نظامه"، بي بي سي، 18/5/2011، انظر:
http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2011/05
/110518_usa_assad_sanctions.shtml
[2] "أوباما: الأسد فقد شرعيته"، الجزيرة نت، 13/7/2011، انظر:
http://aljazeera.net/NR/exeres/3E7B5A97-CB9C-458B-8998-C337B0DED27B.htm
[3] "أوباما يدعو الأسد للتنحي"، رويترز، 18/8/2011، انظر:
http://ara.reuters.com/article/topNews/idARACAE77H0UZ20110818
[4] "داود أوغلو في دمشق ويعقد اجتماعًا مع الأسد"، دي برس، 9/8/2011، انظر:
http://www.dp-news.com/pages/detail.aspx?articleid=92563
[5] http://www.whitehouse.gov/state-of-the-union-2013
[6] انظر:
"Backstage Glimpses of Clinton as Dogged Diplomat, Win or Lose," Michael R. Gordon and Mark Landler, New York Times, 2/2/2013; http://www.nytimes.com/2013/02/03/us/politics/in-behind-scene-
blows-and-triumphs-sense-of-clinton-future.html?pagewanted=all&_r=0
[7] "جون كيري: نحتاج إلى التعاون مع روسيا في الشأن السوري"، دي برس، 24/1/2013، انظر:
http://www.dp-news.com/pages/detail.aspx?articleid=138760
[8] "كلينتون تُحذر من إرسال "إرهابيين" إلى سورية"، جريدة الوسط، 8/8/2012، انظر:
http://www.alwasatnews.com/3623/news/read/693128/1.html
[9] "أمريكا ترحب بدعوة الخطيب للحوار وصحيفة سورية تصفها بأنّها "مناورة" سياسية"، بي بي سي، 5/2/2013، انظر:
http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast
/2013/02/130205_syria_dialogue_us_welcome.shtml