العنوان هنا
مراجعات 25 يونيو ، 2012

الحرية الافتراضية...حيادية الشّبكة وحرية التعبير في عصر الإنترنت

الكلمات المفتاحية

خالد وليد محمود

يشغل خالد وليد محمود وظيفة باحث مساعد في المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات. وكان قد عمل محرّرًا ومشرفًا في قسم الأخبار في "ياهو – مكتوب". وتركّز أبحاثه على دراسة النّشاط السياسي عبر الإعلام الرقميّ والمواقع الاجتماعية. عمل خالد محمود أيضًا باحثًا في عدّة مشاريع أكاديميّة، مثل برنامج "سيفيتاس" لقياس الرّأي العامّ لدى فلسطينيّي المهجر؛ كما اشتغل باحثًا مع البروفيسور ناثان براون، في دراسة المشاركة السياسيّة لحركة الإخوان المسلمين في الأردن. ونُشرت له عدّة مقالات في دوريّات محكّمة وفي الصّحف الإلكترونية والمطبوعة. وله عدد من المؤلفات: شبكات التّواصل الاجتماعي وديناميكية التّغيير في العالم العربيّ (2011)، آفاق الأمن الإسرائيلي: الواقع والمستقبل (2007)، مراكز البحوث في الوطن العربي (2013)، قلاع اللغة العربية ورياح الثورة الإعلامية (2013). وهو حاصل على البكالوريوس في العلوم السّياسية ودرجة الماجستير في العلاقات الدّولية من الجامعة الأردنيّة.


العنوان: الحرية الافتراضية: حيادية الشبكة وحرية التعبير في عصر الإنترنت

المؤلّف: داون نونسياتو

ترجمة: أنور الشّامي

الناشر: وزارة الثقافة والفنون والتّراث -قطر

السنة: الطبعة الأولى، 2011 

عدد الصفحات: 230


اعتقد المتحمِّسون لشبكة الإنترنت أنّها وسيطٌ عصيٌّ-إلى درجةٍ كبيرة- على التّنظيم الرسميّ والرّقابة. وقد برز هذا الاعتقاد في إطار ما يسمّى بـ "ثالوث الإنترنت المقدّس": "تقنية الوسيلة- طبيعة المحتوى- التّوزيع الجغرافيّ للمستخدمين". واعتمدوا في ذلك على فرضيّةٍ مفادها بأنّ شبكة الإنترنت صُمِّمت بهدف تفادي حرب نوويّة. ومن ثمّ فإنّ هندستها وبنية حزم المعلومات فيها تقاوم الرّقابة، وتحقّق حلم التّحرّر المدنيّ من خلال تقنيةٍ منخفضة التّكاليف للمستخدمين، ووسيط تفاعليّ بالغ الأهمّية للأفراد وللحكومات على حدٍّ سواء.

ينطلق هؤلاء المتحمّسون لشبكة الإنترنت من فكرة تقليديّة، تقول إنّ الإنترنت هي فضاء للتّعبير الحرّ من حيث الاتّساع والأهمّية؛ وذلك -على الأرجح- للسّهولة غير المسبوقة في دخول هذا الفضاء، والتّعبير الحرّ فيه. ولطالما أثارت حرّية التعبير على شبكة الإنترنت العديد من الإشكاليّات المتعلّقة أيضًا بالتنظيم القانونيّ، وآليّاته، ومدى فعاليّته في إطار وسيطٍ بات يتمتّع بالقدرة على الاتّصال الآليّ وعلى تجاوز الحدود الجغرافيّة والسياسيّة والقانونيّة؛ لا سيّما بعد أن أصبحت هذه الشّبكة خاضعة لسيطرة حفنة من الكيانات الخاصّة خارج هيمنة الحكومات وأجهزتها التابعة لها.

تقع هذه المفارقة في صفحات كتاب "الحرّية الافتراضيّة"، لداون نونسياتو. وقد صدرت حديثًا ترجمته عن الإنكليزيّة للعربيّة، بمبادرة من وزارة الثّقافة والفنون والتّراث القطريّة. يقع الكتاب المترجم في 230 صفحة، وهو من القطع المتوسّط. ويشتمل على سبعة فصول؛ تقدّم فيها الكاتبة -أستاذ القانون في جامعة واشنطن- معطيات مهمّة، تمكّن القارئ من الاطّلاع على الجانب الخفيّ لممارسة الشّركات المزوّدة للإنترنت الرّقابة على المحتوى، وفق رؤيتها ومصلحتها المباشرة. وكان ذلك أحد تداعيات التّنقيحات التي حصلت مؤخّرًا على قانون حرّية التّعبير في الولايات المتّحدة. وبموجبه مُنعت الحكومة من الرّقابة على التعبير، ولكنّها في المقابل سمحت للشّركات التجاريّة الوسيطة -التي باتت تعدّ بمنزلة الحارس لبوّابات محتوى الشبكة العنكبوتيّة- بالقيام بهذا الدّور والتحكّم في المحتويات المنشورة.


هل انتهت حرّية التّعبير على الإنترنت؟

من خلال مجمل فصول هذا الكتاب، توصلنا الكاتبة إلى حقيقةٍ مفادها بأنّ حرّية التّعبير عبر الإنترنت قد انتهى بها المطاف لتصبح خاضعة لحفنة من الكيانات- الشركات الخاصّة ذات السّطوة، تتحكّم فيها. ونتيجة لذلك، أصبحت قنوات التّعبير مملوكة لتلك الشّركات. وتقرّ الكاتبة بأنّ السّنوات الأخيرة قد شهدت تطوّرًا، كان من شأنه أن منح حفنة صغيرة من القنوات ذات السّطوة هيمنة مطلقة على تعبير الأفراد؛ إلى الحدّ الذي جعل قدرة هذه القنوات الخاصّة على رقابة التعبير من خلال هذه الوسيلة، تصل إلى مستويات غير مسبوقة. وقد استثمرت قنوات التعبير -التي تتّخذ من الولايات المتّحدة مقرًّا لها- موارد ماليّة هائلة لتطوير طرق الرّقابة على التعبير؛ وذلك بناءً على طلب أنظمة مقيِّدة للتّعبير مثل الصّين. ومع توفّر تلك الطّرق، تصبح قنوات التّعبير مؤهّلةً -وعلى نحوٍ متزايد- لتقييد حريّة التّعبير لدى مستخدمي الإنترنت في الولايات المتّحدة؛ وذلك تعزيزًا لمصالحها التجاريّة والسياسيّة وغير ذلك من المصالح، ممّا يزعزع الثّقة بينها وبين المستخدم.


الكيانات المهيمنة على حرّية التّعبير

تشخّص الكاتبة مشكلات حرّية التّعبير على الإنترنت، وترى أنّه على الرّغم من كون شبكة الإنترنت قد حقّقت -ولاتزال- أكبر سوق تشاركيّة للتّعبير الجماهيري؛ فإنّ مجموعة من القنوات ذات السّطوة، قد صارت تتحكّم في نهاية المطاف في حريّة التّعبير، مثل مزوِّدي إنترنت القطاع العريض ومزوّدي العمود الفقري للإنترنت ومزوّدي البريد الإلكتروني ومحرِّكات البحث.

ووجود هذه القنوات ذات السّلطة، يطرح إشكاليّة: في أيّ ظروف استخدم هؤلاء المزوِّدون سلطتهم التّقديريّة لتحديد أيٍّ من المحتويات يُحجب، وأيٍّ منها يُسمح بعبوره؟ فقد شهدت عمليّة تنظيم الإنترنت خلال السّنوات الأخيرة تطوّرًا، كان من شأنه أن منح هذه الكيانات الخاصّة هيمنة مطلقة على حرّية تعبير الأفراد؛ إلى حدّ جعل قدرة هذه القنوات الخاصّة على رقابة التعبير عبر هذه الوسيلة تصل إلى مستويات غير مسبوقة.

وتعطينا داون نونسياتو أمثلة على الكيفيّة التي أصبحت بها قنوات التعبير مؤهّلة -وعلى نحو متزايد- لتقييد التعبير لدى مستخدمي الإنترنت في الولايات المتّحدة؛ لاسيّما ذلك التّعبير الذي يتضمّن انتقادًا للحكومة، أو يتعارض مع المصالح التّجاريّة للمزوِّد. وهو ما جرى حين حجبت شركة "أميركا أونلاين" -التي كانت في وقت من الأوقات المزوّد الأكبر لخدمة الإنترنت داخل الدولة وفي العالم بأسره- رسائل بريديّة أرسلها معارضون لبعض سياسات "أميركا أونلاين" الخاصّة برسائل البريد الإلكتروني. كما قامت شركة كومكاست Comcast -التي تعدّ واحدةً من أكبر الشّركات المزوّدة للنّطاق العريض للإنترنت- سرًّا، بتقييد قدرة مشتركيها على استخدام تطبيقات مشاركة الملفّات القانونيّة. ومنعت مشتركي بريدها الإلكتروني من تلقّي مراسلات من مجموعتي ضغط، تنتقدان الرّئيس الأميركي السّابق جورج بوش الابن. كما حجبت الشّركة رسائل بريد إلكتروني من منظّمة، كانت تسعى إلى الضّغط على الكونغرس لإدانة الرّئيس؛ على خلفيّة شنّه الحرب على العراق. وهناك شركة AT&T (وهي مزوّد للإنترنت ADSL)، التي فرضت رقابة على المقاطع الغنائيّة المناوئة لبوش. كما قام مزوّدو خدمة إنترنت وحرّاس بوّابات Gatekeepers آخرون، بإعاقة الأفراد عن المشاركة في التّعبير عن آرائهم الخاصّة في الحرب على العراق أو في أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وكانت شركة Google بدورها، قد فرضت الرّقابة على جميع صور الجنود الأميركيّين وهم يعذِّبون أسرى عراقيّين. وبحسب الكتاب، فإنّ شركة "غوغل" قد تورّطت أيضًا في أعمال رقابيّة عديدة، أسوة بمزوِّدي النّطاق العريض. ولأنّ  "غوغل" يعدّ محرّك البحث الأقوى على الإنترنت؛ فقد تورّط في التّلاعب بنتائج البحث وترتيبها، وفي فرض الرّقابة على "الرّوابط الدعائيّة" المتّصلة بهذه النّتائج، وهي عبارة عن رسائل نصّية موجزة، تظهر مرتبطة بكلمات البحث التي يُدخلها مستخدمو "غوغل". ومن بين القضايا "المثيرة للحساسيّة" التي كثيرًا ما تفرض شركة "غوغل" عليها قيودًا؛ تُذكر النّقاشات التي تدور حول الإجهاض. فعلى الرّغم من أنّ "غوغل" تقبل ظاهريًّا بالرّوابط الدعائيّة الخاصّة بالموضوعات ذات الصّلة بالإجهاض من وجهات نظر دينيّة معيّنة، ومساندة للحقّ في الإجهاض؛ فإنّها ترفض قبول الرّوابط الدعائيّة التي تناقش موضوع الإجهاض من وجهة نظر دينيّة، أو تلك التي تحيل إلى المسألة من زاوية نظر دين ما. كما فرضت "غوغل" في الجانب السّياسي قيودًا على الآراء في روابطها الدعائيّة. وتشير نونسياتو إلى أنّ "غوغل" لدى تنفيذها سياستها الرّافضة لاستضافة الرّوابط الدعائيّة التي تقف "موقفًا مناوئًا من أيّ فرد أو جماعة أو منظّمة"؛ أخذت تستخدم هذه السّلطة في فرض قيود على التّعبير، لمصلحة مواقف سياسيّة بعينها. كما فرضت كلٌّ من شركة "أمريكان أونلاين" America Online و"ياهو" Yahoo الرّقابة على منتديات الإنترنت، التي تستضيف موادّ معادية لأميركا وللإسلام.

كما فرض حرّاس بوّابات الإنترنت رقابة على الآراء المتعلّقة بشؤون دينيّة ومجتمعيّة، عندما علّقت شركة "نتورك سيلوشنز" لحلول الشّبكات NSI (وهي واحدة من أكبر الشّركات الأميركيّة في تسجيل أسماء النّطاقات وحارسي البوّابات للحصول على موقع على شبكة الإنترنت) تسجيل اسم النّطاق لموقع عضو البرلمان الهولندي جيرت فيلدرز، وأغلقت ذلك الموقع عندما ارتأت أنّه سوف يُستخدم لبثّ فِلْمٍ قصير يحمل انتقادات للإسلام... إلخ

وتضيف الكاتبة أنّ مزوّدي خدمة الإنترنت -الذين يعملون مزوّدي خدمة بريد إلكتروني، أو مستضيفين لمواقع- يستطيعون حظر المحتوى في رسائل البريد الإلكتروني أو المواقع، من خلال استخدام أحد برامج المرشّحات. كما يمكنهم استخدام برامج "متشمّمي  الحزم"، لحظر الوصول إلى أنواع من بروتوكولات الاتّصال. ويتسنّى لبرامج الغربلة حظر المحتوى، من خلال طرق متعدّدة؛ مثل البرامج التي تستطيع أن تحجب كلمات أو عبارات معيّنة غير مرغوب فيها، مثل الكلمات ذات الصّلة بالجنس، وتسمّى بـ "برامج الغربلة".


"حرّية التّعبير عبر الإنترنت تنزلق في هدوء من بين أيدينا"

تخلص الكاتبة -في معرض حديثها في هذا الباب- إلى أنّ مزوّدي خدمة النّطاق العريض وكيانات التعبير الأخرى على الإنترنت، قد أصبحوا يمتلكون الوسائل التّقنية الكفيلة بفرض الرّقابة؛ وذلك بفضل استخدام تقنية التّفتيش العميق للحزم، وبرامج الغربلة. كما أنّ لدى مزوّدي خدمة النّطاق العريض -أولئك الذين يحظون بحقّ احتكار / أو بوضع احتكار ثنائيّ لسوق الإنترنت المنزليّة- ما يحفّزهم على فرض القيود على التّعبير الذي يضرّ بمصالحهم في السّوق،  وإتاحة الفرصة للتّعبير الذي يتوافق مع تلك المصالح دون غيره. كما أصبح بمقدور مزوّدي النّطاق العريض -مثل (كومكاست)- اختيار المحتوى الذي يريدون التّرويج له، وفرض الرّقابة على المحتوى غير المرغوب فيه. وهذا ينطبق على محرّكات البحث -ومنها "غوغل"- التي يوجد لديها سلطة مطلقة في فرض الرّقابة على التّعبير الذي تتيحه للمستخدم من خلال بوّابتها.

 
من يتحكّم في الإنترنت؟

تستطرد الكاتبة بالقول إنّه على مدى العقدين الماضيين من الزّمان، أخذت الولايات المتّحدة تنزع عن نفسها ملكيّة البنية التّحتيّة للإنترنت وتحكّمها فيها. وتنازلت عنها إلى حفنة من الكيانات الخاصّة. وفي الوقت الذي أقدمت فيه على ذلك؛ كانت قنوات التّعبير الخاصّة تلك، مازالت تُسيَّر بوصفها ناقلات عموميّة وملزمة قانونيًّا بإتاحة التّعبير، وعدم ممارسة التّمييز ضدّه. إلّا أنّه في عام 2005، أقرّت المحكمة العليا للولايات المتّحدة، بأنّ "حقوقنا في حرّية التّعبير عبر الإنترنت تنزلق في هدوء من بين أيدينا".

لقد أغفلت الكاتبة الحديث عن الطّموح الأميركي للسّيطرة على العالم؛ انطلاقًا من فرضيّةٍ مفادها بأنّ من يمتلك المعلومات، هو الأقدر على تحقيق السّيطرة العالميّة. وإذا كان لهذه الفرضيّة ما يبرّرها بالنّسبة إلى الولايات المتّحدة؛ فإنّ ذلك يرتبط بعوامل عدّة، ارتبطت بالتطوّر التكنولوجي في هذه الدّولة، وما قاد إليه من تطوّر في مجالات عدّة. أمّا باقي دول العالم، فلديها الكثير من المبرِّرات لرفض الإذعان لهذه الفرضيّة.

وكما هو معروف، فإنّ شبكة الإنترنت أميركيّة النّشأة. وقد أسّستها الولايات المتّحدة لخدمة وزارة الدّفاع، وتوسّعت لتربط مؤسّسات وشركات محلّية وعالميّة، ثمّ انتقلت إدارتها إلى القطاع الخاصّ. كان ذلك بعد أن ظهرت مع مطلع الألفيّة الثّالثة نزاعات دبلوماسيّة بشأن السّيطرة على شبكة الإنترنت، وتحويلها من سيطرة منظّمة "أيكانICAA1" (أميركيّة غير حكوميّة)[1] إلى سيطرة مؤسّسة دوليّة عالميّة؛ حتّى بات هناك من يتحدّث عن صراع المنظورات الذي يشبه صراع الحضارات. ولم تقتصر المُعارَضَةُ لقيادة أميركا شبكة الإنترنت على الدّول منفردةً؛ بل تحوّلت إلى جهدٍ جماعي، إثر تكليف الأمم المتّحدة -عن طريق أمينها العامّ السّابق كوفي عنان- فريق عمل يتألّف من أربعين شخصًا، للبحث في إدارة الإنترنت التي تتلخّص في:

-      إنشاء ما يُعرف بمجلس الإنترنت العالمي. وتكون أعضاؤه من الحكومات مهتمّة بالإشراف على الشّبكة، بدلًا من هيئة "آيكان" الأميركيّة.

-      تقوية دور اللّجنة الحكوميّة لهيئة "آيكان" نفسها؛ بحيث تصبح منتدًى رسميًّا حكوميًّا تكون مهمّته مناقشة قضايا الإنترنت.

-      تقليص صلاحيّات هيئة "آيكان"، إلى حدّ تقتصر فيه على الجانب التّقني، وإنشاء مجلس الإنترنت العالمي؛ بحيث لا يكون تابعًا للأمم المتّحدة، وإنّما يتبع هيئة دوليّة مستقلّة.

-      إنشاء ثلاثة كيانات: يختصّ الأوّل منها بنظام عنونة المواقع؛ ويكون الثاني غرفة مناقشات حول الإنترنت، تشارك فيها الحكومات ومؤسّسات غير ربحيّة ومنظّمات ممثّلة لعموم النّاس؛ ويقوم الثّالث بدور المنسّق بشأن القضايا ذات العلاقة بالسّياسة العامّة.

في هذا السّياق، أشارت الكاتبة إلى أنّه في عام 1998، تنازلت حكومة الولايات المتّحدة عن سيطرتها على إدارة البنية التحتيّة للإنترنت لصالح كيان خاصّ؛ وذلك من خلال خصخصة إدارة نظام اسم النّطاق، ونقل التحكّم لهذا النظام إلى مؤسّسة "آيكان". وتعدّ هذه المؤسّسة كيانًا خاصًّا، ولا ترتبط بأيّ حكومة أو كيان حكومي دولي. وقد منحتها الولايات المتّحدة سلطة وضع السّياسات المنظّمة للتعبير عبر الإنترنت. وعليه، فقد حظيت "آيكان" وأولئك الذين تفوِّضهم في تنظيم اسم النّطاق، بسيطرة واسعة على البنية التحتيّة للتّعبير وكذلك على التّعبير نفسه عبر الإنترنت.

تتحكّم "آيكان" في نظام أسماء النطاقات، الذي يترجَم بدوره إلى تحكّم في الاستحواذ على المواقع وصيانتها؛ ممّا يؤدّي في النّهاية إلى تحكّم في التعبير عبر الإنترنت. وعليه، فإنّ "آيكان" ومسجّلي أسماء النّطاقات من ذوي السّلطة -مثل شركة NSI- يحظون بسيطرة محكمة على البنية التحتيّة للإنترنت.


ما العمل إذن؟

تحاول الكاتبة الإجابة عن هذا السّؤال من باب أنّ شبكة الإنترنت تمثّل منتدى غير مسبوق للتّعبير. ولأنّ تلك الشّبكة قد أُنشِئت بالأساس لتأدية أغراض تعبيريّة خاصّة بالحكومة الأميركيّة؛ فإنّ الكاتبة ترى أنّه على المحاكم أن تقرّر أنّ إدارة التعبير والتحكّم فيه عبر الإنترنت عمومًا يمثّل "وظيفة عامّة"، وأنّه على المحاكم أن تمحّص بدقّة ما إذا كان عليها أن تُخضع هذه الكيانات للمساءلة بشأن التعبير، وفقًا للتّعديل الأوّل للدستور الأميركي الضّامن للحرّيات الفرديّة والعامّة. إلّا أنّ الكاتبة ترى أنّ مبدأ تدخّل الدولة، لم يفلح في إلزام منظّمي التعبير على الإنترنت بالمعايير اللازمة لحماية حقوق حرّية التّعبير. وهي تدعو إلى إعادة النّظر في هذا القانون، وإعادة تشكيله؛ بحيث يركِّز على مدى سلطة المنظّم على التّعبير، ويوازن بين المصالح المشروعة للمنظّم من جهة، وبين مصالح ممارس التّعبير المفترض من جهة أخرى. وتقدّم الكاتبة الدّفع القانوني التالي: بتطبيق مبدأ تدخّل الدّولة في سياق الإنترنت؛ ينبغي للمحاكم أن تصل إلى خلاصة تتمثّل في أنّ شبكة الإنترنت نفسها، هي المعادل الوظيفي للمنتدى العامّ، منتدى للتّعبير، مثلما هي الحال مع الشّوارع العامّة وأرصفة المشاة والمتنزّهات. وهي تحظى بخاصّية السّماح بالتعبير على نحوٍ واسع.

وهذا ينطبق على محرّكات البحث. ونظرًا إلى السّلطة الهائلة والمطلقة التي تمارسها محرّكات بحث مهيمنة مثل "غوغل" على منتديات التعبير؛ فإنّ نونسياتو تعتقد أنّه من المفروض على الكونغرس أن يسنّ تشريعًا، يخوِّل له فرض قواعد تنظيميّة على محرّكات البحث المهيمنة، وأن يلزمها بإمكانيّة الوصول إلى محتوى الإنترنت على نحوٍ فعّال ودونما رقابة، كما يحظر عليها  التلاعب المتعمَّد بنتائج البحث على أساسٍ شخصيّ. وترى الكاتبة الأميركيّة أنّ سوق التعبير الجماهيري الأكثر تشاركيّة - على الرغم من العدد القليل من هذه الشركات التي تعمل حارسة لبوّابات التعبير على الإنترنت- ينبغي أن تنظَّم؛ حتّى تعمل كمضيفات جيّدات داخل هذه السّوق الخالية من التّمييز والرّقابة، وحتّى تضمن التزامها بقيم حرّية التعبير التي لا غنى عنها في إتاحة الفرصة للنّقاشات العامّة والمشاورات المطلعة التي يقتضيها النّظام الديمقراطي.

 وتدعو نونسياتو الكونغرس الأميركي إلى أن يسنّ تشريعا، يحظر (أو يلزم مفوّضيّة الاتّصالات الفيدرالية بأن تحظر) على مزوّدي النّطاق العريض حجب أيّ محتوى أو تطبيقات قانونيّة، وكذلك الانخراط في منح الأولويّة التمييزيّة أو خفض الرّتبة لمثل ذلك المحتوى أو التّطبيقات. كما ينبغي لمثل هذا التّشريع -بحسب الكاتبة- أن ينصّ على الشّفافية في الحجب، أو خفض الرّتبة. وتسهب الكاتبة في دعوة الكونغرس إلى سنّ تشريع، يسمح بتنظيم محرّكات البحث المهيمنة مثل "غوغل"؛ على نحوٍ يحظر عليها التّلاعب بنتائج البحث على أساسٍ فرديّ، ويلزمها بتأمين وصولٍ فعّالٍ وغير خاضع للرّقابة على المعلومة أيًّا كانت.

وقد بدأت الكاتبة في مقدّمة كتابها بدعوة إلى العمل، أو بصيحة إيقاظ موجَّهة لكلّ من يساورهم الشكّ في "حقوقنا" (وهي إشارة إلى المجتمع الأميركي) المتعلّقة بحرّية التعبير كمواطنين أميركيّين في هذا المنتدى غير المسبوق للتعبير؛ فإنّه ينبغي للمحاكم وراسمي السّياسات أن ينتهجوا مفهومًا إيجابيًّا للتّعديل الأوّل للدّستور في عصر الإنترنت. واختتمت كتابها أيضًا بدعوة لتحقيق الوعد بأنّ الإنترنت ستكون "سوقًا للتعبير الاجتماعي الأكثر تشاركيّة". فهذا العدد القليل من الشّركات التي تعمل حارسة على بوّابات التعبير عبر الإنترنت، ينبغي أن تنظَّم. ويمكن لها أن تواجه بحملات ضغط عليها من المجتمع المدني الأميركي!

وتدعو الكاتبة الحكومات إلى أن تفرض على مزوِّدي خدمات الإنترنت الواجب القانوني، المتمثِّل في تيسير وصول المستخدمين إلى كلّ المحتويات التي تكون قانونيّة في تلك البلاد. وعلى الحكومات أن تطالب المزوِّدين بالعمل كقنوات حياديّة تجاه تلك المحتويات؛ دون اللّجوء إلى الحجب الرّقابي، أو التّمييز، وتيسير تبادل المعلومات "المشروعة" دون تمييز أو حجب رقابي.


ماذا عن العالم العربي مثلًا؟

يبدو أنّ الكاتبة أَغْفَلَت (أو غفلت عن) الحديث عن "العالم الآخر"، وعمّن ليسوا أميركيّين أو مواطنين أميركيّين. وعليه، فإنّ الحديث عن حقّ أولئك في التعبير، ليس ممّا يشغل القانوني الأميركي ومؤسّسات المجتمع الحقوقيّة، كما أنّه ليس من شواغل السّياسي الأميركي بالتّأكيد. ولربّما يكون من المثير للاهتمام رؤية السّياسي الأميركي يتضامن مع المواطن العربي في الوصول إلى المعلومة دون رقابة، أو التّعبير دون غربلة من جهاز السّياسة والمصلحة القوميّة.

ومن المعروف أنّ ثمّة توّاقين لحرّية التعبير في العالم ككلّ؛ فالمعطيات تشير إلى أنّه في عام 2015، سيستطيع نحو 3.5 مليار فرد، أي نصف سكّان العالم، الدخول إلى شبكة الإنترنت.  وستُعَدّ هذه الشّبكة الوسيلة الأكثر روعةً لكسر الحدود، وهدم الجدران التي تفصل بين الدّول والبشر. وبالنّسبة إلى الشّعوب التي تعاني القهر، والتي حرمت من حقِّها في التّعبير عن نفسها وعن حقّها في اختيار مستقبلها؛ فإنّ شبكة الإنترنت تمكّنها من أن تتجاوز حتّى آمالها. ففي غضون دقائق، من الممكن نشر الأخبار والصّور التي يجري تسجيلها على أجهزة الهواتف المحمولة إلى جميع أنحاء العالم عبر الإنترنت. ومن الصّعوبة بمكان، إخفاء مظاهرة عامّة؛ بوصفه إحدى صور القمع وانتهاك حقوق الإنسان. ولقد أدّت شبكة الإنترنت وأجهزة الهاتف المحمول في الدول الاستبداديّة والقمعيّة، إلى سماع صوت الرأي العامّ والمجتمع المدني. كما وفّرت للمواطنين وسيلة مهمّة للغاية للتعبير عن الرّأي، على الرّغم من جميع القيود المفروضة. وعليه، فإذا كانت قضيّة الإنترنت والأمن الإلكتروني، تمثّل مشكلة داخليّة ملحّة في الدّاخل الأميركي، وإذا وجدت دعوات -منها دعوة نونسياتو- تنادي بتنظيم الإنترنت، وتعزيز حرّية التعبير عليه؛ فإنّ هذه المسألة لا تقلّ أهمّية في المجتمعات والدول الأخرى خاصّةً العربيّة منها. فثمّة أكثر من نظام سياسي في العالم العربي، جنح -أو يجنح- إلى محاولة الحدّ من دخول مواطنيه إلى الإنترنت، وخاصّةً من استعمال بعض مواقع التّواصل الاجتماعي؛ حتّى أضحى التّعتيم والرّقابة والحجب والملاحقة القانونيّة، من الأدوات التي أضافها البوليس السّياسي إلى وسائله في أكثر من دولة عربيّة. فحرّية التعبير على الإنترنت والقوانين الدستوريّة المتعلّقة بها مطروحةٌ الآن بشكل ملحٍّ؛ سواء كان ذلك على السّاحة الإقليميّة بسبب الرّبيع العربيّ، أو على السّاحة العالميّة نظرًا للجدل المحتدم بين من يعطي أولويّة مطلقة لتقاسم المعارف والمعلومات دون قيدٍ أو شرط، وبين من يرى وجوب التّقنين لحماية الملكيّة الفكريّة من القرصنة وحماية المصالح التجاريّة للشركات متعدّدة الجنسيّة. وإذا كانت دعوة نونسياتو موجَّهة للفقهاء والدّستوريّين الأميركيّين؛ فإنّ القضيّة نفسها، تكتسي أهمّية بالغة في العالم العربي اليوم، لأنّها تتزامن مع حركة البناء الدّستوري، أو مع عمليّة تنقيح الدّساتير وصياغتها في عددٍ من الدّول العربيّة، مثل مصر وتونس وليبيا والمغرب وموريتانيا. وتمثّل مسألة تضمين حرّية التّعبير -ومنها حرّية الدّخول إلى الإنترنت- سؤالًا ملحًّا على المكلّفين بصياغة تلك الموادّ، أو تنقيح تلك الدّساتير، كضمان لدستوريّة حرّية الإنترنت. ويتأكّد ذلك بالخصوص، بعد أن أثبتت سياسة التّعتيم والقمع فشلها. من هنا، لا بدّ من ضرورة اتّخاذ خطوة تكون بمنزلة الحلّ لإرساء شفافيّة تداول المعلومات، خاصّةً في ظلّ التحوّل الديمقراطي الذي يشهده عددٌ من الدّول العربيّة. ويتمثّل في صياغة قانون ينظّم عمليّة تداول المعلومات والإفصاح عنها.

وهناك مسألة أخرى تُطرح، وهي أنّ هناك مهمّة أخرى أمام الإدارة الأميركيّة من أجل إعادة النّظر في الدّور العالمي للشّبكة العنكبوتيّة. وتتمثّل في وضع ضوابطَ تحدّ من سوء استغلالها، وضرورة الانفتاح على العالم، والقبول بإرساء الحقّ في المشاركة في إدارة الإنترنت، وتنظيم المنافسة ضمن قواعد عقد أخلاقي متوافق عليه. فهناك دول كبيرة تطمح إلى الاستفادة القصوى من الإنترنت؛ وهو ما يزيد من حجم المنافسة على الشّبكة.

وفي هذا السّياق، يثار السّؤالان التاليان: هل مسألة إبقاء الإنترنت كفضاءٍ رقميٍّ عالميّ، يمثّل البيئة الجديدة لنشوء المجتمعات الإنسانيّة- الإلكترونيّة، وتطوّرها تحت سيطرة دولة واحدة، ترضي بقيّة دول العالم؟ أم أنّ هذا الأمر له علاقة مباشرة ببسط الهيمنة والتحكّم في مقدرات الشّعوب المعلوماتيّة بأنواعها؟

المسألة الأخرى التي لم تتطرّق إليها الكاتبة، والتي تؤاخذ عليها في تقديري؛ هي أنّ العالم بعد 11 سبتمبر قد تغيّر، وأنّ مراقبة الإنترنت والبريد الإلكتروني من جانب الدّوائر الأمنيّة والاستخباريّة والعسكرية قد زادت أضعافًا إلى حدّ هذا اليوم. وعليه، فإنّ وزارة الدّفاع الأميركيّة تستخدم الرّقابة على الإنترنت في المحتوى، والاتّصال لنشر الدّعايات المضلّلة، والسّيطرة على منافذ المعلومات في أغلب بقاع العالم. وهنا تنبّهنا الكاتبة بالفعل إلى أنّ حرّية التعبير عبر الإنترنت، تنزلق بهدوء من بين أيدي المواطنين الأميركيّين. كما تلفت انتباهنا إلى أنّ تقنيات الاتّصال الحديثة، أسفرت عن تعقيدات إضافيّة داخل الولايات المتّحدة نفسها التي أصبحت تواجه مشكلة سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، بفعل سيطرة شركات المعلوماتيّة على الاقتصاد الأميركي، ونشوء طبقة اجتماعيّة تفتقر إلى الولاء للدّولة، وتنشر استثماراتها خارج الولايات المتّحدة. وحتّى لو تنازلت الحكومة الأميركيّة طوعًا أو كرهًا -بفعل الانتقادات- عن سيطرتها التامّة على الإنترنت لحفنة من الشّركات الخاصّة التي تدير الشّبكة العنكبوتيّة؛ فإنّها ستبقى مسيطرةً على الإنترنت بصورةٍ أو بأخرى، وخارج السّياق الذي جاءت به الكاتبة إذا ما اتّصل الموضوع بقضيّة الأمن الحيوي والقومي للولايات المتّحدة الأميركيّة.

وعلى الرّغم من أنّ الجدل يظلّ محتدمًا بشأن حرّية التعبير ومداها القانوني والأخلاقي،  في إطار التّداخل والتّشابك بين الأخلاقيّات والتشريعات القانونيّة والدستوريّة من جهة، وبين جنوح الممارسة الإعلاميّة والانحراف التّشريعي من جهة أخرى؛ فإنّ أهمّية هذا الكتاب في عمومه، تبقى محاولة لتناول موضوع الحرّية والرّقابة على الإنترنت. وهو حقل ما زال يتّسع للكثير من الأبحاث والدّراسات والمؤلّفات؛ حتّى يؤتي ثماره، وحتّى يُفهم واقع الحرّية الافتراضيّة على الإنترنت، ويُفهم أنّ الولايات المتّحدة الأميركية هي المستمرّة إلى حدّ الآن في الإشراف على التكنولوجيات المختلفة، والتي تقوم بإدارة الإنترنت من خلال شركات خاصّة أميركية تهيمن على هذا المجال. ولا نبالغ إن قلنا إنّ هذا الكتاب يكتسب أهميّته أيضًا، من أهمّية المكانة التي يحتلّها الفضاء الافتراضي والرّقمي في حياة المجتمعات الحديثة؛ وذلك إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تأثير هذا الفضاء في حياة النّاس، بشكلٍ أجبر المنظّرين له على إعادة النظر في المفهوم التّقليدي للحرّية. فهي لم تعد تعني أن يكون الشّخص خارج القضبان أو يفسح له المجال للحديث والتّعبير؛ بل أصبح من الممكن تعريف الحرّية أيضًا على أنّها ببساطة: الجلوس أمام شاشة الحاسوب الموصول بالإنترنت!

وهذا ما يثير الفروق الجوهريّة بين الإنترنت، كممارسة للحرّية في بلدان متقدّمة؛ وبين كونها إحدى الوسائل التقنية والمعرفيّة في مجال العمل من أجل الحرّية الحقيقيّة، وليس الحرّية الافتراضيّة فقط.


[1] آيكان (بالإنجليزية: ICANN) اختصارا لـ Internet Corporation for Assigned Names and Numbers: هي منظمة غير ربحية، تأسّست عام 1998. يقع مقرّها في كاليفورنيا، وهي مختصّة في توزيع وإدارة عناوين الآي بي وأسماء المجال وتخصيص أسماء المواقع العليا (ومثال ذلك: .info، و com وغيرهما) في جميع أنحاء العالم. ولها وظيفة إدارة الموارد الرئيسة للبنية التحتيّة للشبكة مثل الحواسيب القاعديّة root servers.