العنوان هنا
مقالات 13 نوفمبر ، 2011

قراءة في صفقة تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل

الكلمات المفتاحية

خالد وليد محمود

يشغل خالد وليد محمود وظيفة باحث مساعد في المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات. وكان قد عمل محرّرًا ومشرفًا في قسم الأخبار في "ياهو – مكتوب". وتركّز أبحاثه على دراسة النّشاط السياسي عبر الإعلام الرقميّ والمواقع الاجتماعية. عمل خالد محمود أيضًا باحثًا في عدّة مشاريع أكاديميّة، مثل برنامج "سيفيتاس" لقياس الرّأي العامّ لدى فلسطينيّي المهجر؛ كما اشتغل باحثًا مع البروفيسور ناثان براون، في دراسة المشاركة السياسيّة لحركة الإخوان المسلمين في الأردن. ونُشرت له عدّة مقالات في دوريّات محكّمة وفي الصّحف الإلكترونية والمطبوعة. وله عدد من المؤلفات: شبكات التّواصل الاجتماعي وديناميكية التّغيير في العالم العربيّ (2011)، آفاق الأمن الإسرائيلي: الواقع والمستقبل (2007)، مراكز البحوث في الوطن العربي (2013)، قلاع اللغة العربية ورياح الثورة الإعلامية (2013). وهو حاصل على البكالوريوس في العلوم السّياسية ودرجة الماجستير في العلاقات الدّولية من الجامعة الأردنيّة.

لقد شكّلت الصّفقة المبرمة بين حماس وإسرائيل بشأن تبادل الأسرى التي تمّت في السّادس من تشرين الأوّل/أكتوبر2011 وتضمّنت الإفراج الإسرائيليّ عن (1027) أسيرةً وأسيرًا فلسطينيّا مقابل الإفراج عن الجنديّ الأسير "جلعاد شاليط"؛ "حدثاً إقليميّا" مفاجئا وغنيّا بالدّلالات والإشارات السّياسيّة، ورغم أنّ صفقة تبادل الأسرى قد فاجأت معظم المراقبين، وذلك بسبب عدم وجود أيّ إرهاصات للاتّفاق في الأيّام السّابقة له، إلّا أنّ تطوّرات المشهد السّياسيّ العامّ في المنطقة تظهر تزامنا في حاجة الأطراف الرّئيسة وهي (حماس، إسرائيل، مصر) إلى إتمام الصّفقة. وبالتّالي: فإنّ السّؤال عن أسباب نجاح الصّفقة أو "إنجاحها" يجرّ المراقب إلى سؤال آخر مكمّل لدوافع كلّ من إسرائيل وحماس على إبداء المرونة والرّغبة في إتمامها، وكذلك العوامل التي ساهمت في تعجيلها و النّتائج المترتّبة عليها.

نحاول في هذه السّطور إلقاء الضّوء على الأسباب الموجبة لكلّ طرف من أطراف الصّفقة وكيفيّة استثماره لها لتحقيق مكاسب خاصّة على حساب الطّرف الآخر، وذلك على النّحو التّالي:

بالنّسبة إلى حركة حماس؛ يمكن الإشارة إلى جملةٍ من الأسباب، أدّت مجتمعة إلى قبولها بصفقة تبادل الأسرى مع إسرائيل، منها أنّ هذه الصّفقة أعادت الحركة إلى واجهة الأحداث من جديد، بعد شهور من البقاء في ظلّ "ثورات الرّبيع العربيّ"، ولذلك كانت حركة حماس في حاجة إلى عمل يعيد إليها شعبيّتها ويعزّز موقفها لدى الشّارع الفلسطينيّ. كما أرادت الحركة إيصال رسالة للمجتمع الدّوليّ وتحديدا الولايات المتّحدة وأوروبا بأنّها ليست عامل صراع في المنطقة، وأنّه بالإمكان التحدّث إليها ومعها، وليس من المستبعد أن تسعى حماس إلى حصد ثمار هذه الصّفقة خارجيّا من خلال تعزيز مصداقيّتها وموقفها السّياسيّ بعد أن عانت سنوات من عزلة دوليّة، وبما يسهم أيضا في رفع الحصار المفروض على قطاع غزّة.

لقد وجدت أيضا حماس في التّوقيع على الصّفقة فرصة تاريخيّة قد لا تعوّض، تمثّلت في تغيّر الموقف المصريّ بعد الثّورة، ورغبة المجلس العسكريّ المصريّ في تحقيق إنجاز يعزّز به موقفه في المشهد الدّاخليّ، إضافة إلى "رياح إسرائيل" التي جاءت مواتية بما تشتهي الحركة، بعد أن أبدى رئيس الوزراء الإسرائيليّ نتنياهو ورئيس جهاز مخابراته رغبة في إنجاز الصّفقة. وكانت النّتيجة أنّ حماس حسمت موقفها بالموافقة على التّنازلات التي طلبت منها لإنجازها، مقابل تحقيق إفراج عن أكبر عددٍ ممكن من الأسرى، لا سيّما وأنّ جهازها العسكريّ فشل عدّة مرّات في أسْر المزيد من الجنود الإسرائيليّين لتعزيز مطالب الصّفقة[1].وربّما أنّ الحركة أرادت أن تعطي رسالة مفادها أنّ أكثر حكومات إسرائيل يمينيّة وتشدّدا قد تفاوضت مع الحركة التي كانت تنعتها، وما زالت، بأنّها منظّمة "إرهابيّة"، لكن واقعة توقيع الصّفقة والمفاوضات عليها قد تمّت، ولا تستبعد الحركة أن تكون قابلة للتّكرار مستقبلًا.

ومن الأسباب الأخرى التي دفعت حركة حماس لإنجاز الصّفقة، هو رغبتها في العمل على تغيير الموقف السّياسيّ مع المجلس العسكريّ المصريّ وبناء تحالف مع القيادة المصريّة الجديدة وتسجيل موقف للقاهرة كراعية ووسيط نجحت في إتمام صفقة فشلت كافّة الوساطات السّابقة في إتمامها، وإعادة الدّفء إلى العلاقات البينيَّة معها باعتبارها مصدر دعم للتّحالف المستقبليّ، لأنّ حماس تنظر إلى مصر على أنّها تمثّل أفقًا سياسيًا وامتدادًا جغرافيًّا خاصّة في ظلّ تصاعد دور الحركات الإسلاميّة.

أمّا كلفة الاحتفاظ بالجنديّ شاليط لدى حماس، فكانت سببا مهمّا أيضا لمسارعة الحركة إلى توقيع صفقة الأسرى. كما هو معروف، لقد دفع الشّعب الفلسطينيّ وخاصّة في قطاع غزّة ثمنا كبيرا جرّاء أسر الجنديّ شاليط، آلاف القتلى، والجرحى، والمعتقلين، وتدمير البيوت، واعتقلت إسرائيل الآلاف من الفلسطينيّين من بينهم عددٌ كبير من قادة حماس ونوّابها في المجلس التّشريعيّ، ودمّرت بنية القطاع التّحتيّة، وفرضت عليه حصارا خانقا، كلّ هذا كان يتمّ باسم الجنديّ شاليط، وتحت ذريعة البحث عنه.

وبالنسبة إلى مصر، فقد حرصت القيادة المصريّة على إنجاز الصّفقة من خلال وساطتها، لأنّ ذلك يعزّز موقف المجلس العسكريّ على السّاحة الداخليّة المصريّة أوّلا، ويساعد على تجاوز الأزمة في العلاقة مع تل أبيب وتحقيق حريّة أكبر للتّعامل مع قضيّة معبر رفح ثانيا. كما تزامـن الإعلان عن صفقة الأسرى مع اعتـذارٍ إسرائيليّ لمصر عن قتل خمسة جنود مصريّين، وموافقة الحكومة الإسرائيليّة على انتشار كتيبة مصريّة في المنطقة (ج) في سيناء. ولأنّ الفترة الزّمنيّة الممتدّة من شهر حزيران/يونيو الماضي وحتّى الإعلان عن صيغة الصّـفقة، كانت فترة عصيبة على خطّ القاهرة - تل أبيب، بعد أن أطلق جنود إسرائيليّون النّار على جنود مصريّين ممّا أدّى إلى مقتلهم، والاعتداء على السّفارة الإسرائيليّة في القاهرة ونجاح السّلطات المصريّة بصـعوبة بالِـغة في تأمين هرب طاقـم السّفارة وسط جـموع المتظاهرين الغاضبين[2]. ولأنّ هذين الحدثين أثارا مطالبات الشّارع المصريّ للمجلس العسكريّ بإلغاء معاهدة السّلام المصريّة الإسرائيليّة، وإغلاق السّفارة المصريّة في تل أبيب واستدعاء السّفير المصريّ، وتجميد كلّ أنواع الاتّصالات، فقد بدأ الحرص المصريّ الرّسميّ على احتواء تداعيات هذين الحدثين بأقلّ الأضـرار الممكنة؛ وكانت القيادة المصريّة الجديدة في أمسّ الحاجة إلى صفقة الأسرى في ظلّ العراقيل والتّحدّيات التي تتعرّض لها وحملة النّقد الواسعة من الرّأي العام المصريّ الذي أصبح يراقب علاقة بلاده بإسرائيل وفق معطيات "الثّورة المصريّة" ومخرجاتها، ويطالب صنّاع القرار بإعادة النّظر في اتّفاقيّة السّلام، داعيا إلى صياغة أجندة وطنيّة مؤثّرة، وفق رؤية تعبّر عن مطالب المصريّين في استرداد "كرامتهم" بسبب ميزان القوّة المختلّ بين القاهرة وتل أبيب. لهذا؛ أرادت مصر امتصاص الزّخم الجماهيريّ المصريّ العارم ضدّ إسرائيل، وإثبات التزامها بأهداف الثّورة المصريّة ومبادئها التي تنصّ في جانبٍ منها على استعادة مصر لدورها الطّبيعيّ والطّليعيّ في قيادة مصالح الأمّة العربيّة وقضاياها المختلفة ورعايتها. وكذلك في ملفّ الصّراع العربيّ- الإسرائيليّ، وربّما أرادت القيادة المصريّة أن تثبت للرّأي العامّ المصريّ تحديدا أنّها تحلّلت من إرث مبارك ونظامه في ما يتّصل بملفّ العلاقات المصريّة الإسرائيليّة.

إذا، استطاعت القاهرة أن تقوم بدور فعّال في إتمام هذه الصّفقة دون ضغوطٍ أو حساسيّات من الأطراف، وظهر ذلك جليًّا في تصريحات خالد مشعل، رئيس المكتب السّياسيّ لحركة حماس، التي أشاد فيها بالدّور المصريّ، وكذلك في الشّكر الذي وجّهه لها رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو.

أمّا على الجانب الإسرائيليّ، فقد قيل الكثير عن الدّوافع والأسباب التي حدَت بالحكومة الإسرائيليّة لتوقيع الصّفقة، وقد جرى الحديث عن مزايا صفقة التّبادل بالنّسبة إلى تل أبيب من خلال التّركيز على البعد القيمي المتّصل بما عدّه معلّقون وسياسيّون إسرائيليّون "انتصارا أخلاقيّا" لإسرائيل في علاقتها مع عقد التّكافل الضّمنيّ القائم بين المجتمع والدّولة من جهة، والجيش وأفراده من جهة أخرى. أمّا في سلّة السّلبيّات، فقد انسحب النّقاش ليشمل مروحة كبيرة من النّقاط، تبدأ بالأضرار الإستراتيجيّة التي خلّفتها عمليّة التّبادل، ولا تنتهي بانعكاساتها المباشرة على الأمن والعمليّة السّياسيّة. أمّا استراتيجيّا، فجرى التّصريح بأنّ اتّفاق التّبادل يقوّض قدرة الرّدع الإسرائيليّة في مواجهة أعدائها لجهة تقديمها كدولة قابلة للابتزاز والإخضاع في نهاية المطاف[3].

ورغم أنّ صفقة تبادل الأسرى تمّت فقط - حسب وسائل الإعلام الإسرائيليّة - لانعدام أيّ خيار آخر للحصول على معلومات تقود لتحرير شاليط بالوسائل العسكريّة؛ إلّا أنّ مشهد توقيع الصّفقة إسرائيليّا يشير إلى أنّ حكومة رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو إنّما أرادت منه تحقيق عدّة أهداف في آن واحد وتحديدا في هذه المرحلة بالذّات. ومن هذه الأهداف : تخفيف العزلة الدوليّة عنها، و التّقليل من شأن الاحتجاجات الدّاخليّة التي تعصف بها وتطالب بتحقيق العدالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ورفع الضّغوط عن حكومة نتنياهو؛ خاصّة في ظلّ الانتقادات التي تتعرّض لها من الشّارع الإسرائيليّ والمجتمع الدوليّ. والتّشويش على المكاسب الشّعبيّة التي حقّقها الرّئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس أبو مازن إبّان مساعيه لنيل العضويّة الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتّحدة. أمّا عن الأسباب التي دفعت الحكومة الإسرائيليّة لتوقيع صفقة الأسرى فيمكن إجمالها في التّحوّلات التي يمرّ بها الوطن العربيّ في عصر "ثورات التّحوّل الدّيمقراطيّ"، والتي أسماها نتنياهو بــ "العواصف التي تضرب الشّرق الأوسط"، هذه التّحوّلات كوّنت خشية لدى القيادة الإسرائيليّة من أن تؤدّي إلى إسدال السّتار على أيّ إمكانيّة للإفراج عن شاليط مستقبلا. كما أنّ تل أبيب تنظر إلى مستقبل مصر في ظلّ الانتخابات التّشريعيّة والرّئاسيّة القادمة، وفق مشهد يشكّل قلقا حقيقيّا لها بسبب كثرة اللّاعبين في الميدان المصريّ وفي ظلّ خشية إسرائيليّة من مجيء حكومة مصريّة تناصبها العداء وقد لا يكون من مصلحتها التّوسّط من أجل إطلاق سراح شاليط.

 ومن الأسباب المهمّة التي دفعت إسرائيل لتوقيع الصّفقة هو تحوّل قضيّة شاليط إلى قضيّة إجماع في المجتمع الإسرائيليّ، وتأييد غالبيّة ساحقة من الرّأي العامّ الإسرائيليّ لإبرام الصّفقة. إضافة إلى ما تحدّثت عنه وسائل الإعلام الإسرائيليّة، والتي قالت إنّ موافقة نتنياهو ووزير الدّفاع إيهود براك على الصّفقة ترجع أساسا إلى نيّتهما مهاجمة إيران، على اعتبار أنّ هذه الخطوة تتطلّب تنظيف الطّاولة من كلّ الملفّات المعلّقة و" تصفيرها"، وعلى رأس تلك الملفّات "ملفّ شاليط"، على اعتبار أنّه سيكون من الصّعب تحريره في أعقاب مهاجمة إيران. ويبدو جليّا للمراقب أنّ نتنياهو قد أراد من خطوته هذه تحقيق انتصار يعيد الاعتبار لشعبيّته، ويخرجه من "عنق الزّجاجة" ويتيح له الظّهور أمام الرّأي العامّ الإسرائيلي بأنّه أوفى بوعده في الإفراج عن شاليط وهو ما فشلت فيه حكومة "كاديما" السّابقة عبر طرق ووسائل متعدّدة، وهذا ما سيعزّز فرصه في الفوز بانتخابات الكنيست القادمة.

وفي هذا المجال لا يمكن إغفال أهميّة التّحوّلات التي تحدث نتيجة تغيّر مدركات صنّاع القرار ومواقفهم، خاصّة تلك التّغييرات التي حصلت في صفوف رؤساء الأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة التي طالت المعارضين البارزين للصّفقة، مثل يوفال ديسكين، رئيس جهاز المخابرات العامّة، ومئير داغان، رئيس جهاز المخابرات الخارجيّة (الموساد) كان لها أثر كبير في موافقة نتنياهو على الصّفقة، لأنّ هذه القيادات تسلّمت هيئة الأركان ورئاسة المخابرات والموساد، و قدّمت لنتنياهو ما يفيد بضرورة إتمام الصّفقة مع حماس.


خلاصة

يمكن إيجاز ما تقدّم بالقول إنّ صفقة الأسرى الأخيرة تحمل الرّقم (38) لعدد الصّفقات التي أنجزت منذ عام 1948 بين العرب وإسرائيل، وكان لكلّ منها محدّداتها ومعطياتها وظروفها الخاصّة؛ إلّا أنّ هذه الصّفقة تنطوي على دلالات عدّة ذات صلة وثيقة بمغزاها الجوهريّ، فهي قد تكرّس واقعا سيتحكّم في عمليّات التّفاوض في حلّ أزمة المعتقلين الفلسطينيّين مستقبلا، لأنّها جاءت لتدحض فرضيّة، وهي تخلّي إسرائيل عن مقولة استحالة الإفراج عن معتقلين "أيديهم ملطّخة بدماء الإسرائيليّين".

وثمّة دلالة أخرى للصّفقة لا يمكن التّقليل من أهميّتها، وهي أنّ السّياسة متغيّرة دائما ولا توجد مواقف مطلقة أو حتّى نهائيّة، فجوهر هذه الصّفقة، أشبه ما يكون بمحاولة للحصول على مكاسب سياسيّة وتجاوز أزمات لمختلف الأطراف المشاركة فيها؛ لأنّ هذا الأطراف وهي (حماس، إسرائيل، مصر) قد تقاطعت مصالحها الحيويّة عند نقطة معيّنة، في واحدة من اللّحظات التاريخيّة والمحطّات السّاخنة التي تمرّ بها المنطقة: إسرائيل أرادت الخروج من عزلتها، وحلّ أزمتها ، ولو إعلاميّا فحكومة نتانياهو تعاني من ضغوط داخليّة و خارجيّة وأرادت أن تظهر قدرتها على اتّخاذ مبادرة إيجابيّة.و حماس أرادت استرجاع شعبيّتها وزخمها الجماهيريّ، الذي فقدت الكثير منه في السّنوات الأخيرة. أمّا مصر فقد أرادت تحقيق منجز سياسيّ يعيد لها دورها الإقليميّ الذي غيّبه النّظام السّابق لسنوات طويلة.

هذا ورغم المكاسب التي أعلن عنها كلّ طرف من أطراف الصّفقة. ورغم أنّ لتلك الصّفقة أهمّيتها التي تتجاوز طابعها كعمليّة تبادل أتاحت تحرير آلاف الأسرى الفلسطينيّين؛ إلّا أنّها قد لا تغيّر شيئا على أرض الواقع، خاصّة فيما يتّصل بإدارة الصّراع بين حركة حماس وإسرائيل. لأنّ الأخيرة ترى نفسها في حالة حرب على المنظّمات "الإرهابيّة"، أمّا حركة حماس فتعتبر الصّفقة بمنزلة انتصار لمفهوم المقاومة على مفهوم التّفاوض في تلميح للسّلطة الفلسطينيّة التي وجدت نفسها في قلب الحدث داعية إلى ضرورة الانتقال من سلطة تحت الاحتلال إلى دولة مستقلّة معترف بها عالميّا لتصبح عندها قضيّة الأسرى شأنا يتمّ التّفاوض عليه بين دولتين، لا بين حركة ودولة في إشارةٍ إلى حماس وإسرائيل.

وبصرف النّظر عن الملاحظات والمآخذ التي أحاطت بهذه الصّفقة ، ورغم أنها تسجّل لحظة من لحظات التاريخ الفلسطينيّ في ظلّ ميزان قوى مائل لصالح إسرائيل؛ إلّا أنه من ناحية حسبة "كلفة شاليط" على الشّعب الفلسطينيّ، وتحديدا في قطاع غزّة، فهي كلفة كبيرة دفع ثمنها الفلسطينيّون بمختلف فصائلهم، مئات الأرواح من مدنيّين ومقاتلين، أضعاف مضاعفة من الجرحى والأسرى والمعتقلين والموقوفين، أي أنّ الذين دخلوا السّجون الإسرائيليّة بسبب شاليط، هم أكثر من الذين أفرج عنهم، لقاء إطلاق سراحه. أمّا الأسئلة المعلّقة عن تداعيات هذه الصّفقة فتتمحور حول مصير ما يزيد على ستّة آلاف أسير فلسطينيّ ما زالوا يقبعون في السّجون الإسرائيليّة؟ وما هي الضّمانة لحفظ سلامة الذين تمّ إطلاق سراحهم؟ أليس من الممكن أن تعاود إسرائيل اعتقالهم أو حتّى اغتيالهم تحت ذرائعَ وحجج واتّهامات جديدة؟ وهل ثمّة من يضمن أنّ الفلسطينيّين الذين أفرج عنهم وسيفرج عنهم بموجب هذه الصّفقة يمكن تعويضهم بسهولة وفي فترة قصيرة، بقادة فلسطينيّين آخرين، لم تطلهم قبضة الاحتلال بعد؟ وهل يستطيع الفلسطينيّون استثمار هذه الصّفقة والبناء عليها داخليّا وخارجيّا؟ أسئلة وتساؤلات ستكون الإجابة عنها برسم قادمات الأيّام.


كيف ظهرت صورة "شاليط" في الإعلام الإسرائيليّ؟

ثمّة من تساءل عندما عُقدت الصّفقة بين حركة حماس والحكومة الإسرائيلية وتمخّضت عن مبادلة أكثر من ألف أسير مقابل أسير واحد: مَن المنتصر؟ هل هي إسرائيل ، لأنّها انحازت لقيمة الإنسان؟ أم أنّ حماس هي من انتصر، لأنّها أجبرت تل أبيب على القبول بهذه المعادلة غير المتوازنة، وأرغمتها على دفع ثمن باهظ وهو (1027) مقابل جنديّ واحد؟ وهل ما قيل عن صفقة "شاليط" يكفي لاختراق المحرّمات اليهوديّة[4]، وإطلاق سراح مئات الأسرى الفلسطينيّين الذين أطلقوا النّار على الجنود الإسرائيليّين؟ ولماذا إسرائيل دون غيرها من الدّول التي ترضى بتبادل الأسرى بهذه الكلفة وهذا الثّمن؟ هل ثمّة شيء في الثّقافة الإسرائيليّة تجاه هذا الأمر؟ ولماذا لا تتردّد إسرائيل في تسليم مئات الأسرى الأحياء العرب مقابل رفات جنديّ حتّى لو مضت عليه عشرات السّنين؟ هل لأنّها تقدّس الحياة، وتهتمّ بمواطنيها؟ أم أنّ ذلك دعاية برعت فيها الماكينة الإعلامية الإسرائيليّة؟

قبل الوقوف على هذه الأسئلة لا بدّ من القول إنّ إسرائيل ومنذ قيامها كانت تعطي صورة مفرداتها تقول للرّأي العامّ إنّها تدفع بمواطنيها للحروب دون أن تعبأ بقدسيّة حياتهم، لأنّها دولة ذات دور وظيفيّ يقوم على الحرب أساسا. وللتّغطية على هذا الدّور تقوم ماكينتها الإعلاميّة وتفعل فعلها إذا ما قُتل أحد جنودها أو أُسر مثلا، وتوظّف كلّ إمكانياتها لاستعادته حيّا أو استعادة جثمانه أو للحيلولة دون وقوعه في الأسر. لأنّ ذلك ضروريّ جدا في تربية النّشء، ولمعنويّات الجنود، وصورتها في الإعلام المحليّ والعالميّ بوصفها دولة قويّة مسيطرة ذات رسالة، ودون ذلك سيتقاعس الجنود عن الذّهاب إلى جبهات القتال، وستطفو التّناقضات الداخليّة على السّطح، وبالتالي ستفقد الدّولة هيبتها، وستنهار صورتها، وستعجز عن أداء دورها الوظيفيّ[5].

وإذا ما حلّلنا السّلوك الإسرائيليّ الرسميّ والإعلاميّ تجاه قضية الجنديّ شاليط، سنجد تطابقا كاملا مع هذا التّحليل، يقول عبد الغني سلامه "لقد نجحت إسرائيل في توظيف قضيّة شاليط لصالحها منذ بدايتها وحتّى نهايتها المفتوحة، فعند وقوعه في الأسر رسمت له صورة خارجيّة مزيّفة، فتحوّل بفعل إعلامها من جنديّ في مهمة حربيّة يقصف المدنيّين في غزّة - وربّما يكون قد قتل بالفعل أطفالا ونساء - إلى الجنديّ المسكين ضحيّة "الإرهاب" الفلسطينيّ، ثمّ حوّلت أنظار العالم كلّه إلى منـزل أسرته، الذي صار محجّا للمتضامنين مع دولة إسرائيل، ورسمت له صورة الابن الذي يحنُّ للرّجوع إلى حضن أمّه، وعند عودته سوّقت له صورة مُغايرة تستهدف هذه المرّة الجمهور الإسرائيليّ بجيشه ومواطنيه: صورة البطل المحارب العائد من الأسر بزيّه العسكريّ الأنيق، فما إن تسلَّمه قادة الجيش حتّى أعادوه إلى حالته الأولى، وأدخلوه إلى دبّابته لاستعادة صورة الجنديّ الإسرائيليّ الذي لا يُقهر"[6].

إنّ هذا المشهد ترجم بوضوح في عدسة الإعلام الإسرائيليّ عند الإفراج عن شاليط، وقبيل ظهوره على شاشة التلفاز كان ثمّة انتظار للصورة التي سيظهر فيها، وهل سيكون باللّباس المدنيّ أم بالبزة العسكرية، ويظهر بملابسه العسكريّة، كتلك التي ظهرت في أوّل صورة تنشر له بعد أسره، وهي الصورة ذات الدلالات والرّسائل الإعلاميّة العديدة والهامّة.

في البداية، أُبعدت وسائل الإعلام المرئيّة قدر المستطاع عن شاليط. "وما رآه المواطنون في بيوتهم كان سلسلة صور فيديو قصيرة جدّا، ومغربلة جيّدا عن طريق أجهزة الحماية التي لفّه الجيش الإسرائيليّ بها خوفا على خصوصيّته وخصوصيّة عائلته. وما إن تمّ تسليمه للجانب الإسرائيليّ حتّى أُخذ على عجل إلى قاعدة عسكريّة بدّل فيها "القميص الغزّيّ" الذي لبسه ببزّة جديدة للجيش الإسرائيليّ عليها رتبة المساعد التي اكتسبها زمن أسره"[7].

وممّا لوحظ أثناء متابعة وسائل الإعلام الإسرائيليّة لإطلاق سراح شاليط هو تلك المساحات العريضة التي خصّصت لتغطية "الصورة" مبرزةً ما للأخيرة من أهمّية ودلالة في خلق الانطباعات والمواقف للرأي العامّ. هذه هي الرسالة الضمنيّة التي توخّى الجيش إرسالها للمشاهد والرأي العامّ الإسرائيليّ من خلال صور شاليط العسكرية. لاحظنا كيف ظهر شاليط بملابسه العسكرية، وهو يؤدّي التحية لرئيس أركان الجيش الإسرائيليّ بني غانتس، هذا الأخير اتّخذ من هذا المشهد دليلا على أنّ الدولة العبريّة لا تتخلّى عن جنودها، وكما قال في رسالة وجّهها إلى جيشه، إنّ الثمن الكبير الذي دفعته إسرائيل مقابل إطلاق سراح الجنديّ الأسير شاليط لهو دلالة على أنّ إسرائيل مستعدّة كي تدفع ثمنا باهظا مقابل جنودها، إذ إنّ الأمر يتعلق "بأخلاقيات" هذا الجيش[8]. ولم ينس "غانتس" أن يشير إلى تداعيات صورة شاليط باللّباس العسكريّ، إذ يقول: إنّ الجيش الإسرائيليّ يشعر بالفخر والاعتزاز بصمود شاليط وتصميمه على مدى سنوات احتجازه.

في صفقة تبادل الأسرى هذه، برّر نتنياهو توقيعها بقوله: إنّ موافقته جاءت لرفضه أن يتكرّر سيناريو الطيّار الإسرائيليّ "رون أراد" الذي سقطت طائرته داخل لبنان قبل نحو 25 عاما، ولم يعرف مصيره حتّى الآن. وهذا يدلّ على الثّقافة الإسرائيليّة تجاه أسراها، فقضيّة (رون أراد) والمفقودين بعد الانسحاب الإسرائيليّ من الجنوب اللبنانيّ كانت مرحلة صعبة على تل أبيب، لأنّ موضوع تحرير الأسرى كما يرى "نواف الزرو" يضرب عميقا في الثقافة اليهوديّة وقد أحسن حزب الله ومن بعده حماس استغلال ذلك[9]. وإذا كان يرى "الزرو" أنّ تمسّك إسرائيل بالإفراج عن جنديّ مجنّد يؤكّد مركزيّة الإنسان والعنصر البشريّ الإسرائيلي[10].

على قدر الأهمّية التي أولتها إسرائيل لقضيّة الأسرى الفلسطينيّين، تبنّت الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة سياسة متشدّدة جدّا إزاء مساومات "تبادل الأسرى" و"تحريرهم"، وقد درجت تلك الأخيرة على اعتبار الأسرى الفلسطينيّين "مخرّبين " أو "إرهابيّين" وليسوا أسرى حرب، ولذلك وضعت معايير "تابوية" تتعلّق بشروط إطلاق سراح معتقلين فلسطينيين[11]، وتسود انطباعات إسرائيلية بأنه ما هكذا تدار المفاوضات حول هذا الصّفقات، لأنّ ذلك يصبّ في خدمة حركة حماس، ويرى القادة الإسرائيليّون أنّ صفقة التّبادل هي خيار أخير، وليس الأوّل، وتوجد عدة طرق أخرى يجب تجريبها، لأنها صفقة تحتمل الكثير من المخاطر، أهمّها تحرير آلاف الأسرى، ممّا يشكّل كابوسا مخيفا في نظر المنظّرين الاستراتيجيّين الإسرائيليّين.

وربّما هذا ما ترجمته صحيفة "هآرتس" بعد صفقة شاليط صفقة الأسرى الأخيرة، والتي جاء فيها:" إن الجيش الإسرائيلي أصدر أوامر واضحة للجنود بألّا يسمحوا لأنفسهم بأن يتعرّضوا للأسر على يد جماعات المقاومة الفلسطينيّة تحت أيّ ظرف من الظّروف. وأشارت الصحيفة في تقريرٍ نشرته الثلاثاء 18 تشرين الأوّل /أكتوبر إلى أنّ قائد كتيبة المشاة في الجيش الإسرائيليّ قال لجنوده: تحت أيّ ظرف من الظروف، يجب ألّا تسمحوا بأن يكون هناك جلعاد شاليط جديدا، يجب أن تمنعوا حدوث ذلك مهْما كان الثمن، يجب أن تطلقوا النار على الخاطفين حتّى ولو أدّى ذلك إلى مقتل جنود إسرائيليين تم أسرهم"[12].

إنّ معظم الجهود -إن لم تكن كلّها- التي بذلتها الحكومات الإسرائيليّة على مدار خمس سنوات من أجل تحرير شاليط لم تكن تعبيرا عن الرّوح الإنسانية فقط، أو تعاطفا مجانيّا مع عائلته ، لكنها كانت أيضا جزءا من شعور المجتمع الإسرائيليّ بالمهانة جراء نجاح حماس في الاحتفاظ به كلّ هذا الوقت رغم الملاحقة اليوميّة الحثيثة. قادة إسرائيل وصنّاع قرارها يدافعون عن صورة دولتهم وعن جنودهم وعن وجودهم في آن، فهذا الذي يجري يُذكّرهم بأنهم لم يعودوا قادرين على حماية أبنائهم، هم الذين طاردوا "أعداءهم" في طول الأرض وعرضها، كيف لا وهم الذين ضغطوا على مصر مؤخّرا من أجل الكشف عن وجود خمسة ضبّاط نازيّين قيل إنّهم يعيشون على أرضها [13]!

خلاصة القول: إنّ إسرائيل بنت وجودها على منظومة الرّدع ضدّ "أعدائها" من جهة على امتداداتها في الداخل والخارج، و داخل المنظومة الغربيّة، وهي ذات الامتدادات التي جعلت من شاليط أشهر رجل في العالم لكثرة ما تحدّث عنه الإعلام والزّعماء وقادة الدّول في محافلَ عديدة، وجُعل منه "بطلا رغم أنفه" كما أراد الكاتب الإسرائيليّ عاموس هرئيل. أمّا وسائل الإعلام الإسرائيليّة فقد أثبتت في تغطيتها لإطلاق شاليط أنّها وسائل أمنيّة بامتياز، نقلت الصورة لمجتمع ركيزته وعموده الفقريّ الشّعور بـ "القوّة والمنعة والرّدع"، كيف لا، والجنود الإسرائيليّون يخضعون لعملية تجنيد إجباريّ، أمّا القادة السّياسيّون فهم في الأساس جنرالات عسكر وضبّاط مخابرات وإن لبسوا الزيّ المدنيّ.


 

[1] ماجد أبو دياك، صفقة الأسرى. دوافع الإنجاز، الجزيرة. نت، http://www.aljazeera.net

[2] حسن أبو طالب، السّياسيّ والإستراتيجي في صفقة جلعاد شاليط، سويس انفو،http://www.swissinfo.ch/ara/detail/content.html?cid=31367504

[3] محمد بدير، عِبَر صفقة شاليط :"حكمة" جابوتنسكي مقلوبة على إسرائيل، صحيفة الأخبار اللبنانية،25 /10/2011، http://www.al-akhbar.com/node/24385

[4] فايز أبو شمالة، لماذا تنازلت (إسرائيل) في قضية الأسرى ؟صحيفة فلسطين، http://www.felesteen.ps/details/25549

[5] عبد الغني سلامة، مقابل 1000 - من المنتصر في صفقة شاليط ؟!، الحوار المتمدن، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=280212

[6] عبد الغني سلامة،1 مقابل 1000 - من المنتصر في صفقة شاليط ؟!، الحوار المتمدن،19/10/2011،http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=280212

* مذيعة القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي عقبت على ظهور شاليط في التلفزيون المصري قائلةً: "ظهر شاليط في وضعية غير مريحة، وإنه لأمر قاس جداً إجلاس الجندي بهذه الطريقة وتوجيه الأسئلة له بهذا الشكل"، بينما عقّب مراسلها بأنه "أمر غير حضاري وهمجي" وفيه "مسّ بالجندي وهجوم كبير عليه".

[7] عاموس هارئيل،هاآرتس،19/10/2011

[8] هاني حبيب، الصفقة ورسالتها الإعلامية، صحيفة الأيام،19/10/2011، http://www.al-ayyam.ps/article.aspx?did=177125&Date=

[9] نواف الزرو، تفكيك"الشيفرة الثقافية "الإسرائيلية!،موقع عرب 48، http://www.arabs48.com/?mod=articles&ID=55723

[10] يقول "آرون دافيد ميلر" في مجلة "فورين بوليسي" إنه "يمكن فهم دوافع إسرائيل لإبرام الصفقة بشكل أبسط بكثير. فقد ظلت فكرة التصميم على استرداد الجنود الذين يُتركون وراء في ساحة المعركة -أحياء أو ميتين- تشكل التزاما عميق الجذور في الثقافة والتاريخ الإسرائيليّين.

[11] عبد الغني سلامة، مصدر سبق ذكره

[12] إسرائيل لجنودها: لا نريد شاليطًا جديدًا، صحيفة المصريون،18/10/2011، http://www.almesryoon.com/news.aspx?id=82754

[13] ياسر الزعاترة، شاليط الذي يشعر مجتمع الاحتلال بالمهانة، الجزيرة نت، aljazeera.net/Portal/Templates/.../PocketPcDetailedPage.aspx?..