العنوان هنا
مقالات 03 مارس ، 2012

الرّؤية الإيرانيّة والثّورات العربيّة

الكلمات المفتاحية

رشيد يلوح

الدكتور رشيد يلوح باحث في العلاقات العربيّة - الإيرانيّة والسياسة الدّاخليّة الإيرانيّة. عمل باحثا في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وقبلها صحافيًّا متخصِّصًا في الشؤون الإيرانيّة. له عدّة بحوث وترجمات بين اللّغتين الفارسيّة والعربيّة، ودراسات في الثّقافة والإعلام والدراسات الإيرانيّة. وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في موضوع "التّداخل الثّقافيّ العربيّ - الفارسيّ"، من جامعة محمد الخامس في الرّباط. وعلى درجة الماجستير في اللّغة والأدب الفارسيّين من جامعة "تربيت مدرس" في طهران. وكان قد حاز شهادة الليسانس (البكالوريوس) في الأدب العربيّ من جامعة ابن زهر في أغادير - المغرب. وهو عضو بالجمعية المغربية للدراسات الشرقية.

لماذا هذه المقالة؟

تحاول هذه المقالة تتبُّع مشهدٍ من السِّجالات العميقة والمؤثِّرة التي تعرفها السّاحة الثّقافيّة الإيرانيّة منذ شهور، وأقصد تلك التي تتّصل بالثّورات التي يعرفها وطننا العربيّ. ورأيت أنّه من المهمّ أن نقدِّم تلك السّجالات إلى القارئ؛ لأنّ الهوّة التّواصليّة بين المثقّفين العرب والإيرانيّين، صارت كبيرة لن يردمها سوى إنصات كلّ طرف لخطاب الآخر.

وسأقف في عملي على بعض من المراجعات الذّاتيّة التي عبّر عنها مثقَّفُون إيرانيّون بخصوص النّظرة النمطيّة السّائدة في المشهد الإيرانيّ عمومًا عن الإنسان العربيّ. ذلك أنّ ثوراتنا فرضت على الإيرانيين الشكّ في تلك النّظرة وإعادة تقييمها، ودفعت بعض الأقلام إلى الذّهاب شوطًا بعيدًا، ووضع الذّات الإيرانيّة تحت محكِّ النّقد والمراجعة.

أمّا النّصوص المعتَمدة في هذه المقالة، فقد حصلْت عليها من حواراتٍ ومقالاتٍ لكتّابٍ وأكاديميّين إيرانيّين، نُشرت في مواقعَ إلكترونيّة مختلفة. فمن المهمّ أن يكون المثقَّف العربيّ على درايةٍ بصورة العرب لدى الإيرانيّين، بل من الضروريّ تعرُّفُه -أيضًا- على المنطلقات الأساسيّة التي يتحرَّك من خلالها الإيرانيّون، سواء كانوا من السّياسيّين على اختلاف تيّاراتهم، أومن الباحثين وعموم المثقَّفين والكتّاب.

وتؤكّد خلاصة المقالة على ضرورة اهتمام العرب بهذه المراجعات الإيرانيّة؛ إذ ينبغي للمثقّفين والمؤسّسات العلميّة والفكريّة العربيّة أن تنصت لها، وتتفاعل معها إيجابيًّا. فهي بحقٍّ مواقف شجاعة؛ تؤشِّر على تبلوُر خطابٍ ثقافيّ إيرانيّ جديد، قد يُسهم في بناء علاقاتٍ عربيّة إيرانيّة، مؤَسَّسة على الفهم الصّحيح والمعرفة الدّقيقة، البعيدة عن البؤس الأيديولوجيّ، وأخطاء التّاريخ وزواياه المظلمة.


مقدّمة

لم يحجب الاستبداد الشّعوب العربيّة عن الكرامة والحرية فقط، بل حجبها أيضا عن العالم المحيط بها. تلك حقيقةٌ أدركناها جميعًا مع أوّل الهَبَّات الشعبيّة في تونس ومصر؛ إذ رأينا أناسًا غير الذين كنّا نعرفهم أو نسمع عنهم. وكذلك نظر العالم بأسره إلى العرب جميعهم؛ إذ رأى في وجوههم شعوبًا تستيقظ من سباتٍ طويل، فَعَل فيه المُستبِدُّ ما فَعل.

والمثقَّفون الإيرانيُّون، هم جزءٌ ممّن فاجأتهم يقظتنا العربيّة. فبصرف النّظر عمّا تراكَم لديهم من أدبيّاتٍ نقديّة في نظريّة الثورة خلال العقود الثّلاثة الماضية، وبعيدًا عن المواقف الرّسميّة للحكومة الإيرانيّة؛ رأى الكثيرون منهم في ثورات الشّعوب العربيّة آفاقًا جديدة. وهنا تكمن أهميّةُ مقارناتِهم بين "ثورتهم" التي وقعت قبل أكثر من ثلاثين سنة، وثوراتنا العربيّة.

دعونا نتوقّفْ هنا عند مجالين اثنين يتحرّك فيهما الإيرانيّون ما بين مُعجَبٍ ومُراجع، ولْنَتأمّل في بعض ما يفكِّرون فيه، من خلال الوقوف على "نصوصٍ" نشروها أخيرًا، لنحّلل -من ثمّة- ما فيها من آراء وأفكار، ونستخلص بعض الاستنتاجات المهمّة للغاية، بما أنّها تسهم في تغيير طرق التّعامل مع هذا الجار القديم، الذي يجمعنا معه تاريخ طويلٌ جدًّا، تخلّلته أخطاء وممارسات فيها شدٌّ وجذب.


إعجاب...

 شعر المثقَّف الإيرانيّ بأنّ الثّورات العربيّة هي تعبيرٌ جميل عن نهضة شعوب أخذت المبادرة، وقرَّرت ألاّ تعود إلى الوراء، لم تعد شعوبًا مستكينةً للسُّلطان، ولا عاد الموتُ يُرهِبُها...

تشرح الكاتبة الإيرانيّة المعارضة جميلة كديفر هذا "الموقف" من خلال إعجابها بالمشهد المصريّ، قائلةً: "لم تعد مصر متميِّزة بسياسيّيها وقرّاء القرآن، وكتّابها، ومغنّيها، وصحافيِّيها؛ بل أصبحت أيضا متميِّزة بشعبها الذي صار نموذجًا للاقتداء. إنّه الشَّعب الذي لم يتَّخذ الخوفَ من قساوة القمع مبرِّرًا للجلوس في بيته والرّجوع إلى الوراء، إنّه الشّعب الذي اختار طريقه. إنّه يعرف ما يريد ومستعدّ لدفع ثمن اختياره"[1]. يبدو واضحًا أنّ هذه السّطور تخفي وراءها عتابًا للشّعب الإيرانيّ الذي لم يصمد طويلا أمام عنف النّظام سنة 2009، عندما خرج بمئات الآلاف للاحتجاج والتّظاهر.

لم يكن الإعجاب الإيرانيّ بالصُّمود والشّجاعة العربيّين، نابعًا فقط من النّموذج الذي يقدِّمه الشّباب العربيّ ميدانيًّا لباقي الشُّعوب المتطلِّعة للتّحرُّر من الاستبداد؛ بل يستند أيضًا إلى خلفيّة الوجدان الإيرانيّ الذي يُمجِّد البطولة والفِداء، وإلى ذلك العمق الحضاريّ الذي يجمع بين الشّعبيْن الإيرانيّ والعربيّ، ويتعالى فوق كلّ العُقد والجروح التاريخيّة المؤلمة. وقد عبَّر الباحث في علم الاجتماع حسن محدثي عن هذه المعاني بأسلوبٍ آخر، لمّا تناول في مقالة له أبعاد الثّورات العربيّة؛ متأسِّفًا في نهايته على عجزه عن الحضور مع الشّعوب الثَّائرة وسط الشّوارع العربيّة، حتّى يشاركها حلمها وحماسها وفرحها وحزنها. ويضيف محدثي: "لم أتَمَنَّ قطُّ زيارة باريس أو لندن أو نيويورك؛ لكنّني أحمل في قلبي أمنية غالية، هي التّجوُّل في شوارع القاهرة وإسطنبول ودمشق وطرابلس وتونس وكابل وبغداد"[2]. الأتراك والأفغان ليسوا عربا، ومع ذلك فأشواق محدثي جعلته يستدعي ماضيًا حضاريًّا مشتركًا ومنفتِحًا، لم تكن فيه حدود ولا جوازات سفر.

ويختم هذا الباحث مقالته بإشارةٍ إلى مشكلةٍ تعترض معظم المثقّفين والكتّاب الإيرانيّين، لمّا يتناولون الشّأن العربيّ بالملاحظة والدّرس والتّحليل؛ وهي عدم إلمامهم الدّقيق بجزئيّات هذا الشّأن، واكتفاؤهم بالمراقبة من بعيد، يقول محدثي في هذا السّياق: "نُلاحظ الواقع العربيّ دون أن تكون لدينا معطياتٌ دقيقةٌ عنه، لنملأ في النّهاية الفراغات التي تبقى، بما نملكه من حدس وشوق وأمل..".

وقد شكّلت هذه الفراغات التي يشير إليها الكاتب باستمرار، عقباتٍ أمام التّقارب والتّعارف بين المثقّفين الإيرانيّين والعرب؛ لاسيّما حين يملؤها بعضهم بما يوفِّره المخزون التاريخيّ من متفجّرات وألغام، أو تملؤها ترسانة الأيديولوجيا بما تملكه من عوائقَ وحدود.

فهل ستفتح الثّورات العربيّة الباب واسعًا أمام حوارٍ ثقافيّ عربيّ إيرانيّ، يبدأ بنقد الذّات وينتهي بملْء الفراغات؟


مراجعات

دفعت الثّورات العربيّة المثقّف الإيرانيّ إلى تعميق قناعته بضرورة تصحيح مواقفه، والانفتاح على الجار العربيّ. وهو بابٌ طرقه مثقّفون قبل هذا الموعد بعقود، كان أهمّهم الدّكتور علي شريعتي (1933-1977) الذي دعا الإيرانيّين إلى التّحرّر من "الإسلام الصفويّ" المُفَرِّق والمُنتَقِم، والعودة إلى "الإسلام النّبويّ" الجامع والرّحيم؛ والباحث ناصر بوربيرار (وُلد سنة 1944) الذي دعا العقل الإيرانيّ إلى الاستيقاظ من "وهم الحضارة الفارسية المُهَيْمِنة"، الذي رسّخه المستشرقون الإنكليزيّون والفرنسيّون في أعماقه، انطلاقًا من أسطورةٍ كاذبةٍ اسمها "الإمبراطور العظيم كورش".

استطاع الرّجلان، شريعتي وبوربيرار، أن يضعا إصبعيهما على داء العقل الإيرانيّ المعاصر. فاقتحما العقبة التي يتهيَّبُها علماء وباحثون إيرانيّون كثيرون؛ وذلك بدعوتهما إلى تجاوز معطيات مذهبيّة وتاريخيّة طارئة، صارت في ما بعد مسلّماتٍ وثوابتَ، لايزال المجتمع الإيرانيّ يدفع ثمنًا باهظًا من جرّاء بقائها واستمرارها.

هدمت الثّورة الإسلاميّة 1979 الاستبداد الملكيّ الذي عمّر بلاد فارس لقرونٍ طويلة؛ لكنّها لم تستطع أن تقترب من عمق الاستبداد الثقافيّ المهيمِن على الذِّهنيّة الإيرانيّة، وظلّ مثقَّفو الثّورة وكتّابها يحومون حول تلك القيود التي تحوَّلت -بعد عقود- إلى مُوَجِّهاتٍ لمواقف إيران وسياستها تجاه جيرانها.

فعلى الرّغم من كلِّ شعارات الثّورة وأدبيّاتِها الإسلاميّة والعالميّة الجامعة، لم تستطع الممارسة الإيرانيّة أن تخرج من ضيق المذهبيّة والعرقيّة؛ تلك "الخلطة الصفوية" التي كادت أن تكون جزءًا من الشخصيّة الإيرانيّة، فتُطْبِق تمامًا على أنفاس التّنوّع والانفتاح اللَّذيْن طبعا هويّة بلاد فارس قرونًا طويلة.

وبإمكان من يراقب الخطاب الثّقافيّ والسّياسيّ الإيرانيّ، أن يتفطّن إلى ما فيه من عدم الوضوح في الرّؤية والفهم؛ وهو الأمر الذي يجهله الكثيرون من مثقّفينا، ويتجاهله البعض حتّى لا تتزعزع قوّة الجمهوريّة الإسلاميّة أمام أعدائها. غير أنّ تغيّر المعطيات يومًا بعد يوم؛ صار يفرض علينا أن نُواجه بِحيرةٍ وتردُّدٍ شديدين هذه المشكلة، ويجعلنا نقتنع -أكثر فأكثر- بأنّنا نعاني من سوء فهمٍ مزمنٍ للشّأن الإيرانيّ.

وعلى الرّغم من إيجابيّات المبادرة الإيرانيّة سنة 1997، التي انطلقت بطرح الرّئيس الأسبق محمد خاتمي فكرة "حوار الحضارات" في الأمم المتّحدة، واقتراح أن تكون 2001 سنةً للحوار بين الحضارات العالميّة؛ فإنّ المراقبين والمهتمِّين بالشّأن الإيرانيّ، توقّعوا فشل هذه المبادرة، لأسبابٍ عدّة كان أهمُّها، إهمالها للتّقارب الإيرانيّ الداخليّ بين مكوِّنات الهُويّة الإيرانيّة، وللحوار الإيرانيّ مع الشّريك والجار العربيّ بغية الالتقاء معه على محاور جامعة. وليس ذلك فحسب؛ بل أَهمَلت مبادرة "حوار الحضارات" الفاعلَ العربيَّ في الحضارة الإنسانيّة.

لم يستطعْ قادةُ الثَّورة الإيرانيّة -بعدُ- التحرُّرَ من الإرث الثقافيّ الشاهنشاهي الفارسيّ؛ وهو ما يظهر جليًّا في السّياسة الثّقافيّة والعلميّة التي تهدِّد كلّ من يشكِّك في مسلَّمات "الحضارة الفارسيّة العظيمة" من جهةٍ، وفي تصريحاتٍ ومواقفَ سياسيّةٍ مصرَّح بها بين الفينة والأخرى من جهةٍ ثانية. وهذا ما جعل الشّعوب العربيَّة ونُخَبَها، تعيد النّظر في تصوُّراتِها تجاه الثّورة الإسلاميّة، خاصّةً بعد ما حدث في العراق، وما يحدث الآن في سوريا.

إنّ نجاح الشّعوب العربيّة في التخلّص من بعض مستبدّيها؛ قد طوّر الوعي العربيّ إلى حدٍّ، صرنا فيه لا نميِّز بين العداء للصّهيونيّة والعداء للاستبداد الداخليّ كيفما كان نوعه، وأصبح الدّفاع عن حقوق الشّعوب المظلومة من صميم الدِّفاع عن حقوق الشّعب الفلسطينيّ. وصارت الحرّية والكرامة والعدالة كُلًّا منسجمًا، لا يقبل التّقسيم أو التّمييز. إنّ هذا الوعي المرتقي؛ هو الذي دفع بعالِم الاجتماع الإيرانيّ محمد برقعي إلى التوقّف عند سؤال: لماذا فشلنا في ثورتنا الخضراء سنة 2009، ونجح العرب في ثوراتهم[3]؟

بعد تأمُّلٍ طويل؛ وجد برقعي الجواب عن هذا السّؤال كامنًا في القيود الذّاتيّة التي دخلت على الإيرانيّين من أبواب التّاريخ والثّقافة والمذهب، فَكَبَّلت روح الشَّعب، وَعَزَلَتْه عن محيطه.

ويعتقد برقعي أنّ سبب فشل الثّورة الإيرانيّة، هو عُزلة إيران داخل العالم الإسلاميّ. وقد أرجع تلك العزلة إلى عدّة عواملَ منها: "التشيُّع الصّفويّ"، الذي أدخل إيران في حروبٍ مع مواطنيها وجيرانها. ويوضِّح ذلك بالقول: "قبل العصر الصفويّ، كان الشِّيعة -مثل باقي المذاهب السنّية- يعيشون في سلامٍ مع أهل السنّة، ولم تستوجب الاختلافات الموجودة بين المذاهب نشوءَ عداوةٍ عميقة بينهم. لذلك يتساءل البعض: هل "سعدي" و"حافظ" كانا سنِّيَّيْن أم شيعيَّيْن؟ وقد كان الكثير من العلماء أمثال الخواجة نصير الدين الطوسي والعلّامة "الحلي" من الشّيعة، لكنّهم عملوا مع الملوك من أهل السنّة. ولكي يحقِّق الصَّفويّون أهدافهم ومصالحهم السياسيّة؛ اتّخذوا المذهب الشّيعي أيديولوجيّة رسميّة لدولتهم. وعلى هذا الأساس أطلقوا حملةً إعلاميّةً واسعة ضدّ السّنّة، واستخدموا فيها مؤلّفاتٍ لعلماء شيعة كانوا في خدمة البلاط الصّفوي أمثال المجلِسي. وبعد ذلك أصبح الهجوم على أهل السُّنَّة وظيفةَ فقهاء الشِّيعة والدّولة على السّواء، واستمرّ هذا الأمر لقرونٍ عدّة، ممّا رسَّخ في ثقافتنا التهجُّم على أهل السُّنّة".

ويرى برقعي أنّ الذي ضاعف من حدّة هذا العداء؛ هو انضمامُ غير المتديِّنين من الإيرانيّين إلى هذه الحملة التي شُنَّت ضدّ أهل السُّنّة، إذ يقول: "إذا كان فقهاؤُنا والمتديِّنون منّا يذكُرون العرب بكونِهم أهل السّنَّة الغاصبين حقّ أهل البيت، فإنّ الحداثيّين والجامعيّين منّا يُعبِّرون عن هذا العداء بدرجاتٍ أكبر، وذلك عندما يدَّعون أنّ عِرقنا الآري هو الأفضل، وهذا بالطّبع من آثار سياسات النّظام الملكيّ البهلويّ. لقد عمل النّظام البهلويّ على جعل القوميّة الفارسيّة القديمة الميزة الأساسيّة والأهمّ لشخصيّتنا بدل الإسلام؛ حيث اشتغلت وسائل الإعلام الحكوميّة حينئذ على التّرويج لأفضليّة العرق الآريّ على العرق العربيّ، حتّى أرجعت جميع مفاخرنا الثقافيّة إلى الشّاعر الفردوسيّ. وهكذا أعطى النّظام الملكيّ لمشاعر كراهية السنّة لون العداء للعرق العربيّ، وقد عَبَّرت بوضوح أعمال الكاتبين صادق هدايت وكسرفي عن هذه الكراهية للعرب".

أمّا المُعطى الذي زكّى هذه الكراهية؛ فهو الواقع السّياسي المستجدّ في إيران منذ أكثر من ثلاثة عقود مع الثّورة الإسلاميّة. ويشرح محمد برقعي ذلك الوضع قائلًا: "أدّت كراهية الفقهاء وحكومتهم الإسلاميّة، إلى اعتبار الإسلام دينًا عربيًّا وفقهاء الشّيعة عربًا. وبالتّالي أصبحت حكومة الجمهوريّة الإسلاميّة حكومة عرب متسلِّطة على الإيرانيّين. وفي النّهاية تَصاحَب السُّخط على الحكومة مع السُّخط على العرب".

ويُعمِل برقعي مِشرحه النّقديّ أكثر فأكثر في عمق الذّات الإيرانيّة، عندما يؤكّد على أنّ مشاعر التّعالي والانعزال لم تكن فقط موَجَّهة إلى الجار العربيّ؛ بل وكذلك إلى الأفغان والطاجيك والأوزبك والتّركمان؛ وذلك على الرّغم من أنّ أكثر مفاخر الثّقافة الإيرانيّة تستقرّ في بُخارَى وسمرقند وبلخ وهرات، وكذلك في أفغانستان وطاجاكستان وأوزبكستان. ويستطرد برقعي قائلا: "مازلنا ننظر إلى هذه الشّعوب التي تشاركنا اللّغة والثّقافة من فوق، وكأنّهم يتربّصون برموزنا الحضاريّة لسرقتها منّا".

ويضيف: "وفي المقابل تجد عامّتنا يعرفون الكثير عن أوروبا وأميركا، التي لا يربطنا بها أيّ شيء؛ أكثر ممّا يعرفون عن الهند وباكستان. والسّبب أنّنا نرى أنفسنا في صفِّ الدُّول الغربيّة، لا مع الدّول المتخلّفة مثل باكستان والهند وبنغلاديش".

ثمّ يتحدّث برقعي عن نظرة الإيرانيّين إلى الأتراك، قائلا: "الأتراك بدورهم ضحايا أحكامنا المستعلية والقائمة على الأنانيّة، والتي ترجع جذورها بالطّبع إلى العصر الصّفويّ لِمَا عرفه من صدامات وحروب مع جيراننا العثمانيّين. وهي أحكام تَعَمَّقت مع انتشار نظريّة تعالي العرق الآريّ الإيرانيّ في عهد الحكومة البهلويّة...إنّنا لا نعتبر أنفسنا جزءًا من المنطقة التي نوجد فيها، لأنّنا نتصوّر أنّنا نوجد في القارّة الأوروبيّة أو ينبغي أن نكون فيها. إنّه المكان الذي يليق بالأمّة الإيرانيّة العظيمة والذّكيّة. ولهذا السّبب ليست لدينا الرّغبة في التعرّف أو التّعاون مع جيراننا".

ويختم برقعي مقالته قائلا: "لهذه الأسباب كلّها، نحن معزولون وبعيدون عن جيراننا. ليس بسبب مذهبنا الشِّيعيّ الذي فرضه الصفويّون على بلادنا السنّيّة في الأصل فقط؛ وليس بسبب اختلاف لغتنا عن التّركيّة والعربيّة فقط؛ بل لأنّ كلّ ما سبقت الإشارة إليه من انفصالاتٍ، كان بسبب السِّياسات غير المباركة لحكوماتنا طوال الخمسة قرون الماضية. إذ تمّ توظيف العامل الثقافيّ والمذهبيّ من قبل الحكومة الإيرانيّة لتغريبنا عن جيراننا، وجعلنا مُنزوِين في كلا المجالين: الحضارة الإسلاميّة والحضارة الإيرانيّة. وبسبب انزِوائِنا وطبعنا العِدائيّ تجاه جيراننا، أصبحت عبارة "الفنّ عند الإيرانيّين فقط" على لسان العامّ والخاصّ. ليس هناك اعتراض على الجزء الأوّل من العبارة، أي "الفنّ عند الإيرانيّين"، لأنّ كلّ أمّةٍ تمجِّد نفسها، لكنّ الذي ليس صحيحًا بل ومُسَمِّما، هو الكلمة المضافة للجملة، وهي "فقط"، وهذه لوحدها كافية لتوضِّح ما قدّمته هنا..".

إنّ موقف البرقعي؛ هو خطوةٌ نقديّةٌ جريئة، تهدف إلى تجاوز عقباتٍ ظلَّت منذ قرون تمنع الشّعب الإيرانيّ من استعادة مبادرته الحضاريّة باتِّجاه جيرانه، ومن كسر جدران المُسَلَّمات الثَّقافية والمذهبيّة.  

هناك موقف آخر أعلنه المفكِّر الإيرانيّ صادق زيبا كلام؛ وهو من أكثر المثقّفين الإيرانيّين اهتمامًا بسؤال الخروج من المأزق الثقافيّ والتّاريخيّ الإيرانيّ. وقد ارتبط اسمه في بداية الثّورة الإسلاميّة بمسؤوليّات أكاديميّةٍ وثقافيّة. وقد حاول في كتابه (كيف أصبحنا نحن؟) إبرازَ دور العامل الذّاتيّ في تخلُّف الإيرانيّين؛ مفنِّدًا الخطاب السِّياسيّ الرّائج، الذي يعلّق أزمات إيران كلّها على مشجب الاستعمار أو المؤامرة العالميّة.

وفي زمن الثّورات العربيّة يكشف زيبا كلام عن جانب من عوائق العقل الإيرانيّ؛ وهو العنصريّةُ والنِّظرة الاستعلائيّةُ إلى الآخرين. إذ يقول في حوارٍ له مع صحيفة (صبح آزادي)[4] الإيرانيّة: "أعتقد أنّ الكثير من الإيرانيّين يكرهون العرب، ولا فرق بين المتديِّن وغير المتديِّن منهم في هذا الأمر". ويقدِّم زيبا كلام تصريحاتِ السياسيّين الإيرانيّين بخصوص جيرانهم العرب في الإمارات أو البحرين أو السّعودية مثلا، كدليلٍ واضح على تمكّن داء العنصريّة من الخطاب الإيرانيّ؛ إذ يقول: "إنّ تصريحات المسؤولين في الجمهوريّة الإسلاميّة عنصريّةٌ أكثر ممّا هي سياسيّة... مثلا حين يقول أحدهم مخاطبًا العرب: هل أنتم بَشر؟ هل في الإمارات أصلًا تعدادٌ بشريٌّ يُعتدّ به؟ لو أنّ الإيرانيّين السّاكنين في الخليج الفارسيّ نفخوا إلى الجهة الجنوبيّة لذهب العرب مع الرّيح..".

لا يُنكر زيبا كلام أنّ هناك علاقةً وثيقةً بين العنصريّة وتدنِّي المستوى الثّقافيّ؛ لكنّ هذه القاعدة لا تنطبق على المجتمع الإيرانيّ، لاستسلام كثير من المثقّفين -وغير المثقّفين- لمشاعر العنصريّة. فـ "الكثير من المثقّفين يبغضون العرب، وتجدون متديِّنين كثرًا ينفرون منهم؛ إلا أنّ هذه الظّاهرة هي أكثر انتشارًا بين المثقَّفين الإيرانيّين. وتنتشر هذه الظّاهرة بين المتديِّنين، على شاكلة لعن أهل السّنّة". ويتّفق زيبا كلام مع برقعي في أنّ قضيّة كراهية الإيرانيّين لأهل السنّة، ليست سوى الوجه الآخر لكراهية العرب لهم.

وفي أثناء التّشريح التّاريخيّ الذي قام به زيبا كلام؛ كشف عن أنّ جذور كراهيّة النُّخبة الإيرانيّة للعرب ترجع إلى أكثر من 1400 عام، عندما انهزم الفرس أمام العرب المسلمين في معركة القادسيّة.

وأكّد زيبا كلام ما ذهب إليه البرقعي من تفسيرٍ، بالقول إنّ سياسات الملكيّة البهلويّة؛ قد عمّقت النّظرة الاستعلائيّة تجاه العرب. ورأى أنّ جميع المحاولات -التي بُذلت في المرحلَتيْن الملَكيّة والجمهوريّة- لتصفية اللّغة الفارسيّة من الكلمات والمصطلحات العربيّة؛ هي ترجمةٌ لمشاعرَ عنصريّة تجاه العرب.

ويؤمن زيبا كلام مثل باقي المنتقدين للذّات الإيرانيّة؛ بأنّه لا مفرَّ من مواجهة هذه الذّات بفظاعاتها وتشوُّهاتِها العميقة، والتي تسعى دائمًا إلى تجاهُل قُبحها بالإنكار والهروب إلى الأمام. ويرى أنّه لا سبيلَ للعلاج من تلك الآفات؛ إلا باجتثاث جذور الدّاء الكامنة في العقل الإيرانيّ، سواء كان متعلِّمًا مثقَّفًا أو لم يكُن.

أمّا الكاتبة الشابّة ندا شهبازي؛ فقد حاولت بدورها أن تعرِّي الانحرافَ الحاصلَ في الذِّهنيّة الإيرانيّة تجاه الجار العربيّ. وعلى خِلاف الآخرين؛ انطلقت من الزّاوية الجغرافيّة لتُثبت لأبناء وطنها أنّ هَوَسَهُم القوميّ، وتمجيدَهم الأعمى للعرق الفارسيّ، أوقعهم في مآزقَ خطيرة.

جادلت شهبازي المتعصِّبين الذين اتّخذوا قضيّة تسمية "الخليج الفارسيّ" ذريعةً لتمرير أحقادِهم وكراهيتِهم للعرب؛ متناسين أنّ جزءًا من الشَّعب الإيرانيّ هم عربٌ أيضًا، وأنّ غالبيّتهم تساكِن ذلك الخليج. تقول ندا شهبازي: "للأسف هناك جهودٌ كبيرة، وخاصّةً تلك التي تبرزها بعض الصّفحات الأكثر رواجًا على الفايسبوك؛ والتي لا تعبِّر عن رغبةٍ حقيقيّة في الحفاظ على تسمية الخليج القديمة، بقدر ما تسعى إلى ترسيخ كلمة "فارسيّ". وأنا أَستبعدُ أن يبذل أصحابها كلّ هذا الجهد، لو كان اسمه مثلا "الخليج الجنوبيّ"[5].

وختمت هذه الكاتبة مقالتها بإثارة انتباه المثقَّف الإيرانيّ إلى أنّ التّداخُل والتّبادل، هو من طبيعة الثّقافة الإنسانيّة؛ وإلى أنّ تأثير اللّغة العربيّة في نظيرتها الفارسيّة كبير. ودعت قُرّاءها الإيرانيّين إلى تأمُّل أسمائهم العربيّة، وإلى ملاحظة مدى وجود العربيّة في أعماقهم الثّقافيّة. لذلك نصحتهم باستئصال مشاعر العنصريّة والكراهية من قلوبهم؛ على الأقلّ احترامًا للمواطنين الإيرانيّين العرب.

لاشكّ في أنّ هذا الحوار الإيرانيّ- الإيرانيّ، سيُسهم في إيقاظ العقل، وإخراجه من سجن "الأنا" المدمّرة الذي قبع فيه. ممّا سيدفع بالنُّخبة الإيرانيّة إلى استئناف دورها الإسلاميّ بعيدًا عن التّمييز العرقيّ والجغرافيّ العنيف، الذي تغذِّيه روح عصرنا المادّية.


ماذا نستنتج؟

وختامًا أقول: إنّ نجاح أيّ نموذجٍ حضاريّ؛ هو مرتبطٌ أساسًا برسالته الإنسانيّة المتعالية على الحسابات الضيِّقة؛ تلك الرّسالة المبنيّة -على الدّوام- على العطاء والتّواضع والصّبر والاعتراف بمبدئيّة الحقّ. إنّ النّموذج المفتَقِر إلى هذه السّمات، لن يستطيع -بتاتًا- أن يقدِّمها لغيره من النّماذج، ولا أن يدعوها إلى الالتزام بها. فالبشريّة لا تنقصها التّجارب بقدر ما ينقصها النَّموذجُ القدوةُ في السّلوك والممارسة الواقعيّة.

ولقد استشعر المثقّف الإيرانيّ مبكِّرًا خطورة المعضلة الثّقافيّة في مشروعه النّهضويّ. ومع توالي السِّنين، وخُفوتِ بريق الشِّعارات الثّوريّة؛ تعمَّقت الحاجة إلى إصلاح الذّات، وزعزعة مسلّماتها. واكتشف أبناء الثّورة الإسلاميّة وتلاميذها، أنّ العقبة الحقيقيّة والأُولى أمامهم، ليست العدوّ الخارجيّ كما يروِّج لذلك الخطابُ الرّسميّ؛ بقدر ما هي تلك الأفكار الخاطئة التي سيطرت على العقل الإيرانيّ لقرونٍ طويلة، وكانت وراء فشل كلّ ثورات الشَّعب الإيرانيّ في القرنين الأخيرين. إذ كانت الأصول الثقافيّة المترسِّخة في النّفوس؛ تُنتج دائمًا عقلًا جامدًا ومعزُولا. وكثيرًا ما كان ذلك العقل يحاول إضفاء الشرعيّة على بنيةٍ استبداديَّة، مع أنّها قائمة  على حُطام أنظمةٍ استبداديّةٍ سابقة.

وفي اعتقادي، تمثِّل مراجعة بعض المثقَّفين الإيرانيّين للذّات، وتعرِيتهم لعيوب تجربتهم وثقافتهم، ومحاولتهم نقد مسلّماتها الذّهنيّة؛ خُطوةً شجاعةً، وحالةً صحِّيةً من أجل بناء مجتمعٍ سليم، يستطيع بناء علاقاتٍ مشتَركة ومتواصلة مع محيطه العربيّ خاصّةً. وقد تكون هذه الأفكار مقدِّمة لتحوُّلٍ ثقافيّ، يفتح المنطقة على مستقبلٍ أكثر تواصلًا واستقرارًا؛ حتّى يستشعر فيها الجميع احترام بعضهم للبعض الآخر.

 إنّ هذا التطلُّع الإيرانيّ، يحتِّم على العقل العربيّ القيام بواجبه في مراجعة ذاته بشجاعةٍ وعمق. ذلك أنّ الاستبداد لا يسقُط بسقوط صُوره الخارجيّة فقط؛ بل وكذلك بإسقاط ثقافته وصورِه المعنويّة والذهنيّة التي تشرَّبها المجتمع العربيّ طوال قرون انحطاطه وتخلُّفه. لقد حان الوقت لكي يقف المثقّفون العرب أمام مرآة الحقيقة، ويستجيبوا لطموح شعوبهم الثّائرة؛ تلك التي قدّمت التّضحيات العظيمة من أجل أن يكون لها المكان الملائم تحت الشّمس.


[1] جميلة كديفر، "الربيع العربي في مصر"، موقع "جنبش راه سبز"، 19/12/2011:  http://www.rahesabz.net/story/46503/

[2] حسن محدثي، "نظرة إلى الإسلام الحداثي في العالم العربي الجديد"، موقع: شرق،  27/06/2011:  http://sharghnewspaper.ir/News/90/04/06/13340.html

[3] محمد برقعى، "لماذا توسعت الحركة المصرية ولم تتوسع الثورة الإيرانية ؟"، موقع: "جنبش راه سبز"،   22/02/2011: http://www.rahesabz.net/story/33341/

[4] صادق زيبا كلام، حوار مع جريدة "صبح آزادى" الإيرانية"،  10/08/2011، الرابط على الموقع الشخصي لزيبا كلام:  http://www.zibakalam.com/news/478

[5] ندا شهبازى، "الخليج فارسي أم عربي؟"، موقع: "بالاترين"،  10/12/2011:  http://balatarin.com/permlink/2011/12/10/2833613