العنوان هنا
دراسات 17 يناير ، 2011

العرب وإيران بين الذاكرة والتاريخ

الكلمات المفتاحية

وجيه كوثراني

مؤرخ لبناني، عمل كوثراني أستاذًا باحثًا في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومديرا للإصدارات فيه. وتشمل أبحاثه دراسات التّاريخ الاجتماعيّ وعلم اجتماع السياسة ومنهجية البحث التاريخيّ. عمل الدكتور وجيه سابقًا مديرًا للدراسات في مركز دراسات الوحدة العربية ومدير تحرير مجلّة "منبر الحوار" في بيروت. وشغل الدكتور كوثراني وظيفة أستاذ في الجامعة اللبنانية قبل عام 2005.

 

تقوم فرضيات هذه الورقة على معطى معرفي خلص إليه تطور معارف العلوم الإنسانية والاجتماعية ومناهجها الحديثة، ولا سيما ذلك التطور الذي حصل في السياق الذي تداخلت خلاله مباحث التاريخ الاجتماعي، ومباحث الاثنولوجيا، وحيث استفادت هذه وتلك أيضاً من مباحث علم النفس الاجتماعي والتحليل النفسي، ومعطيات "الألسنية" في تحليلها لأوجه الخطاب ودلالاته.

ولعلّ أهم معطى معرفي يفيد في مجال الدراسة التاريخية الحديثة والذي أسعفني كثيراً في فهم أبعاد الخطاب التاريخي الذي اشتغلت عليه، هو المعطى المنبثق من وعي الإشكال الثنائي الذي اشتغل في ضوئه المؤرخون والاثنولوجيون، فوصلوا إلى التفريق بين الذاكرة والتاريخ. فماذا نعني بالذاكرة، وماذا نعني بالتاريخ، أي علم التاريخ؟

لعل التعريف الأقرب والمساعد على فهم المقصد من هذا التفريق هو ما كتبه المؤرخ الفرنسي، "جاك لوغوف"، عندما عرّف هذا الإشكال الثنائي بين الذاكرة والتاريخ، ووصف الحالة المعرفية لكلٍ منهما: "يغلب على خطاب الذاكرة التاريخية الجماعية، سواء جاءت تعبيراتها شفوية وبالرواية المحكية، أو جاءت نصوصاً متواترةً ومتناقلة بالإسناد، يغلب عليه (أي على خطاب الذاكرة) السمات التالية: الأسطرة، خلط الأزمنة (anachronism)، بل أيضاً استحكام المخيال فيه و(استدخاله) انفعالات وعواطف هي من إنتاج حاضر اشتغال الذاكرة وإحيائها في لحظة من لحظات الزمن، حيث تستحضر خزانة الذاكرة من صورها، ما يفرح أو يريح إذا كانت لحظة الاستحضار في الزمن المعني مفرحة أو مرضية، أو تستحضر ما يحزن وما يغضب وما يثير إذا كانت لحظة الاستحضار مؤلمة ومؤججة للصراع والعنف".

أما التاريخ، والمقصود هنا علم التاريخ، فهو البحث الهادف إلى معرفة وضعية للظروف والعوامل والسياقات مساعدة على فهم الذاكرة وصورها وطريقة اشتغالها لموضعتها في مكانها وزمانها، وعقلنتها، وهضمها. إذاً الذاكرة قد تكون، ولعله من الضروري أن تكون موضوع درسٍ للمؤرخ، لا مرجعية معرفية معتمدة.

على قاعدة هذا المفهوم، وهذا الفهم لمهمة المؤرخ، حاولت العمل على هذا الحقل من الموضوعات، فماذا أستطيع أن أقدّم من مقاربات لإشكالية العلاقة التاريخية بين العرب وإيران؟

لا شك أن القيام بإعادة قراءة تاريخية لأوجهٍ من اختراق الأسطورة أو لأوجه من التحريف أو الخلط في الزمن التاريخي، أو لأوجه من الأدلجة (أي الاستخدام الايديولوجي - الوظائفي لواقعة أو خطاب)، هي مهمة صعبة ولكنها ضرورية من زاوية المنهج، ومفيدة أيضاً من زاوية اقتراح السياسات السليمة وصناعتها.

سأستعين باستحضار محطات أو عناوين من تاريخ العلاقة بين العرب وإيران، متجنباً السرد الحدثي الذي قد يغرق القارئ أو المستمع بتفاصيل لا تفيد، ومحاولاً التركيز على المعنى التاريخي لهذه المحطات ووضع اليد على البعد الأسطوري والايديولوجي فيها، وأختار من بين المحطات مشاهد ذات عناوين دالة: "القادسية"، "الشعوبية"، "إيران" و"العرب بين التشيع والتسنن"، "الحرب بين الصفوية والعثمانية"، "ولاية الفقيه العامة" ودلالاتها وتمثلاتها عربياً وإيرانياً.. وأكتفي في هذه الخلاصة بتحديد وجهة المعالجة لهذه العناوين لا أكثر.

1- القادسية بين معناها التاريخي الحضاري ورمزيتها في الخطاب الإيديولوجي والأسطوري:

القادسية في "الذاكرة الأسطورية - الايديولوجية"، معركة بين قوميتين، حيث تقدم الذاكرة الجماعية العربية، لا سيما تلك التي تتشكل بفعل حوافز الحاضر وتحدياته صوراً من الغلبة العصبية القومية المستخدمة، تحفيزاً أو تحريضاً. هذا في حين أن القادسية، كما اليرموك، كما فتح مصر، كما فتح غيرها من البلدان، كانت تعبيراً عن تجليات صراع مرحلي بين إمبراطوريات آخذة بالتفكك والضعف، بعد حملها واحتضانها لحضارات كبرى أخذت بدورها، تتراجع وتتجمد وتتحول أديانها إلى ايديولوجيات وفرق تسلطية استبدادية وتجزيئية. هذا في وقتٍ كانت الجزيرة العربية وحواضرها المدينية التجارية تشهد تفاعلات حضارية ودينية طرفية (من أطراف) تؤهلها للعب الدور الحضاري - الإمبراطوري المركزي البديل.

 وكان الإسلام المنطلق من دينامية مجتمع الجزيرة آنذاك هو المشروع البديل، لكنه البديل الحضاري المستوعب للحضارات والمؤلف للثقافات على المدى البعيد، ترجمةً وإسهاماً وإبداعاً وفي كل المجالات، لا في مجال الشريعة وحدها. معارك الفتوح ينبغي وضعها تاريخياً في سياق الفهم الموضوعي لما كانت عليه استعدادات الجزيرة العربية، ولما آلت إليه دوائر العالم المتوسطي - القديم الكبير (بمعناه البرودلي)، أي بما يعني من أسواق واقتصادات وطرق مواصلات وصحاري وجبال وحضارات وأديان. إنها آفاق تاريخية أوسع مما تأسره الذاكرات الجماعية القومية عندما تستحضر الحدث معزولاً عن سياقاته العالمية.

2- الشعوبية بين معانيها الثقافية البعيدة واستخداماتها الاثنية والقبلية الضيقة:

من المعروف أن الإسلام كدين كان، دعوة للمساواة بين الأفراد والشعوب، أو هكذا فهمته الشعوب والأقوام عندما اعتنقته، ولم تفهمه ديناً عربياً متفوقاً بعنصرية حامليه الأوائل أو عصبيتهم. وكما كان الحال في ممارسة السلطة الأموية التي نهضت واستقوت بعصبيتها القبلية على العصبيات العربية، كما على العصبيات الاثنية الأخرى التي استبعدت عن مراكز السلطة، فكان "الموالي" الذين والوا الإسلام من غير العرب، الفئة الاجتماعية التي تبحث في البدايات عن موقع معوّض عن خسارة السلطة بالثقافة والعلوم والآداب. السلسلة تطول عندما نتذكر فلاسفة وأدباء وفقهاء ولغويين وعلماء من الفرس إلى درجةٍ تحدو ابن خلدون بأن يلاحظ أن معظم علماء الإسلام من غير العرب.

صحيح أن هذه الظاهرة أخذت طابع السجال بين أدباء وشعراء من الطرفين، يتفاخرون بتواريخهم وأدبائهم، ولكنهم يتنافسون بخدمتهم اللغة العربية والإسلام والفلسفة والعلم.. وكل هذا كان يتشكل في حضارة عالمية لغتها السائدة العربية، لغة إنتاج وإبداع، وفلسفتها إنسانية أممية منفتحة على كل العوالم المعروفة (يكفي أن نلتفت إلى أدب الرحلات).

بالمقابل ومن باب المفارقات، أن تسجل الذاكرة العربية جوانب من هذه الظاهرة، هي جوانب التعابير السياسية الاحتجاجية على الدولة العربية الواحدة، أو جوانب التعابير الدينية الانشقاقية، فتجعلها الغالبة أو الوجوه السائدة في السرد التاريخي العربي، بل إنها تنقلها إلى زمن انبعاث القوميات الحديثة والمعاصرة. فتحوّل بعض تعبيراتها في الخلاف والصراع إلى مشاريع تآمرية على الإسلام تارة، وعلى القومية العربية تارة أخرى، وتخلط بين زمنها القديم وزمن العلاقة الملتبسة بين القومية العربية من جهة، والأقليات الدينية والاثنية والمذهبية من جهة أخرى.

 التباسات بين الذاكرة الأسطورية والتاريخ وصل إلى حد انزلق إلى قاعها مؤرخون مرموقون كعبد العزيز الدوري الذي يتحدث عن "الجذور التاريخية للشعوبية"، فيتصور جذرها وأصلها في صور الذاكرة التاريخية القديمة، أو كصالح أحمد العلي الذي يعتبرها مؤامرة على الإسلام والعروبة.

3- إيران والعرب بين "التشيّع" و"التسنن":

استغرقت عملية الدخول في الإسلام - في إيران - قروناً من الزمن. وتشير الدراسات التاريخية المتخصصة أن الدخول الجماعي في الإسلام تم بشكل أساسي في القرن الحادي عشر الميلادي (الخامس الهجري) بفضل دعاة الصوفية. وكان قد سبق هذا التحوّل دخول للحرفيين في الإسلام، تمّ في مراكز المدن التي استقر فيها العرب الفاتحون.

أما حول الصورة التي تتكرّر في الذاكرة العربية أو الذاكرة الإيرانية من أن التشيّع المبكّر في إيران كان يتماهى مع موقف قومي فارسي، أو بأن أصل التشيّع فارسي، فإنها صور تحملها روايات في مخيالٍ أسطوري. يقول الشيخ مرتضى مطهري مصححاً هذه الصورة: "إنما تحتمل هذه التهمة فيما إذا كان الشيعة إيرانيين فقط، أو كانت الفرقة الأولى من الشيعة فارسية على الأقل، أو كان الذين أسلموا من الفرس أو أكثرهم - على الأقل - اختاروا مذهب التشيّع من أول الأمر.. بل نرى أن أكثر العلماء المسلمين الإيرانيين في التفسير والحديث والكلام والأدب من السنة لا الشيعة.. وأن هذا الأمر استمر بهم إلى ما قبل الصفوية".

تقاسمت إيران في مرحلة ما قبل الصفوية أسر متنافرةٌ ومتخاصمةٌ على النفوذ وبمعزلٍ، في معظم الأحيان، عن انتماءاتها الدينية - المذهبية. وتقدم الخريطة الدينية - المذهبية لإيران في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي المعطيات التالية: مجموعات واسعة من الشيعة في خراسان ومازندران، ووسط إيران (قم وأراك) وفارس. أما في المناطق - الأطراف: كردستان وخراسان الشرقية وجيلان، فثمة كثافة سكانية سنّية.

غير أن هذا التقسيم الديموغرافي الذي لا توضحه المصادر كثيراً من ناحية الأعداد والتفاصيل، وإن غلبت عليه الأكثرية السكانية السنية، فإنه لا يعكس، حتى عند ظهور الشاه إسماعيل، انقساماً مذهبياً واضحاً على مستوى الاختلاف في مناهج المذهبيات الفقهية والكلامية، وكما نرى على سبيل المثال في الاختلاف في المشرق العربي بين منهجيْ الإمام ابن تيمية في منهاج السنة والعلامّة الحلي في منهاج الكرامة.

لقد كان ثمة عناصر مشتركة تجمع بين التسنّن والتشيّع على مستوى اعتناق العامة للإسلام في إيران، هي عناصر الصوفية المتحررة نسبياً من قيود النظرة الفقهية والكلامية للأمور. ولنلاحظ أن الانتشار الواسع للصوفية في إيران كان أحد أهم مميزات الحياة الروحية طوال ثلاثة قرون فصلت ما بين الغزو المغولي والصعود الصفوي. وإنّ المعاني الأكثر بروزاً في الممارسة الدينية لدى الناس تبدو في ذاك الورع والاحترام حيال شيوخ الطرق الذين يقدّمون نماذج بشرية متعالية في نظام المعايير الخلقية. وتكمن المقالة المركزية في هذه المعتقدات في مماهاة معتقد غيبة الإمام في الإمامية بمفهوم الحضور الدائم لـ "القطب" غير المنظور في فلسفة الصوفية.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن مفكراً صوفياً كابن عربي كان له تأثير كبير على الحياة الروحية في إيران. وقد طال تأثيره المحيط السنّي والمحيط الشيعي معاً. والأمر نفسه يُقال بالنسبة لصاحب فلسفة الإشراق شهاب الدين السهروردي، الذي أثّر في مجال العرفانية الشيعية كما في مجال الصوفية السنية.

ولعلنا إذاً أخذنا بالاعتبار هذا الاختلاط الفكري الذي ميّز الحياة الروحية في إيران قبل انتصار الشاه إسماعيل، نفهم لماذا التبس الأمر على المؤرّخين في تحديد مذهبية الشيخ صفي الدين (توفي 1234م)، صاحب الطريقة الصفوية، فتساءلوا: هل هو سني أم شيعي؟ إننا نعتقد أن ما يفسّر هذا اللبس هو سيادة نمطٍ من ثقافة إسلامية عامة في إيران متعددة المصادر والتعبيرات.

 ولعل أبرز هذه التعبيرات، قبل انتقال الطريقة الصفوية إلى دولة سلطانية، هي جمعها بين التصوّف والإمامية. وفي إطار هذا الجمع، يبدو التساؤل حول مذهبية الطريقة الصفوية أمراً ثانوياً. فالسائد هو نمط من ثقافة إسلامية عامة في إيران لم تحتل فيها الاختلافات الفقهية والكلامية حيّزاً كبيراً.

4 - المشروع السلطاني - الإمبراطوري والمذهبية الواحدة للدولة: وهل كان الصراع العثماني - الصفوي مذهبياً؟
بعد تحوّل الطريقة الصفوية إلى دولة سلطانية (شاهٍ شاهية)، وبعد استيلاء الشاه إسماعيل على مقاليد الحكم واستتباعه الأسر الحاكمة في أطراف إيران، ودخوله في صراع حاد مع جارته الدولة العثمانية، كان لا بد للفرز المذهبي الفقهي والكلامي أن يأخذ مداه في التعبئة والتنظيم، وخطاب التمايز والاختلاف والصراع بين المشروع الصفوي - السلطاني والمشروع العثماني - السلطاني. وكلاهما - أي المشروعان، مشروعان إمبراطوريان، لا بد من أن يكسبا "شرعيتهما" في دار الإسلام، من حمل كل منهما دعوة دينية، على حد تعبير ابن خلدون، دعوة تحقق "التلاحم" و "الاستماتة" و "النعرة" و "الانتظام" داخل كل عصبية مقاتلة.

في هذا السياق من الصراع، تبرز ظاهرتان تاريخيتان كان لهما وقعهما وآثارها في الذاكرة التاريخية عربياً وإيرانياً:

- الأولى: تصاعد فتاوى التكفير المتبادل بين فقهاء المعسكرين: العثماني والصفوي.

- الثانية: إن العديد من علماء الشيعة العرب (من لبنان خاصة)، استقدمهم الشاه إسماعيل وبعده طهماسب، لتشييع إيران، وفي طليعتهم الشيخ نور الدين الكركي (نسبة إلى كرك نوح في البقاع..)، حيث قام هذا الأخير بمهمة شيخة الإسلام في أصفهان، تماثلاً مع مشيخة الإسلام في اسطنبول. ولنتذكر أن بنية الدولة واحدة لدى الطرفين.

وهنا لا بد من تسجيل عدد من الملاحظات التي تحتاج إلى توسيع:

- أثار قيام الدولة الصفوية، كما أثارت آراء الكركي في شرعنة الدولة الصفوية خلافاً فقهياً في أوساط علماء الشيعة، فعارضتها مراجع نجفية، أمثال المرجع إبراهيم القطيقي والأردبيلي.

- كما أثار التحاق عدد من علماء الشيعة في المؤسسة الدينية الرسمية، اعتراض دعاة الاستقلال في المرجعية الشيعية في كل من قم والنجف، وخاصة هذه الأخيرة. وتجلّت هذه الاستقلالية في مناسبات عديدة وفي مواقف كثيرة.

بعد كل هذا، سؤال يطرح نفسه، ما كانت طبيعة الصراع بين الدولتين؟ وهل كانت بالفعل وكما يوحي ظاهر الخطاب، صراعاً سنياً - شيعياً؟

إن الدارس لطرق المواصلات بين الشرق والغرب، والدارس لأهمية التجارة البعيدة بين حوض المتوسط والشرق الأقصى (الصين والهند)، ولموقع الدوائر الثلاث العربية والإيرانية والتركية، والدارس لما تدره هذه التجارة من أرباح ومكوس للدول الواقعة في هذه الدوائر، (ولا سيما الأرباح الناتجة عن تجارة الحرير والتوابل)، لا بد أنه سيدرك، لا الأهمية فحسب، بل سيدرك أن حياة الدول الواقعة في إطار الدوائر الثلاث المشار لها، مرهونة بالسيطرة على طرق المواصلات والقوافل بين الشرق الآسيوي وحوض المتوسط، إنه إدراك لما نسمّيه اليوم "شروط الأمن القومي للدولة"، بمعانيه الشاملة: الجيو - سياسية والأمنية والمالية.

كانت قوافل تجارة الحرير تتخذ الطرقات التالية:

- الطريق الأول: الطريق البري عبر العراق والشام، ومن الشام يُنقل الحرير بحراً إلى أوروباً.

- الطريق الثاني: طريق بحري حيث يُرسل الحرير إلى ميناء هرمز في جنوب الخليج، ومنه إلى المحيط الهندي، إما باتجاه الهند أو باتجاه أوروبا عبر رأس الرجاء الصالح.

- الطريق الثالث: عبر الأراضي الروسية ومنها إلى أوروبا.

وكانت الدولة العثمانية قادرة أن تسيطر على الطريقين الأوّلين، وهما الطريقان الأكثر استخداماً لتصدير حرير إيران، ومن هنا نفهم لماذا تركّز القتال العنيف والشرس بين "الصفويين" و"العثمانيين" بشكل أساسي على بعض مناطق الأناضول "أرضروم - تبريز" وعلى العراق "الموصل - بغداد".وكانت الموصل مثلاً هي المنفذ المهم للوصول إلى الأناضول وكذلك إلى حلب والبحر المتوسط، يضاف إلى ذلك أن الموصل هي أيضاً "منطقة الاتصال بين جبال كردستان الوعرة والسهول والصحارى التي تبدأ من جنوب الموصل وتمتد حتى الخليج.."، ومن هنا قد يكون مفيداً أن يتوقف الباحث عند ملاحظة أحد المؤرخين (أولسن - حصار الموصل) عندما يشير إلى "سعي الفرس للاستيلاء على حلب مدة مئة وسبعة عشر عاماً. ذلك أن الذي يتحكم في حلب وبغداد يتحكم بالنسبة الكبرى من تجارة المحيط الهندي التي تستعمل اليابسة".. وكذلك من المفيد أن نتوقف عند حصار الموصل في العام 1743 للإجابة على سؤال: هل كان الصراع سنياً - شيعياً؟

من المفيد أن نعرف أن الذي قام بالحصار لم يكن صفوياً ولم يكن شيعياً، الذي قام بالحصار هو نادر خان، من قبيلة "الأفشار" السنية، استفاد من ضعف الأسرة الصفوية فقام بانقلاب عليها وأعلن نفسه شاهاً، وقاد العمليات الهادفة إلى السيطرة على مفاصل طرق المواصلات ومحطاتها، ولما فشل عسكرياً، لجأ إلى مشروع توحيدي من شأنه استرضاء الشيعة في إيران والاقتراب من السنية العثمانية، وذلك من خلال الاعتراف بالمذاهب الخمسة.

وعلى كل حال، كان عهده آخر عهود الحروب الدموية بين إيران والدولة العثمانية، ليجري بعده، في العهد "القاجاري" حل مشاكل الحدود والمواصلات والمكوس، عبر المعاهدات والاتفاقات، وكل هذه كان مضمونها مادة الجغرافيا السياسية والاقتصادية، ونسب المكوس والضرائب بين الطرفين، وليس المذاهب ولا الاختلاف في الفقه أو علم أصول الدين.

5- وأخيراً، ماذا عن ولاية الفقيه التي يجري النقاش حولها، منذ الثورة الإسلامية وحتى اليوم.

 لا يتسع المجال للحديث في هذه الإشكالية، من زاوية الدراسة الفقهية، ولكن لا بد من التركيز على عدد من النقاط من زاوية التأريخ للأفكار وزاوية علم الاجتماع الديني والسياسي.

1- لا بد من التفريق داخل الوسط العلماني الشيعي بين قائل من جهة بولاية الفقيه العامة، وهو الاجتهاد الذي أطلقه الإمام الخميني وحسم من خلاله إشكال انتظار ظهور الإمام المهدي لتقوم "الدولة الإسلامية الشرعية"، فحسم هذا الأمر بضرورة نهوض نائب الإمام بهذه المهمة، وبين قائل من جهة ثانية بولاية الفقيه الجزئية التي تفصل بين الولاية السياسية العامة وولاية الحسبة، وتجعل من معيار "الدولة العادلة" في الزمن التاريخي، معياراً للحكم على الدولة الزمنية، رضىً أو معارضةً.

2- الاختلاف بين القولين، وهو اختلاف بين خطين واجتهادين، لم يترجم ولا يترجم على صعيد تمايز قومي بين فقهاء إيرانيين أو فقهاء عرب، فثمة فقهاء إيرانيون لا يؤيدون نظرية الخميني، كما فقهاء عرباً أيّدوا النظرية، لكن السائد في الموقف الفقهي العربي الشيعي، هو عدم الارتباط أو التأييد لمفهوم الولاية العامة. وتمثل المرجعية النجفية، بشكل عام، والتي عبّرت عنها فتاوى الخوئي ثم السيستاني، قاعدة هذا التقليد السائد لدى الشيعة.

3- إن الترويج لنظرية الولاية العامة عربياً، ومن أجل الكسب السياسي، من شأنه أن يثير مشاكل خطيرة في المجتمعات العربية ولا سيما المجتمعات ذات التركيب التعددي الديني والمذهبي، كالعراق ولبنان والبحرين واليمن وبلدان أخرى.