من جلسة افتتاح أعمال الدورة الثالثة للمدرسة الشتويةنظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدورة الثالثة للمدرسة الشتوية في الفترة 4-13 كانون الثاني/ يناير 2022 وكان محورها البحثيّ العامّ "الشعبوية: أنماط ونماذج".

وجرت أعمال الدورة الثالثة على نحو هجين؛ بحضور المشاركين والمحاضرين والمعقّبين عن بُعد، وحضوريًّا، بمقرّ المركز العربي في الدوحة.

وتضمن برنامج الأيام العشرة للمدرسة الشتوية، محاضراتٍ لباحثات وباحثين، من المركز العربي ومن خارجه، متخصّصين في موضوع الشعبوية. وشارك في الدورة 18 باحثًا وباحثة قدّموا أوراقهم البحثية التي تتناول موضوع الشعبوية، بمناقشة تعريفاتها المتداولة، وإنْ كانت كافية لمناقشة نماذجها المختلفة عبر العالم، مع مقارنة هذه النماذج، والأدوات المنهجية لدراسة الشعبوية؛ بما في ذلك المنهجية الكمية التي طُوّرت لقياس التوجّهات والميول الشعبوية.

استُهلّ اليوم الأول بكلمة ترحيبية ألقاها الدكتور محمد المصري، المدير التنفيذي للمركز العربي، أشار فيها إلى مساهمة المدرسة الشتوية في إنتاج معرفة معمّقة ونقدية عن موضوعات مختارة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، فضلًا عن إتاحة الفرصة للباحثين الشباب وطلبة الدكتوراه ليتعرّفوا إلى مقاربات مختلفة تساهم في تعميق المعرفة عن هذه الموضوعات. وعرج المصري على النجاح الذي حققته الدورة الأولى للمدرسة الشتوية حول موضوع الطائفية، والدورة الثانية حول موضوع الدولة وتحوّلاتها. وأشار إلى دور المركز العربي ومساهمته في الإنتاج المعرفي والأكاديمي في المنطقة العربية بصفة خاصة، أو المنتج المعرفي حول العالم العربي، فقد عقد المركز أكثر من مئة وثمانين مؤتمرًا بحثيًا منذ تأسيسه عام 2010، ونشر أكثر من 500 كتاب، ويصدر دوريات علمية محكّمة تغطي سائر حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية، وخصّ بالذكر دورية "المنتقى" التي تترجم وتنشر دراسات علمية محكّمة، مما يُنشر في دوريات المركز ويقدَّم خلال مؤتمراته، من أجل إتاحة المنتج البحثي المعرفي العربي على اختلاف مصادره للباحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانية غير الناطقين باللغة العربية.

ثم قدّم الدكتور عبد الكريم أمنكاي، الأستاذ المساعد في برنامج العلوم السياسية والعلاقات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا، وعضو اللجنة التحضيرية للمدرسة، كلمة أشار فيها إلى سبب اختيار "الشعبوية" موضوعًا للمدرسة الشتوية في دورتها الحالية؛ وذلك انطلاقًا من أهمية المساهمة في اتّجاهات البحث المتنوّعة حوله، فبعد عقودٍ من البحث في سياقَي أميركا الجنوبية وأوروبا، حازت الشعبوية على اهتمام إضافي خلال السنوات القليلة الماضية، لا سيما بعد تصويت بريطانيا على مشروع الانسحاب من الاتّحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتّحدة الأميركية عام 2016، فضلًا عن صعود قيادات سياسية في الهند والبرازيل والفلبين. ولكن، لا تزال دراسة الشعبوية في العالم العربي تعاني فجوةً معرفية، بحسب أمنكاي، فلم تُدرس هذه الظاهرة بعمق في المنطقة العربية أو من جانب الباحثين العرب، ويُعتبر عقد الدورة الحالية للمدرسة الشتوية خطوة مهمّة لمعالجة هذا الخلل.

عزمي بشارة محاضرا: "الشعبوية والأزمة الدائمة للديمقراطية"

ألقى الدكتور عزمي بشارة، المفكر العربي، والمدير العام للمركز العربي محاضرةً تحت عنوان "الشعبوية والأزمة الدائمة للديمقراطية". وبدأها بشارة بإثارة الأسئلة المنهجية المؤسِّسة لفهم "الشعبوية": هل هي تيار سياسي؟ أيديولوجيا؟ خطاب؟ لأنه رأى أن هناك استعمالًا مرسلًا للمصطلح بين بعض من يكتبون عنه. ورأى أن "الشعبوية" ظاهرة خطابية يمكن أن تستعملها تيارات وأيديولوجيات سياسية مختلفة في ظروف معينة في حالة توافر إمكانية لإنتاج مزاجٍ شعبي مؤاتٍ.

واستعرض بشارة الأدبيات التي تناولت ظاهرة الشعبوية في خمسينيات القرن الماضي وستينياته؛ إذ كانت تتناول ظواهر من العالم الثالث، ومنها البلدان العربية. فقد استُخدم مصطلح "الشعبوية" في وصف وتصنيف أنظمة وقادة في أميركا اللاتينية بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما ظاهرة بيرون والبيرونية في الأرجنتين وغيرها، وصولًا إلى هوغو تشافيز في فنزويلا. كما استُخدم المصطلح في الماضي في وصف قادة أنظمة عربية سلطوية وخطابهم السياسي، وفي وصف بعض الأحزاب العربية التي هيمنت في خمسينيات القرن الماضي وستينياته على المجال السياسي في المشرق العربي. وبعد ذلك، ندر استخدام المصطلح بعد أن تجاوزت سلطوية هذه الأنظمة وسياساتها حدود الشعبوية، ولم يعد المصطلح يفي بالغرض.

وأشار بشارة أيضًا إلى أنّ ما يُعدُّ أزمةً تمر بها الديمقراطية الليبرالية مع انتشار الشعبوية اليمينية في الغرب ليس ظاهرة جديدة كليًا، بل هي من تجليات ما يمكن تسميتها "أزمة دائمة للديمقراطية" في ظروف جديدة. وغالبًا ما كانت هذه الأزمات محركًا لتطور النظام الديمقراطي الليبرالي. وتتمثل عناصر هذه الأزمة الدائمة في ثلاثة توترات بنيوية: الأول، وهو الأهم بينها، التوتر بين البعد الديمقراطي المتعلق بالمشاركة الشعبية القائمة على افتراض المساواة الأخلاقية بين البشر، وافتراض المساواة في القدرة على تمييز مصلحتهم، التي تقوم عليها المساواة السياسية بينهم، ويقوم عليها أيضًا حقهم في تقرير مصيرهم؛ وبين البعد الليبرالي الذي يقوم على مبدأ الحرية المتمثلة في الحقوق والحريات المدنية، وصون حرية الإنسان وكرامته وملكيته الخاصة من تعسّف الدولة، ويتعلق بتحديد سلطات الدولة. والتوتر الثاني هو داخل البعد الديمقراطي ذاته بين فكرة حكم الشعب لذاته من جهة، وضرورة تمثيله في المجتمعات الكبيرة والمركبة عبر قوى سياسية منظمة ونخب سياسية تتولى المهمات المعقدة لإدارة الدولة عبر جهازها البيروقراطي، من جهة أخرى. أما التوتر الثالث فهو بين مبدأ التمثيل بالانتخابات الذي يقود إلى اتخاذ قرارات بأغلبية ممثلي الشعب المنتخبين، أو بأصوات ممثلي الأغلبية من جهة، ووجود قوى ومؤسسات غير منتخبة ذات تأثير في صنع القرار، أو تعديله، وحتى عرقلته مثل الجهاز القضائي والأجهزة البيروقراطية المختلفة للدولة، من جهة أخرى. وفي هذا السياق، رأى بشارة، أن الديمقراطية الليبرالية سوف تعيش دائمًا هذا التوتر بين مبادئ الليبراليّة التي تُعنى بحماية الحقوق والحريات الفردية، والمشاركة الشعبيّة الواسعة، والتي قد ينجم عنها انتشار سياسات الهوية، ومخاطبة الغرائز، وكذلك نشوء تيارات تخوض غمار العمل السياسي من منطلقات معادية للسياسة والمؤسسات السياسية والنخب القائمة، وأخطرها تلك التي تأتي في صورة يمين شعبوي غير تقليدي.

الشعبوية عربيًا

انتقل بشارة في القسم الثاني من المحاضرة إلى بحث ظاهرة الشعبوية وعلاقتها بالديمقراطية في السياق العربي، مستعرضًا حالتين، الأولى شهدت فشلًا في الانتقال الديمقراطي (مصر)، والثانية شهدت نجاحًا له (تونس) ثم شهدت تعثرًا حقيقيًا، الذي لم يكن تعثرًا في عملية الانتقال، بل للنظام الديمقراطي نفسه. ففي حالة مصر، رأى بشارة أن أحدًا لم يصف ما يجري بأنه "حالة شعبوية"، على الرغم من الاستقطاب العلماني - الإسلامي، وعدم قدرة المعارضة على الإجماع على الانتقال الديمقراطي، وتفضيل مكوناتها الصراع السياسي على إنجاح الانتقال الديمقراطي، واستعداد كل طرف من أطراف الصراع للتحالف مع الجيش للانتصار على الطرف الآخر؛ ما أعاد الفرصة إلى الجيش للتدخل في السياسة. صحيح أن جميع الأطراف المتنازعة تقريبًا استخدمت خطابًا شعبويًا بمعنى الديماغوغيا، لكن لم تكن ثمة ظاهرة شعبوية متميزة قائمة في ذاتها؛ فلم يُستعمَل مصطلح "الشعبوية" في توصيف هذه الحالة.

أما في الحالة التونسية، فأشار بشارة إلى أنه على خلفية الديمقراطية هناك ظاهرة شعبوية قائمة في ذاتها، كما أشار إلى أنه يصح استعمال مصطلح "الشعبوية" لوصف ظاهرة تونسية تتمثل في رئيس منتخب ديمقراطيًا، يستخدم خطابًا شعبويًا، في مقابل البرلمان المنتخب. وفي هذا السياق، حدد بشارة أن ما تشهده تونس ظاهرة شعبوية قائمة في ذاتها؛ فبعد عشر سنوات، لم تنجح القوى الحاكمة فيها في إنجاح برنامج اقتصادي يجسّر الهوة الاجتماعية بين الطبقات الغنية والفقيرة، ومعالجة ارتفاع معدلات البطالة. وبعد انتخابات برلمانية قدّمت مشهدًا متكررًا من التشظي الحزبي، نفرَ الناس من الأحزاب ومن النخبة السياسية. ورأى أنه وسط كل هذه الظروف، ترشّح قيس سعيّد كمرشح غير معروف لا يمتلك ماضيًا سياسيًا؛ أي إنه انتُخب "لما ليس فيه، وليس لِما فيه". ووفق بشارة، استخدم الرئيس التونسي خطابًا شعبويًا مضمونه "الشعب ضد النخب"، و"البرلمان سيء، ونريد ديمقراطية مباشرة/ قاعِدية"، و"توجد مؤامرة من السياسيين ورجال الأعمال" و"المعارض خائن وهو ضد الشعب"، وهو - بحسب بشارة - درس كلاسيكي في مفهوم الشعبوية، والخطاب التبسيطي، واتهام النخب بالفساد وغير ذلك.

وفي سياق الحديث عن الشعبوية وأزمة الديمقراطية، رأى بشارة أن الشعبوية في الديمقراطيات الراسخة/ التاريخية غالبًا ما تكون عنصرًا مساعدًا في تطوير الديمقراطية، على عكس الشعبوية في الديمقراطيات الناشئة/ الوليدة التي تشكل خطرًا عليها، وبخاصة في ظل عدم تعود الشعب على القيم الديمقراطية، وعدم التزام المؤسسات بالديمقراطية، لا سيما المؤسسات غير المنتخبة مثل الجيش والقضاء، حينها تصبح الشعبوية خطرًا حقيقيًا على الديمقراطية، مثلما حدث في دول عدة أهمها ألمانيا وإيطاليا.


*اقرأ تفاصيل أعمال الدورة الثالثة للمدرسة الشتوية: