العنوان هنا
تقدير موقف 14 أغسطس ، 2016

تداعيات إقالة حكومة الصيد وفرص نجاح خليفتها

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

في جلسة خصصت للتصويت على الثقة في الحكومة في 30 تموز\يوليو 2016، حجب البرلمان التونسي الثقة عن حكومة رئيس الوزراء الحبيب الصيد، بعد تسعة عشر شهرًا قضتها في الحكم، وكلّف الرئيس الباجي قائد السبسي وزيرَ الشؤون المحلية في الحكومة المستقيلة، يوسف الشاهد، بتشكيل حكومة جديدة.

سقوط الحكومة السادسة

منذ الثورة التونسية التي أطلقت موجة التغيير في المنطقة العربية، توالت على حكم تونس 6 حكومات: حكومتان محسوبتان على النظام القديم قبل أول انتخابات حرة أواخر عام 2011، وحكومتان تزعمتهما حركة النهضة بناء على نتائج الانتخابات التي ظهرت في صناديق الاقتراع، وحكومة تكنوقراط توافقت عليها القوى السياسية بعد تخلي النهضة عن رئاسة الحكومة، وحكومة أفرزتها الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014، وهي حكومة الحبيب الصيد.

جاء تعيين الصيد على رأس الحكومة في شباط / فبراير 2015، ضمن اتفاق بين حركة نداء تونس (الفائزة في انتخابات 2014) وحركة النهضة (الحزب الثاني في البرلمان بــ 69 مقعدًا من أصل 217)، مرفودًا بغطاء سياسي كبير (النداء، والنهضة، والوطني الحر، وآفاق تونس)، ومباركة برلمانية واسعة (166 صوتًا في مقابل 30 ضد وامتناع 8 عن التصويت). كما جدد البرلمان ثقته في التعديل الذي أجراه الصيد على حكومته في كانون الثاني / يناير 2016.

لم تعرف حكومة بعد الثورة ما عرفته حكومة الحبيب الصيد الثانية (وهي خليط من سياسيين ومستقلين وتكنوقراط) من قبول واسع داخل المجتمع السياسي والمدني، بحكم الوضع الدقيق أمنيًا واجتماعيًا الذي جاءت فيه، وأخذها على نفسها القيام بإصلاحات كبرى والتصدي لظاهرتي الإرهاب والفوضى.

ولكن بعد أقل من خمسة أشهر فقط من تشكيل حكومة الصيد، بدأ الحديث في دوائر الحزب الحاكم وأوساط مقربة من الرئاسة يدور حول ضرورة استبدال الصيد بشخصية حزبية تنتمي إلى نداء تونس. وحسم الرئيس السبسي هذا الجدل بإطلاق "مبادرة حكومة الوحدة الوطنية"، يوم 2 حزيران / يونيو 2016، تنبثق من حوار وطني بين الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة والشخصيات الوطنية.

خلفيات إطاحة الصيد

جمع الرئيس السبسي في قصر قرطاج تسعة أحزاب سياسية وثلاث منظمات وطنية (اتحاد الشغالين، والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية) للحوار حول تغيير الحكومة ووضع تصور/ إعلان مبادئ تلتزمه الحكومة المقبلة، عُرف بــاسم "وثيقة قرطاج"، وقعها المشاركون في الحوار في 13 تموز/ يوليو 2016، ووافقوا بذلك صراحة على ضرورة قيام حكومة جديدة تسعى لتطبيق ما جاء في تلك الوثيقة من أولويات.

فُهمت الوثيقة على نطاق واسع بأنها رد مباشر على رفض الحبيب الصيد الاستقالة التي طُلب منه تقديمها بصورة غير مباشرة في البداية، ثمّ بضغط بعض القوى السياسية عليه، كما صرح هو نفسه في حوار تلفزيوني، قبل أن تبدأ وسائل إعلام بشن حملة كبيرة على حكومته في تناغم مع المواقف السياسية للأطراف الحاكمة[1].

وقد أثارت إطاحة حكومة الصيد، من القوى السياسية نفسها التي جاءت بها، أسئلة عديدة في الشارع التونسي، نظرًا للإنجازات التي حققتها حكومته خاصة على الصعيد الأمني.

وقد علّل الصيد مقاومته الضغوط لتقديم الاستقالة في خطاب طلب تجديد الثقة من البرلمان (30 تموز/ يوليو 2016) بأنّ مسؤولية الفشل (إن وُجد) لا يتحملها وحده، بل هي مسؤولية جماعية تشمل الأحزاب الممثلة في الحكم والرئاسة والبرلمان والمنظمات الاجتماعية، أمّا الاستقالة فهي إقرار بتحمله وحده المسؤولية.

وقد لوحظ، في جلسة حجب الثقة عن حكومة الصيد، ظهور ما يشبه الإجماع على التنويه بما حققته الحكومة خاصة في ملف مكافحة الإرهاب والمسألة الأمنية عمومًا، مع أنّ النواب اختاروا في الوقت نفسه حجب الثقة عن الحكومة.

حاول رئيس الجمهورية، من خلال مقترح تشكيل حكومة وحدة وطنية، استعادة المبادرة في ضوء تمسك الصيد بصلاحياته الدستورية. وهو ما زاد المشهد السياسي تعقيدًا، إذ ظهر وكأنّ هناك حربًا بين رأسي السلطة التنفيذية حول تأويل صلاحيات كل منهما. وهو أمر يحصل أول مرة في تونس.

مع ذلك، فإنّ إقالة الصيد قد تكون أتت بعكس نتائجها، إذ تعزز الانطباع لدى الشارع التونسي بأنّ الرئاسة تحاول تركيز السلطات بيدها، والخلف الذي اختير للصيد يساعد على الوصول إلى هذه النتيجة، ما يعني إعادة الفرز في الشارع التونسي إلى مربعات مطالب الثورة في 2011.

من جهة ثانية، يجري طرح السؤال عما تستطيع الحكومة القادمة القيام به وعجزت الحكومة الراحلة عنه، لا سيما أنه لم يبق من المدة النيابية إلّا نصفها. ويبدو أنّ أهم سببين ساهما في تحمل الرئيس السبسي مسؤولية المخاطرة بإقالة حكومة الصيد، مع ما يمكن أن تجرّه من إرباك للوضع السياسي، هما:

  • أنّ الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي تمرّ به البلاد في وضع دولي وإقليمي صعب لا يمكن أن تتحمل تبعاته قوى سياسية واجتماعية ومدنية دون أخرى. وهو وضع سوف يزداد صعوبة خلال الفترة المقبلة، ومن ثمّ فقد أراد الرئيس على ما يبدو بمبادرة حكومة الوحدة الوطنية إشراك جميع القوى السياسية اتحاد الشغالين، والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية ومنظمات المجتمع المدني في تحمل مسؤولية إدارة الأزمة الخانقة المرتقبة، سواء عبر المشاركة في الحكم، أو المعارضة ضمن سقف وثيقة قرطاج، أو المحافظة على حد أدنى من السلم الاجتماعي يسمح باتخاذ إصلاحات مؤلمة وغير شعبية.
  • أنّ وضع حزب الرئيس (نداء تونس) وما يشهده من صراعات عميقة لا يبعث على الاطمئنان بخصوص مستقبل مكوناته السياسية (جزء من النظام السابق/ قاعدته الانتخابية التي رأت فيه موازنًا لقوى الإسلام السياسي)؛ والاجتماعية (العائلات العريقة لمدينة تونس، وهي التي مثّلت على مدى قرون عصب الحكم القائم)؛ والاقتصادية (شبكة المصالح المالية ورجال الأعمال) أمام قوة حركة النهضة وتماسكها من جهة، وجزء من لوبيات الحكم من "السواحلية" (سكان الولايات الساحلية: سوسة، والمنستير، والمهدية) من جهة أخرى. لذلك يرى المراقبون أنّ السبسي سعى إلى المبادرة لترتيب البيت الداخلي لحزب النداء وإعداد من يقرّ له بالولاء للمهمات المقبلة (الانتخابات الرئاسية). ولعل قوة شخصية الحبيب كانت من أسباب تغييره.

وقد ظهرت بوادر صراع خفي بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة من جهة، وبين الحبيب الصيد ونداء تونس من جهة أخرى. كما تركت الأزمات الداخلية التي شهدها النداء أثرها في العلاقة بين الطرفين، وخاصة بعد مغادرة المدير السابق لديوان رئيس الجمهورية رضا بالحاج منصبه القيادي في الحزب، وهو المعروف بقربه من الصيد.

تكليف الشاهد

اتفق المشاركون في حوار قرطاج على أن تشتمل مبادرة رئيس الجمهورية على ثلاث مراحل: الاتفاق على وثيقة أولويات الحكومة القادمة، وضبط مواصفات الشخصية التي سيناط بعهدتها تشكيل الحكومة واقتراح أسماء بذلك، وتشكيل الحكومة ونيلها الثقة في البرلمان.

لكن الرئيس السبسي فاجأ البعض بتكليفه، بعد 48 ساعة فقط من توقيع وثيقة قرطاج، وزير الشؤون المحلية في الحكومة المقالة يوسف الشاهد بتشكيل الحكومة الجديدة. فمن هو يوسف الشاهد؟ وكيف كان تفاعل القوى السياسية المختلفة مع ذلك التعيين؟

تخصص الشاهد (41 عامًا) في مجال الفلاحة والأمن الغذائي في جامعات غربية مرموقة، وهو خبير لدى العديد من الوكالات العالمية (ساهم في تخطيط سياسات التعاون الفلاحي بين تونس والولايات المتحدة الأميركية). ولم يُعرَف عنه نشاط سياسي قبل الثورة، ومن ثمّ فلا يمكن اتهامه بالانتماء إلى النظام القديم. شغل بعد انتخابات 2014 وظيفة كاتب دولة للصيد البحري، قبل أن يصبح وزيرًا للشؤون المحلية منذ كانون الثاني/ يناير 2016.

لكنّ الشاهد الذي تربطه بالرئيس السبسي صلة نسب، يجعل منه إلى جانب ابن الرئيس الذي يشغل منصب المسؤول الأول عن حزب نداء تونس، وصهر الرئيس الذي يشغل منصب مدير ديوانه، جزءًا من مربع عائلة الرئيس، وهو ما كلّفه معارضة شديدة من أربعة أحزاب من تسعة وافقت على وثيقة قرطاج (المسار، والجمهوري، والشعب، ومشروع تونس)، إضافة إلى اتحاد الشغالين.

فرص نجاح الشاهد

وعلى الرغم من الصورة السلبية التي تركها قربه من عائلة الرئيس على قرار تكليفه في ذهن الشارع التونسي، وهي صورة تستثمر فيها قوى مختلفة في المعارضة، فإنّ الشاهد يؤكد أنه يستند إلى دعم الشيخين (السبسي والغنوشي)، وبناء عليه، فهو ماض في تشكيل حكومته في الآجال التي يحددها الدستور والعمل على توفير أوسع توافق ممكن حولها، غير أنّ المراقبين لا يتوقعون أن يشارك فيها (إضافة إلى رباعي الحكومة السابقة) سوى حزب المبادرة الذي يرأسه كمال مرجان آخر وزير خارجية في عهد بن علي. كما لا يُتوقَّعُ حصوله على هدنة بمجرد تشكيل حكومته (بدأت الجبهة الشعبية والمركزية النقابية ترفعان الصوت المعارض من الآن). كما أنّ المناخ الاقتصادي الذي ستبدأ حكومته العمل فيه يبدو شديد الصعوبة، بسبب تراجع مؤشرات التنمية وتنامي معدلات البطالة وغلاء المعيشة، في مقابل انهيار مداخيل السياحة وتوقف الإنتاج في عديد القطاعات.

وتنتظر الحكومة الجديدة تحديات وملفات ساخنة عديدة لمعالجتها، وعلى رأسها التزامات مالية دولية ضاغطة (تسديد فوائض الديون، وضرورة اتّخاذ إجراءات عاجلة بخصوص التوظيف العمومي والتضخم والميزانية ... إلخ)، ومدى القدرة (في المدى المتوسط) على مواصلة الدولة الاضطلاع بدورها في تحسين الأجور أو في الضمان الصحي أو في التعليم ... إلخ. كما أنّ الاتحاد العام التونسي للشغل عبّر عن رفضه المشاركة في حكومة الشاهد وإعطاء صك على بياض لحكومته، ومن ثمّ فسيزيد من ممارسة الضغط عليه لتحصيل امتيازات جديدة في ضوء مؤتمره المقبل (نهاية 2016)، وهو ما سيزيد من إرباك الدولة واستدامة عجزها. وقد رفضت الجبهة الشعبية الاجتماع بالشاهد، في إطار مشاورات تشكيل الحكومة، رافضة توجهاته الليبرالية؛ مع أنّ المعارضة البرلمانية الديمقراطية ترفض المشاركة في الحكومة، ولكن لا ترفض المشاركة في مشاورات تشكيلها. أمّا حركة النهضة الداعمة لتكليفه فقد استشعرت "خطر" فشل مبادرة حكومة الوحدة الوطنية، وأعلنت (عبر قياديي مجلس الشورى، وأكده رئيس الحركة لاحقًا) أنها تدعم الشاهد، ولكنها لن ترضى بوجود رمزي في حكومته، وبناء عليه فإنّ عدم مشاركتها في الحكومة المقبلة يبقى احتمالًا واردًا.

خاتمة

يعطي الدستور التونسي رئيس الحكومة المكلف مهلة تستمر حتى الثالث من أيلول / سبتمبر المقبل لتقديم تشكيلته الحكومية إلى البرلمان لطلب الثقة. وستكون وفق كل المعطيات حكومة سياسية بامتياز، ولكن من دون محاصصة حزبية، وتتشكل من كفاءات وخبرات مع حضور مكثف للشباب والنساء (بحسب الشاهد نفسه). وهي معادلة صعبة استطاع الوزير المكلف عبر عمل تواصلي ناجح في تحييد اعتراضات عدد كبير من الفاعلين في الساحة حتى الآن، في انتظار أن يقدّم تشكيلته الحكومية. بعد ذلك سيتعيّن على الشاهد وحكومته مواجهة تحديات كبرى، جرى تكليفه أصلًا للتعامل معها. وسيترتب عليه أن يقدّم كل ما لديه لمواجهتها، لأنّ الفشل سيكون أثره كبيرًا جدًا في تونس وتجربتها الديمقراطية الغضة.


[1] انظر: زياد كريشان، "إلى السيد الحبيب الصيد: التشبث بعدم الاستقالة مضرّ بالمصلحة الوطنية"، صحيفة المغرب، 15/7/2016، شوهد في 14/8/2016، في: http://bit.ly/2brolwG