شهد العالم منذ مطلع العقد الحالي سلسلة من الأحداث المتتالية التي ألقت بثقلها على مفاصل اقتصادية حرجة، وفي إثر ذلك استعدت مجموعة واسعة من دول العالم لاتخاذ إجراءات وتدابير لم تكن لتتخذها في ظروف أقل وطأةً وحدّة. وربما كانت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) هي التي أطلقت شرارة الصراع بين السياسات المالية التوسعية التي جاءت في الأساس لاحتواء الآثار الاجتماعية والاقتصادية التي صاحبت التدابير الاحترازية والاحتوائية للجائحة، وبين السياسات النقدية التي جاءت لاحقًا للتعامل مع الضغوط التضخمية التي تمخضت عن هذه السياسات التوسعية التي كانت السياسة النقدية ذاتها جزءًا منها في بدايات الجائحة. وفي هذه الأثناء، جاءت الاضطرابات الجيوسياسية والحروب المستعرة لتزيد وضع الاقتصاد العالمي تعقيدًا، على النحو الذي أصبحت فيه السياسات الاحتوائية جزءًا من المشكلة أكثر من أن تكون هي الحل.
ربما أخطر ما تمخّض عن كل هذه الإرهاصات هو ارتفاع المديونية العامة للحكومات، بوتيرة لم يشهدها العالم منذ عقود. فخلال الفترة بين عام 2019، أي العام الذي سبق الجائحة، وعام 2023، ارتفع صافي الدّين العام لدول العالم كلها بنحو الثُلث؛ من 74 تريليون دولار أميركي إلى نحو 97 تريليونًا، ليشكّل حاليًا نحو 94 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وتزامنت هذه الزيادة الملحوظة في الدّين العام مع خوض الدول المتقدمة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، حربًا ضروسًا ضد التضخم وبالسلاح المعهود وهو سعر الفائدة؛ ما جعل السنوات القليلة الماضية تحمل أعباءً مضاعفة لمجموعة واسعة من دول العالم، تمثّلت في ارتفاعات قياسية في حجم الدّين العام، مقترنة بتكاليف مرتفعة للتمويل. وفي هذا الإطار، كانت الدول النامية الأشد تأثرًا بهذه الدينامية، مدفوعةً بشهية (أو حاجة) أكبر إلى الاقتراض. فالدّين العام للدول الآسيوية ارتفع بنحو 57 في المئة، ولدول أميركا اللاتينية بنحو 67 في المئة، في حين تضاعف تمامًا في القارة الأفريقية.
وبلا شك، ستكون تداعيات هذه الشهية المفرطة للاقتراض عميقة وممتدة إلى غالبية الدول، ولا سيما الدول النامية. فخدمة الدّين العام أصبحت تستحوذ على جانب لا يستهان به من إيراداتها العامة، وهو ما سيجعلها تُزاحم الإنفاق على مجالات تُشكّل أولوية ملحّة لها، كالتعليم والصحة وتطوير البنى التحتية وبرامج الحماية الاجتماعية التي أصبحت أكثر أولوية مع اشتداد الخناق على الشباب الذين يصطف عدد كبير منهم في طوابير الباحثين عن عمل، فضلًا عن دورها في الحد من الإنفاق العام الذي يُعدّ حاسمًا في تحفيز الطلب المحلي في العديد من الدول.
في مقابل ذلك، تجد الدول لنفسها متسعًا للتغاضي عن الحاجة الملحّة إلى احتواء مستويات الدّين العام عندما تحتكم إلى المؤشرات التي ابتكرتها المؤسسات الدولية في سبيل الدلالة على عبء الدّين العام ومخاطره، حتى أصبحت المؤشرات ذاتها مكمنًا للخطر، لا كاشفًا عنه. ولعل أبرز هذه المؤشرات وأكثرها استرشادًا هو النسبة التي يشكّلها الدّين العام من الناتج المحلي الإجمالي، التي لطالما مثّلت العامل الحاسم لدى راسمي السياسات وصانعيها لتقدير حجم المخاطر والأعباء التي تكتنف بلدانهم، إلا أن هذا المؤشر لم يسعف غالبية الدول التي تعرضت لأزمات اقتصادية خانقة مرتبطة بالدّين العام لإدراك حدة المخاطر التي تكتنفها.
ليست المعضلة الأساسية المحيطة بهذا المؤشر مرتبطة بمفهوم الناتج المحلي والجدل التاريخي حول مدى ملاءمته للتعبير عن قوة الاقتصاد والرفاه وما إلى ذلك، لكنها مرتبطة في الأساس بقدرة السياسة المالية على التفاعل معه على نحو يجعله أساسًا لتقدير عبء الدين العام ومخاطره. فهل الناتج المحلي يعبّر على النحو الكافي عن قدرة الدول (الحكومات) على تسديد التزاماتها تجاه الدائنين؟ وهل هذه القدرة متساوية بين مختلف الدول؟ الإجابة السريعة والحاسمة عن هذا التساؤل هي لا؛ فقدرات الدول في هذه المسألة متباينة جدًا، ومرتبطة بالتباين في هيكلية الاقتصاد والاعتبارات التنظيمية والمؤسسية التي تؤدي دورًا حاسمًا في تحديد قدرة الدول على حصد الإيرادات العامة من ناتجها المحلي، وربما الأهم من كل ذلك مستويات مداخيل الأفراد التي تحدد مدى قدرتهم على الاستغناء عن جانب منها لتمويل الإنفاق العام، وتصبح أكثر تعقيدًا من الناحيتين السياسية والاجتماعية عندما لا يرتبط ذلك بتحسن الخدمات العامة والاجتماعية التي يتلقونها. وبحكم الخاصية المشتركة، إلى حد بعيد، لدى الدول المتقدمة، والمتمثلة في ارتفاع نسبة الإيرادات العامة من الناتج المحلي الإجمالي فيها، فإن الأخير يقدّم تفسيرًا أفضل للقدرات المالية وقدرة الحكومات على تسديد التزاماتها مقارنة بغالبية الدول النامية التي تشكّل فيها الإيرادات العامة نسبًا متواضعة من ناتجها المحلي. وهذا التباين قد ينسحب على الدول المتقدمة والنامية فيما بينها؛ ما يجعل الاستناد إلى الناتج المحلي الإجمالي دلالةً على عبء الدّين والقدرة على سداده محلًا للشك. وتثار كذلك تساؤلات كثيرة حول منهجية تقدير الناتج المحلي الإجمالي والمغالاة التي قد تلجأ إليها بعض الدول، لا سيما الدول النامية التي تضعُف فيها أطر الحوكمة، سعيًا منها لتجميل واقعها الاقتصادي لغايات مختلفة، من بينها إظهار وضعية الدّين العام على نحو أقل عبئًا وخطورة.
ربما حان الوقت الآن لتنحية هذا المؤشر جانبًا وغيره من المؤشرات المتوارثة التي فقدت دلالاتها، والتفكير في مؤشرات ذات دلالة اقتصادية ومالية أفضل. وعندما يتعلق الأمر بالقدرة على السداد والعبء الاقتصادي المترتب على الدّين العام، فقد يستوجب الأمر التفكير في مؤشرات ذات ارتباط مباشر وصريح بالموازنات العامة للدول، كالنسبة التي تشكّلها مدفوعات الفوائد على الدّين العام من الإيرادات العامة؛ فارتفاعها يشير حتمًا إلى مزاحمتها بقية الأولويات الإنفاقية للدول، وقدرة أقل على السداد، خصوصًا عندما يكون هامش المزاحمة هذا مقيدًا. وتزداد دلالة هذا المؤشر، إذا تزامن مع عجز كلي متنامٍ في موازنات أيّ من الدول، على اعتبار أنها تخطو مسارًا تصاعديًا في مستويات دينها العام. ويشير ارتفاعها أيضًا إلى تراجع قدرة السياسة المالية على القيام بدور فعال في التأثير في الطلب الكلي والتوسع في النفقات الرأسمالية؛ وهو ما يعني ضمنيًا تثبيط آفاق النمو الاقتصادي. عالميًا، ارتفعت النسبة التي تشكّلها مدفوعات فوائد الدّين العام من الإيرادات العامة من 6 في المئة في عام 2010 إلى نحو 8.2 في عام 2023، وهو ارتفاع لافت له تداعياته المتشعبة على الاقتصاد العالمي. ومما يعزز من قيمة الدلالات التي يحملها هذا المؤشر أن غالبية الدول التي تعرّضت لهزات اقتصادية ذات صلة بدينها العام كانت تشهد ارتفاعًا مطّردًا في النسبة التي تشكّلها مدفوعات الفوائد من إيراداتها العامة. فعلى سبيل المثال، تجاوزت مدفوعات الدين العام في اليونان 17 في المئة من إيراداتها العامة، وعلى نحو أكثر حدة في مصر حيث تجاوزت 40 في المئة من إيراداتها العامة.
اليوم، يجب على المنظومة العالمية النظر إلى استقرار الدّين العام العالمي على أنه سلعة عامة يجب ضمانها، تمامًا كالحفاظ على استقرار المناخ العالمي؛ فانفلات الدّين العام ستكون عواقبه وخيمة على دول العالم قاطبةً. وللحيلولة دون ذلك، يجب إعادة النظر في كل المؤشرات الاستدلالية المرتبطة بالدّين العام ومخاطره وأعبائه، والتخلي عن كل ما هو تجميلي محض.
وتستوجب الأسباب الكامنة وراء ارتفاع مستويات الدّين العام، وتكلفة خدمته، كذلك تحمّل الدول المتقدمة لمسؤولياتها تجاه الدول النامية التي تحمّلت أعباء إشكاليات اقتصادية ليست مسؤولة عنها؛ فقد كان عليها الخضوع لمعطيات أسواق المال العالمية وتحمّل أسعار فوائد مرتفعة جاءت نتاج السياسات الاحتوائية التي انتهجتها هذه الدول المتقدمة.